حرب "فتح الإسلام" ومخاوف الانفجار الشامل
علي حسين باكير
بدا واضحاً منذ اليوم الأول من المواجهة بين الجيش اللبناني ومجموعة "فتح الإسلام"، أن هناك لبسا كبيرا في الموضوع، وهناك نيّة لخلط واضح بين مسألة "فتح الإسلام" وبين الموضوعين الفلسطيني والإسلامي.
وتتحمل وسائل الإعلام، ومعها المحللون، مسئولية كبيرة في هذا الانزلاق، وحتى طريقة تغطية وسائل الإعلام لهذا الموضوع وللمواجهات الحاصلة.
البعض آثر حمل الموضوع وتجييره باتّجاه الفلسطينيين اللاجئين في لبنان لتحميلهم مسئولية ما يجري. وقد بدأ القصف السياسي والإعلامي باتجاه الفلسطينيين منذ اليوم الأول دون مراعاة المعلومات التي بحوزته. فعلى أي أساس يتم تصنيف "فتح الإسلام" على أنها جماعة فلسطينية, علما أن نسبة من هو منضم لها من الفلسطينيين، لا يتجاوز وفق للأرقام المتوفرة حاليا عن 3%، مع الأخذ بعين الاعتبار أنه ليس من بين الذين قتلوا في المواجهات التي حصلت مع الجيش خلال الأيام القليلة الماضية، أي فلسطيني على الإطلاق.
موضوع اللاجئين الفلسطينيين في لبنان له حساسية كبيرة جدا، خاصة في إطار التوزيع الطائفي، إذ إن هناك جزءا كبيرا من المسيحيين ناقم على هذا الوجود، ويلقي بكل اللوم عليه، لأنه يشكّل هدفا سهلا للقصف الإعلامي والسياسي، وليس له أي غطاء إقليمي أو دولي. وهناك أيضا جزء كبير من الشيعة، يرى في الوجود الفلسطيني خطرا ديموغرافيا، يشكّل خللا في التوازن الطائفي، من شأنه أن يهدد موقع الطائفة الشيعية، سيما وأن الفلسطينيين محسوبون على السنّة في لبنان.
انطلاقا من هذه المعطيات, قام "العماد عون" باستغلال المواجهة بين الجيش و"فتح الإسلام"، ليلقي اللوم على الفلسطينيين ويحمّلهم المسئولية الكاملة, والهدف استغلال حساسية هذا الوضع في الإطار المسيحي والشيعي، على أمل أن يفيده ذلك في مراحل الاستحقاق القادمة، سيما الانتخابات الرئاسية.
وذهب البعض، مثل المحلل والأستاذ "سجعان قزي"، أبعد من موقف عون، ليخلط ضمن الإطار الفلسطيني نفسه, فيصنف هذه الجماعة على أنها تابعة للأصوليات، ويضعها في سياق مجموعات، مثل "حماس" و"الجهاد" والمجموعات الفلسطينية المقاومة الأخرى. وهذا خلط لا يمكن أن يمر تحت إطار الجهل أو قلّة المعرفة، بالنسبة لمحلل بمستوى الأستاذ "سجعان قزي".
هذه المجموعة المسمى "فتح الإسلام"، لا علاقة بالواقع الفلسطيني، لا من حيث تركيبتها وعددها، ولا من حيث تمويلها وتسليحها، ولا من حيث أهدافها التي ترتبط باستحقاقات لبنانية داخلية.
الفلسطينيون بكافة فصائلهم وتشكيلاتهم وأجنحتهم أكّدوا على أن لا علاقة لهم لا من قريب ولا من بعيد بهذه المجموعة وأهدافها وأجندتها الخارجية, وهذا موقف صريح وواضح ولا لبس فيه أبدا, كما أبدوا استعداداهم التعاون مع السلطات الشرعية اللبنانية والجيش على أعلى المستويات للقضاء على هذه الظاهرة, فما هو المطلوب منهم أكثر من ذلك؟ لماذا يستمر الحشد باتّجاه الفلسطينيين من قبل فئات سياسية معينة ومعروفة؟!
ينسى عون وغيره أن الفلسطينيين الذين يعيشون حالة مزرية جدا في لبنان لا تتناسب مع وضع بعض الإسطبلات والمزارع في دول أخرى ـ ولا أبالغ هنا مطلقا ـ قدّموا كل ما لديه،م وفتحوا ما أمكن لهم من بيوتهم ومنازلهم لأشقائهم اللبنانيين إثر العدوان الإسرائيلي الأخير.
وينسى عون طبعا ومن يريد التحريض ضدّ الفلسطينيين، أنهم كانوا أول من هرع إلى مساعدة الجيش اللبناني في لملمة شهدائه وجرحاه، إثر القصف الإسرائيلي الأخير قرب البدّاوي, فلماذا يتم التعامل معهم بهذه الطريقة؟!
استغلال هذا الحدث في عملية التأليب ضدّ الوجود الفلسطيني في لبنان وضدّ المخيمات، قد يوسع من إطار المعركة في سياق خاطئ لهدف آخر, وهنا سنقع حتما في ورطة كبيرة، وسيحقق ذلك أهداف الجهة السياسية التي أرادت ضرب المؤسسة اللبنانية الوحيدة الباقية بشكلها المتماسك حاليا، ويزج بها في مواجهات خاطئة. الفلسطيني أيضا عندما يتم الشحن ضدّه إعلاميا، وعندما يتهم بأنه مسئول عمّا يجري، وهو ليس كذلك، قد يصل به الوضع إلى حالة يرى بعدها أنه مظلوم في جميع الأحوال, وعندها فهو لن يفضّل السكوت، وسيتحرك باتجاه سلبي، خاصة في ظل القصف المدفعي للمخيم وسقوط المدنيين.
وهذه مسألة خطيرة جدا، ويجب التنبّه لها, وقد بدأ العمل على ترويجها من خلال ما لمسته عند تنقلي بين الجنوب وبيروت خلال الأيام الماضية.
ننتقل من إطار الخلط الفلسطيني إلى الإطار الإسلامي. ففي مقابل الجهة التي فضّلت تجيير المواجهة باتجاه الفلسطينيين, قامت جهات أخرى بتجييرها باتّجاه الحالة الإسلامية السنّية الإقليمية والدولية بشكل عام، سيما تنظيم القاعدة بشكل خاص.
بطبيعة الحال, لا بد أن من اختار هذا المنحى, كان يضع في حسبانه أنه الخيار الأسهل للقصف الإعلامي والسياسي، خاصة وأنه لا أحد يستطيع أن يدافع عن هذا الموضوع، ولا غطاء سياسي له. لكنّ هذا الموضع في هذا السياق، يشبه دس السم بالعسل.
إن هذه المجموعة المسماة "فتح الإسلام"، لا منهج شرعي واضح لها، حتى يتم نسبتها إلى التيار الإسلامي أولا ثمّ السني ثانيا. أما مسالة أنها تابعة للقاعدة أو مقربة، فالهدف منه إهمال الجهة الحقيقة التي تقف وراءها, والهروب إلى الأمام.
فيما فضّل البعض أيضا الهجوم على التنظيمات الإسلامية السنية اتكاء على هذه الجماعة, فتم تناول حماس إعلاميا، وتمّ أيضا الخلط بين هذه المجموعة ومجموعة الضنيّة، وأيضا المجموعة التي تمّ إلقاء القبض عليها قبل الانسحاب السوري من لبنان, والتي اتهمت بأنها من القاعدة، وخططت لتفجير السفارة الايطالية, فيما أثبتت الأحداث فيما بعد، أن ذلك كان مجرّد فبركة من قبل النظام السوري، هدفها التقرب من الولايات المتّحدة، تحت حجّة مكافحة الإرهاب, فكان نتيجة ذلك أن سقط المدعو "الخطيب"، تحت التعذيب دون ذنب, وبطبيعة الحال، فإن المجموعات السنيّة هي التي تقدم ككبش فداء في مثل هذه الحالات، نظرا لعدم وجود غطاء سياسي محلي أو خارجي لها.
وبالعودة إلى "فتح الإسلام", فلو كانت هذه المجموعة تابعة بحد ذاتها إلى القاعدة أو حتى لأفكارها، لكان ظهر ذلك في مكان ما, في حين أنها أعجز حتى عن صياغة مجرد بيان إعلامي ذي طابع إسلامي.
كما أن تحركاتها وتركيبتها وأهدافها وتوقيت أعمالها، وحتى حجم تسليحها ـ في بيئة لا تسمح، ولنكن صريحين, "للسنّة" بالحصول على مثل هذه الترسانة، إلا إذا كانوا تابعين لحزب لبناني معروف حليف لسوريا، أو إذا كانوا تابعين مباشرة لسوريا ـ يزيد من الشكوك ويؤّكد انتماء هذه المجموعة إلى جهات استخباراتية، إما صناعة أو اختراقا, و في الحالتين تكون النتيجة واحدة.
إضافة إلى ذلك, فمن المعروف أن هذه المجموعة لو كانت تابعة أو مقربّة للقاعدة, لكان "حزب الله" من أوائل الذين لهم مصلحة محلية وإقليمية ودولية في إدانتها مباشرة، وعبر أعلى هيئة، ممثلة بالأمين العام السيد حسن نصر الله، خاصة أن للحزب سوابق في مهاجمة الحركات الإسلامية السنيّة حتى في ظروف الاحتلال، كما في أفغانستان والعراق، وذلك لتوجيه رسالة إلى المجتمع الدولي، مفادها أن الإرهاب محصور بهؤلاء, وأن الحزب هو حركة سياسية معتدلة ومقاومة.
وبما أن الحزب لم يفعل ذلك، ولم يصرح بالإدانة بشكل قوي في الموقف من جماعة "فتح الإسلام"، ولم يطالب بحسم الأمر معها، وإنما دعا إلى "تسوية", فهذا يضع علامات استفهام كبيرة جدا على حقيقة هذه الحركة, وهناك اتّجاهان لتحليل هذا الموقف:
1- إما أن الحزب على علاقة ـ غير مباشرة ـ مع هذه المجموعة، ويستخدمها كوسيط ـ Proxy ـ لتخريب الوضع اللبناني في سياق التجاذبات الداخلية، فيما يتعلق بالاستحقاقات الإقليمية والمحكمة الدولية، وهذا ما لم يقله أي محلل لبناني علنا، نظرا لحساسية الوضع الداخلي.
2- وإما أن الجماعة تتحرك في إطار استخباراتي خارج عن الداخل اللبناني، ومرتبط بجهات خارجية, لكن أعمالها تصب في صالح الحزب والمعارضة بطريقة آو بأخرى. لذلك فهو يريد الاستفادة منها حتى النهاية قبل أن يصدر تصريح واضح وصريح عبر قيادته الأولى بمحاربتها.
بعيدا عن هذين الافتراضين, لا يمكن فهم الموقف غير الحاسم ولا الحازم, والمطاطي من قبل المعارضة ورموزها بشأن هذه القضية, إلى درجة أن معظم القيادات في الصف الأول غابت عن المشهد الإعلامي وعن التصريحات التي لطالما كانت تملأ الشاشات والإذاعات في مختلف التطورات. (باستثناء تصريح عون المباشر والصريح, الذي أشرنا إلى أهدافه وغاياته أعلاه).
ولو افترضنا أنها تابعة للقاعدة أو مقربة منها, ففي أي إطار يمكن صرف توقيت تنفيذ العمليات، ولماذا هي محصورة دائما، إما في إطار استهداف الجيش اللبناني، أو في إطار عمليات تستهدف مناطق، لها دلالات متعلقة بالسجال والجدل الداخلي اللبناني أكثر من تعلقها بأهداف القاعدة العالمية وأجندتها؟!
في المقابل, يطرح البعض تساؤلا مهما في إطار مختلف، مفاده: "لو كانت مجموعة فتح الإسلام, مجموعة استخباراتية تابعة للنظام الفلاني, فكيف تضحي بأفرادها وتقاتل حتى النهاية؟". سؤال وجيه وفي محله.
حقيقة، فإن المجند استخباراتياً ـ طوعا ـ في أي عملية وفي أي دولة، يعلم أنه لا يمتلك إلا فرصة واحدة فقط لا غير، مهما كان هدف العملية وظروف العملية.
أما إذا افترضنا أن هناك مجموعة مخترقة استخباراتياً, فهي أيضا ستتفاجأ ميدانيا، عند الكشف عنها، أنها لا تملك حلولا, وأن الخيار أمامها: إما القتال وإما القتال!!. في هذا الإطار، قد يكون إغلاق سوريا لحدودها في هذه اللحظة بالذات دلالة أو رسالة مهمة، معناها ـ إن ثبت تورطها مع هذه المجموعة ـ "لا خط رجعة لكم".
مهما كانت الفرضية، فهناك معطيات تشير إلى أن ما حصل مؤخرا، يهدف إلى ما يلي:
أولا: هدم آخر مؤسسة للدولة اللبنانية، بعد شلل كافة مؤسساتها المتمثلة بالحكومة, البرلمان, الرئاسة.
ولوحظ منذ انتشار الجيش على الحدود, أن هناك جهة داخلية كانت تعارض ذلك، بحجّة أن الجيش ضعيف وأن هذه ليست مهمته. ولكن بعد أن أثبت قدرته, تمّ الزج بهذا الجيش في أزقة بيروت، إثر التصرفات غير المسئولة للمعارضة والشحن والتخوين والتجييش الذي حصل حينها، في محاولة لتنفيذ مخطط انقلابي واضح المعالم.
وبعدها يتم إقحامه في معارك عبر تشكيل مثل هذه الخلايا, على أمل أن يؤدي ذلك إلى تمدد الجيش وإقحامه في جبهات مختلفة، ما سيدفعه إلى الانسحاب من الحدود، وبالتالي سقوط النقاط السبع التي قبلها البعض اللبناني، من غير نية واضحة بتنفيذها أو الالتزام بها.
وعند انهيار الجيش, فلا دولة, وعند انهيار الدولة، فلا قرارات محلية أو دولية لصالحها, وبالتالي سقوط جميع القرارات الدولية، بما فيها الحكمة الدولية.
ثانيا: نقل الأزمة من حالة الاحتقان، التي تسببت بها التحركات الشيعية في لبنان مع السنة، لتصبح أزمة داخل البيت السني، عبر إحداث شرخ بين اللبنانيين السنة والفلسطينيين السنة من جهة, وبين الإسلاميين السنة والليبراليين السنة من جهة أخرى.
وهذا بطبيعة الحال، التفاف على ضرب القوى السنيّة في لبنان، والتي لا محضن حقيقي لها ولا غطاء لها, وتأليبها على بعضها البعض، وإظهار أن السنة في لبنان يستهدفون الفلسطينيين.
ثالثا: إبعاد الشبهات عن الجهة الحقيقية التي تريد هذا الخراب, ولذلك فالمخرب هذا يعتمد على: إما صناعة أو اختراق مجموعات تكون منتمية إلى جهة "سنيّة"، وذلك لأن ليس لها أي غطاء داخلي أولا, وثانيا لإلقاء اللوم على هذه الطائفة، وإثارة الشقاق بينها، وثالثا، لإبعاد الشبهات عن المحركين الذين ينتمون إلى جهات أخرى.