فلسطينيو العراق والحصاد المر

بواسطة أيمن الشعبان قراءة 1749

فلسطينيو العراق والحصاد المر

 

أيمن الشعبان

باحث متخصص في شؤون الفلسطينيين في العراق

 

ستة عقود مضت على الوجود الفلسطيني في العراق، إلا أن السنوات الست المنصرمة، سطرت سجلا حافلا من العذابات والويلات والانتهاكات والمظالم والاضطهاد، أنستهم، من هول فاجعتها، نكبة الآباء والأجداد عام 1948، حتى أضحوا في محنة لا يعلمها إلا الله عز وجل.

بعد تسليم المحتل الغازي البريطاني أرضنا الحبيبة فلسطين عام 48 بنسبة 77% إلى العصابات اليهودية وإقامة ما تسمى بدولة الكيان اليهودي؛ اضطر قرابة (750000 فلسطيني) إلى الهجرة القسرية إلى سوريا ولبنان والأردن وبعضهم أصبح لاجئا في بلده بعد انتقاله إلى أماكن أخرى كغزة والضفة الغربية، وقلة قليلة منهم تم نقلهم إلى العراق مع الجيش العراقي آنذاك يقرب عددهم من (4000 فلسطيني).

لم يمر على الفلسطينيين في العراق من صعوبات بمختلف المراحل والجوانب كما حصل معهم بعد احتلال العراق عام 2003، وقد يبدو هذا أمرا طبيعيا لأقلية سنية عربية فلسطينية في بلد محتل من قبل الأمريكان كالعراق وفيه العديد من علامات الاستفهام والمعادلات المتداخلة المتشابكة، خاصة في ظل الصراعات الطائفية والقومية والعرقية.

إن احتلال العراق من قبل الأمريكان، وبضوء أخضر ومساعدة من إيران، وإطلاق الشعارات المبيتة من قبل الساسة العراقيين، الذين قدموا مع المحتل بأن (العراق للعراقيين!)، أظهر حالة جديدة وبدأت تظهر إرهاصات المراحل المقبلة التي يمكن تلخيصها بما يلي:

المرحلة الأولى (مرحلة ترقب وانتظار) (عام 2003م): حيث بدأت مرحلة ترقب جديدة على عموم الفلسطينيين وعلى جميع الأصعدة الأمنية والسياسية والدينية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية، بعد أن حصلت فوضى عارمة في البلاد ولا يعلم ما هو مخبأ لهم من محن في المستقبل القريب.

المرحلة الثانية (مرحلة حيطة وحذر مع تخوف) (عام 2004م): في هذه المرحلة بدأت تتضح معالم الحكومة الجديدة وبروز بعض الفئات والقوميات والطوائف والتكتلات على حساب الأخرى، والفلسطيني ليس بمنأى عن تلك التشكيلات بحكم تعايشه، فكان مؤشرا لبداية معاناة وحقبة جديدة تلوح مخاطرها في الأفق القريب.

المرحلة الثالثة (بداية الاستهداف) (عام 2005م): ظهرت موجة من التحريض الإعلامي المكثف ضد الوجود العربي عموما والفلسطيني خصوصا تكللت باعتقال أربعة فلسطينيين أبرياء وإظهارهم على قناة العراقية وإجبارهم بالقوة على الإدلاء باعترافات انعكست بشكل سلبي وكبير على عموم الفلسطينيين في العراق، حيث بدأ التضييق والاستهداف والملاحقة وبدأت مرحلة جديدة تختلف عن سابقاتها.

المرحلة الرابعة (عام النكبة) (عام 2006): من أشد الأعوام ضراوة وأكثرها قساوة وأصعبها على النفوس، حيث تضاعفت الانتهاكات وكثرت الاعتقالات وازدادت حالات الخطف والتعذيب، سيما بعد أحداث المساجد في 22/2/2006 واشتد الخناق على عموم الفلسطينيين في شتى المجالات، وضاقت عليهم الأرض بما رحبت وانعدمت أدنى وسائل المعيشة الإنسانية.

المرحلة الخامسة (عام الهجرة والشتات) (عام 2007م): كنتيجة طبيعية لما تعرضنا له من ممارسات وتضييقات ومضاعفة للمعاناة وعدم وجود بصيص أمل في حل المشكلة التجأ الغالبية لخيار الانتقال والهجرة والشتات بحثا عن حلول فردية، مع أن نسبة منهم أجبروا على المغادرة وطردوا من مساكنهم.

المرحلة السادسة (جني الرماد وما بعد الاستهداف) (عام 2008): بعد تحسن نسبي في الملف الأمني في بغداد إلا أن الآثار التي ترتبت وتراكمت على ما مضى من جروح ومحن بلغت ذروتها فهنالك أشبه بالحصار وخطورة في التنقل ودخول المؤسسات العراقية وارتفاع نسبة البطالة ناهيك عن أوضح مظهر وأبرز معلم للفلسطينيين هو التشرذم والتشتت وتفسخ النسيج العائلي والروابط الأسرية.

يتمركز غالبية الفلسطينيين في العراق في تجمعات متواضعة في مناطق مختلفة من بغداد، خاصة في أماكن ذات غالبية شيعية كمجمع البلديات القريب من مدينة الصدر، وهو أكبر تجمع للفلسطينيين في جانب الرصافة (ذات الغالبية الشيعية) جنوب شرق بغداد، أضف إلى ذلك وجود مشروع التمدد الفارسي في العراق ومحاولة تشييع بغداد، وباعتبار التواجد الفلسطيني إحدى العقبات الكؤود بدأت مرحلة عصيبة من الاستهداف المباشر.

إن مشاريع توطين اللاجئين الفلسطينيين في العراق، يرجع إلى عام 1911م، عندما اقترح الداعية الروسي الصهيوني (جو شواه بوخميل) مشروع ترحيل عرب فلسطين إلى شمال سوريا والعراق أمام لجنة فلسطين التابعة للمؤتمر الصهيوني العاشر المنعقد في "بازل" بسويسرا في السنة ذاتها، ومع أن هذا المشروع من صالح الكيان اليهودي لإنهاء قضية اللاجئين إلا أن الأمر اختلف بعد عام 2003 ليتقاطع المشروع الأمريكي ـ النابع من رؤية إستراتيجية يهودية ـ مع المشروع التوسعي الإيراني في المنطقة، ابتداء من العراق الأرض الخصبة لذلك.

ووجود ثقل عربي سني (فلسطيني) في العراق، يسهم في تعثر مشروع تصدير الثورة الإيرانية إلى العراق، بالإضافة إلى بروز صراعات قومية (كردية — عربية) وطائفية (شيعية — سنية)، خصوصا في محافظة كركوك، المرشح الأقوى لتوطين الفلسطينيين، ليتم بعدها فقدان الأمل في مثل هذا المشروع.

ولكي لا يفكر أي فلسطيني مستقبلا في استيطان العراق، بدأت حملات الاستهداف تتوالى عليهم من قبل الميليشيات الطائفية، كجيش المهدي وقوات بدر المدعومة من إيران، والتي لاقت فيما يظهر استحسانا أمريكيا، لأنه بالنتيجة ستؤدي تلك الانتهاكات بحق الفلسطينيين إلى التفكير الجدي بمغادرة العراق، وبذلك التقت المصالح الأمريكية الإيرانية، كما التقت من قبل في احتلال أفغانستان والعراق.

لكن المحتل الأمريكي كالعادة يجب أن يظهر بمظهر المدافع عن الأقليات وضد أي استهداف طائفي أو عرقي في البلاد، كيف لا وقد جاء لتحرير أهلها من الظلم والطاغوت!!! وعليه، بدأ تعامل القوات الأمريكية مع التجمعات الفلسطينية بالمد والجزر وإمساك العصا من الوسط، بحيث تم إبلاغ اللاجئين الفلسطينيين بأنهم موجودون لحمايتهم، "وأي خطر عليكم من قبل الميليشيات الطائفية الإجرامية، بمجرد الاتصال بنا، سنحضر على الفور"!!! وكثيرا ما كان الأهالي، كالمستجير بالرمضاء من النار، يتصلون بالأمريكان لتخليصهم من حقد الميليشيات التي تستهدفهم وتستحل دماءهم.

وإحدى أكبر المشاكل التي يعاني منها الفلسطيني في العراق، عدم تسجيلهم ضمن اللاجئين الفلسطينيين في وكالة غوث وتشغيل اللاجئين (الأنروا)، وهذا يرجع لما هو متناقل من أن وفدا من الأنروا حضر العراق عام 1951، لعقد اتفاق مع الحكومة العراقية كي تدفع المستحقات المترتبة عليها لرعاية شؤون الفلسطينيين، إلا أن الحكومة رفضت لقلة العدد، واعتبروهم ضيوفا وهم من سيقوم برعايتهم، وظهر هذا الأمر جليا بعد احتلال العراق، حتى أصبح الفلسطيني بلا توصيف قانوني، ما ضاعف المحنة وعقد القضية.

عام 2003م، تم تسجيل اللاجئين الفلسطينيين في العراق ضمن سجلات مفوضية شؤون اللاجئين التابعة للأمم المتحدة، حيث قدر عددهم آنذاك بقرابة (25000 فلسطيني)، واستمرارا لتنفيذ مشروع إذابة اللاجئين الفلسطينيين وضرورة إعادة توطينهم بعيدا عن المنطقة العربية ومخطط مسح الهوية الفلسطينية الذي يخدم دولة الكيان اليهودي، وكجزء من مخطط التوسع الإيراني في المنطقة، تم تسليط الميليشيات الشيعية المسلحة بمباركة القوات الحكومية وتحت سمع وبصر المحتل الأمريكي، لتبدأ رحلة شتات وغربة وتهجير جديدة مصحوبة بعوائق وعقبات غاية في الصعوبة والتعقيد.

الفلسطيني في العراق لا يستطيع مغادرة البلاد لعدم وجود توصيف قانوني خاص به، ومنع غالبية الدول العربية استضافته، سيما دول جوار العراق، لاعتبارات ومواقف سياسية كما يزعمون!!! وتخلي العرب عنهم وعدم تحمل المسؤولية تجاههم، اضطر الفرد الفلسطيني ـ كل بحس ظروفه ـ إلى تقرير مصيره المجهول والمجازفة بطرق ملتوية وغير قانونية، للخلاص من القتل والانتهاك المحقق.

وقد أُعيد توطين عدد من العوائل، بعد أن مكثت قرابة خمس سنوات في مخيم الرويشد داخل الأراضي الأردنية وعناء الصحراء، توطينهم في البرازيل وكندا ونيوزيلندا وأميركا، وأغلق المخيم مع نهاية عام 2007، لكن قصة المخيمات لم تنته، فهنالك مخيم داخل الأراضي السورية في المثلث العراقي التركي السوري، يحوي 380 فلسطينيا منذ منتصف عام 2006م، يرجح توزيعهم على كندا والسويد وفرنسا ودول أخرى، ومخيم (التنف) أيضا، أُسس منتصف عام 2006 في الأرض الحرام بين الحدين السوري العراقي وفيه حاليا قرابة 850 فلسطيني، بعد قبول تشيلي 116 منهم العام الماضي، والسويد 150 وسويسرا عددا من العوائل، على أمل إعادة توطين من تبقى وتوزيعهم على عدة دول، منها السويد، حيث سينتقل 148 فلسطيني خلال الشهرين القادمين هناك، وإيطاليا ستقبل عددا منهم، وكذلك فرنسا وبريطانيا ودول أخرى.

أما مخيم الوليد الصحراوي داخل الأراضي العراقي عند مركز الوليد الحدودي في المنطقة الغربية، والذي يستضيف حاليا قرابة 2000 فلسطيني، وأُنشئ أواخر عام 2006م، فقد تم ترحيل عدد من العائلات منهم، كحالات مرضية وإنسانية إلى الدنمارك وفرنسا والسويد والنرويج وهولندا وغيرها، ولازال العديد منهم ينتظرون السفر إلى أميركا وبريطانيا وغيرها، بل يقال بأن بعضها سينتقل إلى رومانيا إلى أن يُعاد توطينهم في بلد ثالث.

السودان، الدولة العربية الوحيدة التي قبلت استضافة 2000 فلسطيني في شهر أيلول من عام 2007م، عالقين على الحدود العراقية، إلا أنه لا توجد إلى الآن أي خطوات عملية لتنفيذ هذا المشروع، وتعثره راجع إما لأسباب سياسية داخلية في السودان، أو لمحاولة توطين هؤلاء في دول بعيدة، ليست عربية.

وتم تشريد أكثر من 15000 فلسطيني وتهجيرهم من العراق بعد عام 2003م، لأكثر من ثلاثين دولة في العالم، حيث وصل أكبر عدد منهم إلى السويد (أكثر من 2000 فلسطيني) وقرابة 1700 إلى جزيرة قبرص، ولازال أكثر من 3000 فلسطيني في مخيمات صحراوية حدودية، وقلة قليلة، وصلت بشق الأنفس إلى بعض الدول العربية، وأعداد أخرى إلى أمريكا اللاتينية وأستراليا وكندا وآيسلندا وأوربا الغربية وبلغاريا واليونان وتركيا وغيرها من الدول.

واللافت للنظر، أن هرتزل، عندما دعا إلى إقامة دولة يهودية، اقترح فلسطين فإن لم تكن ففي الأرجنتين، وعندما بدأت هجرة اليهود إلى فلسطين بأعداد كبيرة منهم، تم تجميعهم في جزيرة قبرص قبل انتقالهم إلى فلسطين، والمتتبع والمتأمل لحالة الترانسفير الفلسطيني من العراق، يجد أن البرازيل وتشيلي الجارتين للأرجنتين من أوائل الدول التي استضافت الفلسطينيين، رغم الفقر المدقع وكثرة البطالة والظروف المعيشية الصعبة، وهذا يثير علامات استفهام وتعجب عديدة، وكذلك الآن هناك حالة من تجميع اللاجئين الفلسطينيين في قبرص، لا ليتم إعادتهم إلى أرضهم المغتصبة، ولكن لإبعادهم عنها بقدر المستطاع.

وعدم وجود رؤية إستراتيجية وحلول عملية عربية لقضية اللاجئين عموما، ومن هم في العراق بوجه خاص، لينذر بالسوء على أهم القضايا الفلسطينية العالقة، والحقيقة المرة تكمن في الضعف العربي والمواقف الهزيلة تجاه أقلية لا تتجاوز (25000 نسمة)، تعرضت لأشرس هجمة في العراق، ولازالت آثار تلك النكبة شاخصة في المخيمات الصحراوية والدول التي وصلوا إليها والخطر القادم أعظم، وهذا مؤشر خطير لضعف مواجهة المخاطر المحدقة بالمنطقة داخليا وخارجيا، والتي هي أكبر وأعظم من مشكلة اللاجئين الفلسطينيين في العراق.

 



مقالات ذات صلة