منذر الشامي
من يقلب صفحات التاريخ الإسلامي يجد بأن الغزاة المعتدين على ثغوره ومدنه.. هم مع غزوهم العسكري يجتهدون على مسخ الدين الذي هو سر قوة المسلمين وسبب نهوضهم ومادة كيانهم وبقائهم وعزهم وازدهارهم ..
وهذا حال الأمم المنتصرة فهي تسعى إلى فرض نمطها الديني والسلوكي على الأمم المقهورة والمهزومة...
فلما هاجم التتار بغداد عاصمة الخلافة الإسلامية اصطحبوا معهم نصير الدين الطوسي الفيلسوف..الذي حاول إطفاء نور النبوة وضياء القران .. بزبالات الفلاسفة من أمثال أرسطو وابن سينا والفارابي ..لكن الله كان لهم بالمرصاد وفشلت خطتهم..
وعندما غزا نابليون مصر دعم التصوف بل أمر بإحياء الموالد..
يذكر المؤرخ المصري الجبرتي إن المستعمرين الفرنسيين عندما احتلوا مصر بقيادة نابليون بونابرت انكمش الصوفية وأصحاب الموالد فقام نابليون وأمرهم بإحيائها ودعمها.
يقول الجبرتي في كتابه (تاريخ عجائب الآثار) عن حال أحد المقامات الشركية :
فدفنوه بمعرفة أخيه في قطعة حجر عليها من هذا المسجد من غير مبالاة ولا مانع وعمل عليه مقصورة ومقاما وواظب عنده بالمقرئين والمداحين وأرباب الاشاير والمنشدين بذكر كراماته وأوصافه في قصائدهم ومدحهم ونحو ذلك ويتواجدون ويتصارخون ويمرغون وجوههم على شباكه وأعتابه ويغرفون بأيديهم من الهواء المحيط به ويضعونه في أعبابهم وصار ذلك المسجد مجمعا وموعدا فلما حضر.." الفرنساوية " إلى مصر تشاغل عنه الناس وأهمل شانه في جملة المهملات وترك مع المتروكات, فلما فتح أمر الموالد والجمعيات.. ورخص " الفرنساوية " ذلك للناس لما رأوا فيه من الخروج عن الشرائع واجتماع النساء واتباع الشهوات والتلاهي وفعل المحرمات أعيد هذا المولد مع جملة ما أعيد.. [1]
بعد أنهيار الإتحاد السوفياتي كشرت أمريكا الصليبية عن أنيابها لتنهش وتنتقم من العالم الإسلامي , فجهزت الجيوش والأساطيل وأطلقت كلابها المسعورة وهم الشيعة في تحالف قديم جديد لتدمير وإبادة أهل السنة مادة الإسلام وعموده الفقري ...
وقد عرف أعدائنا بأن سر قوة أهل السنة ينبع من عقيدتهم الصافية وتوحيدهم الخالص .. لذلك هم يحاولون جاهدين تفريغ أهل السنة من حصنهم الحصين ومعقلهم المتين.. عقيدتهم السلفية النقية... متخذين شعار حرب غلو فكر ابن تمية ( ظلما وعدوانا ) ظاهرا.. ويضمروا إِسْتئْصَال عقيدة أهل السنة بأكملها باطنا ....
فلماذا إِنْتِقَاء ابن تيمية للهجوم عليه..؟؟؟
في القرن السابع بدأ بريق عقيدة السلف الناصع بالخفوت على إثر ظهور وانتشار الكثير من العقائد الباطلة والمنحرفة وشمل هذا الإنحراف عوام الناس وعلماءهم إلا القليل ممن رحم الله ..فالساحة الإسلامية آنذاك مضطربة وتعج بالكثير من الفرق والمقالات والمذاهب الكلامية والفلسفية, كذلك التصوف القبوري والحلولي الإتحادي والتعصب والتقليد المذهبي, وتأويل صفات الله سبحانه وتعالى الذي كان يتصدره المذهب الأشعري, وكان يعتبره معتنقوه أنه هو مذهب أهل السنة في مقابل عقائد المعتزلة والجهمية , يضاف إلى ذلك وجود فرق الرافضة من إمامية وزيدية وباطنية درزية ونصيرية .
في كل هذه الأمواج المتلاطمة من الإنحرافات نشأ وترعرع في خضمها شيخ الاسلام, كذلك ولد ابن تيمية والأمة لم تصحو بعد من ضربات التتار والصليبيين بل استمرت حتى عند تصدره للإمامة والعلم ..
لقد كان ابن تيمية نابغة بكل ما تحمله هذه الكلمة من معنى يمتاز بذكاء فطري خارق ومفرط, وسرعة بديهة وحافظة عجيبة وسيلان ذهن.. نشأ بدمشق حاضرة العالم الإسلامي آنذاك هي والقاهرة ..وتبحر في علوم الكتاب والسنة , وأمسك بزمام علوم الآلة من عربية وأصول فقه ودرس المذاهب الكلامية والفلسفية حتى أصبح رأسا لا يجارى, وارتوى وتشبع من كل فن من فنون العلوم حتى أصبح يناظر المتخصصين فيه ..مع ورع وتقوى ومخافة لله وكرم نفس ومروءة وشجاعة في قول الحق وحسن خلق ..
قال في فضله صاحب الدرر : وكان يتكلم على المنبر على طريقة المفسرين مع الفقه والحديث فيورد في ساعة من الكتاب والسنة واللغة والنظر ما لا يقدر أحد على أن يورده في عدة مجالس كأنه هذه العلوم بين عينيه فأخذ منها ما يشاء ويذر..[2]
وقال جمال الدين السرمري في أماليه : ومن عجائب ما وقع في الحق من أهل زماننا أن ابن تيمية كان يمر بالكتاب مطالعة مرة فينتقش في ذهنه وينقله في مصنفاته بلفظه ومعناه [3]
ولقد أنصف الامام العلامة , قاضي قضاة الإسلام بهاء الدين بن السبكي حيث يقول لبعض من ذكر له الكلام في ابن تيمية : والله يافلان ما يبغض ابن تيمية , الا جاهل أو صاحب هوى , فالجاهل لا يدري ما يقول , وصاحب الهوى يصده هواه عن الحق بعد معرفته به.[4]...
وذكر ابن دقيق العيد: "لما اجتمعت بابن تيمية رأيت رجلا العلوم كلها بين عينيه، يأخذ منها ما يريد، ويدع ما يريد..[5]
لقد اطلع "ابن تيمية" على عقيدة السلف وسبر أقوالهم وعرف مواقفهم وشرب من معين منبعهم الصافي حتى تظلع ..وفهم هذه الأقوال وهضمها ومن ثم عرضها على أبناء عصره صافية نقية وتحمل في سبيل نشرها أنوع البلايا والصعاب وصبر على ذلك الصبر الجميل..
فرجل مثل ابن تيمية يستحق وبكل جدارة أن يكون هو عقدة الربط .. وﺻﻠﺔ اﻟﻮﺻﻞ بين أﺟﻴﺎل السلف وأجيال الخلف وقطب الرحى في بث ونشر عقيدة خير القرون بعد أن انزوت في واقع متردي ومتخلف.. فلا يبعد أن يقال إن علوم السلف قد جرت أنهارا وصبت في شخص ابن تيمية ومن ثم بثت جداول وسواقي وعيون ليرتوي منها الخلف وكل طالب للحق ..فجدد الله به الدين ونصر به الملة ...
صاحب ذلك انتصار لعقيدة الولاء والبراء في رد رائع ومفحم ومتماسك لا يدع فيه لمبطل مهرب ولا متنفس, فمن يطالع كتب ردوده على فرق الضلال والزيغ يعرف قيمة هذا الرجل ومدى تشبعه بالمعرفة والعلوم ومن شاء فليتصفح كتابه العظيم "منهاج السنة النبوية" في الرد على الشيعة والقدرية ..
يقول الشيخ الهراس : وهو كتاب جليل القدر مملوء بالتحقيقات العلمية التي تنم عن غزارة علم وسعة اطلاع كما أن مناقشاته في هذا الكتاب , تشهد له بالبراعة في ميدان الجدل والقدرة على مناقشة الخصوم ..ويقول الهراس : وكان ابن تيمية أيضا يعرف المسيحية وعقائد فرقها المختلفة معرفة جيدة وقد وضع كتابا سماه ( الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح )..هـ[6]
ولا يغالي المرء في الإدعاء بأنه لا توجد فرقة من فرق الضلال إلا وقد نالت نصيبها من ردود ابن تيمية عليها سواء في كتاب مستقل أو في ثنايا كتبه وهذا إن دل.! فيدل على إن ابن تيمية قد خبر أقول الفرق واكتشف مكامن ضعفها وخطئها فهو: عالم بواجب وقته يعرف ما يدور حوله وما يفرضه واقعه عليه ...
لقد أصبح ابن تيمة يمثل بشخصه ورسمه علما على العقيدة الصحيحة عقيدة السلف الناصعة البياض ..وهو قدوة يمثل نهضة في زمن انحطاط مشابه لكثير من مفرداته ما تمر به أمتنا به في وضعها الراهن ..
من أحب ابن تيمية فقد أحب السنة ومن أبغض ابن تيمية فقد أبغض السنة حاله كحال الكثير من علماء الأمة الذين واجهوا الإنحراف ونصرالله بهم الدين ..
قال قتيبة بن سعيد : إذا رأيت الرجل من أهل البصرة يحب أيوب فاعلم أنه على الطريق وقال رجل لأحمد بن حنبل رحمه الله: من السني قال من أين أنت قال من أهل البصرة قال أتحب أيوب السختياني قال نعم قال فأنت سني[7]
قال أحمد الدورقي : من سمعتموه يذكر أحمد بسوء فاتهموه على الإسلام .... وعن سفيان بن وكيع قال : أحمد عندنا محنة ، من عاب أحمد عندنا فهو فاسق [8]
كذلك كان ابن تيمية قائمًا بميزان الحق ناشرا للسنة ، وأنه الحد الفاصل بين منهج أهل السنة والجماعة والمنافح عنه ، وبين منهج أهل البدع والغواية ...
إن ابن تيمية مجدد من مجددي هذا الدين ورمزا للعقيدة السلفية فلا عجب أن يكون غرضا تتوجه إليه سهام الحا قدين والحاسدين من ملل الكفر والضلال, فالطعن به هو طعن في الدين وهدم لما قعد من قواعد سلفية بل ضَرْب لعقيدة السلف في الصميم , فلا عجب أن كل من هب ودب وكل متردية ونطيحة وكل صوفي مبتدع وكل شيعي محترق وكل ليبرالي زائغ .....يهاجم منهج ابن تيمية ولا غرابة أن تتزعم أمريكا الصليبية هذه الحملة الشعواء وتلصق بمنهج ابن تيمية كل سُبَة ونقيصة ومَثلبْ من غلو وتكفير وتفجير, والغاية هي الطعن بمنهج السلف الصالح الذي هو سر قوة المسلمين, وما يثير الغرابة أن ابن تيمية هو من أبعد الناس عن التكفير حتى قال : هذا مع أني دائماً ومن جالسني يعلم ذلك منى .. أني من أعظم الناس نهياً عن أن ينسب معين إلى تكفير وتفسيق ومعصية إلا إذا علم أنه قد قامت عليه الحجة الرسالية التي من خالفها كان كافراً تارة وفاسقاً أخرى وعاصياً أخرى وأني أقرر أن الله قد غفر لهذه الأمة خطأها وذلك يعم الخطأ في المسائل الخبرية القولية والمسائل العملية....[9]
ومن عجيب صنعه ووسطيته : انه طلب إطلاق أسارى النصارى من قائد التتار كما طلب أطلاق أسرى المسلمين ...يقول ابن تيمية : وقد عرف النصارى كلهم أني لما خاطبت التتار في إطلاق الأسرى, وأطلقهم غازان , وقطلوبشاه, وخاطبت مولاي فيهم فسمح بإطلاق المسلمين. قال لي : لكن معنا نصارى أخذناهم من القدس, فهؤلاء لا يطلقون . فقلت له بل جميع من معك من اليهود والنصارى , الذين هم أهل ذمتنا , فإنا نفتكهم , ولا ندع أسيرا , لا من أهل الملة , ولا من أهل الذمة . وأطلقنا من النصارى من شاء الله , فهذا عملنا وإحساننا , والجزاء على الله .[10]
وما سطره ابن تيمية من أحكام الردة والحرابة والحدود فأنما نقله من أقوال الأئمة الأربعة وغيرهم مثل الأوزاعي وسفيان الثوري والليث بن سعد ...
لكن أعدائنا لا يبحثون عن الحقيقة وصدق قول الله فيهم: " وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ " (14).النمل
لقد بدأنا نسمع من هنا وهناك في هذا البلد أو ذاك عن منع كتب ابن تيمية ومحمد عبد الوهاب وابن باز وابن عثيمين والألباني وهدف أعدائنا هو ظهور أجيال من أهل السنة تتربى على حلقات الطرب الصوفي تتمايل وتتناغم مع التشيع.. كلئاً مباحاً.. تكون جسرا لليبرالية لا تعرف معروفا ولا تنكر منكرا ....
لكن الله ناصر دينة... فمات ابن تيمية حبيس سجنه.. ولكن مات السجان وبقيت دعوة ابن تيمية ينهل منها كل طالب للحق ومريد للهدى.. وهاهي مكتبات العالم زاخرة بكتبه التي أبهرت الباحثين بحسن التقرير وجميل الصنعة ودقة الاستنباط ...
" يرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ " (8)..الصف
المصدر : صيد الفوائد
----------------------------------------------
[1] تاريخ عجائب الآثار ج3 ص138..ط مطبعة دار الكتب المصرية...
[2] الدرر الكامنة ..ص153ط دار الجيل بيروت ...
[3] الدرر الكامنة ص153 ط دار الجيل بيروت
[4] الشهادة الزكية في ثناء الأئمة على ابن تيمية ص24 ط مؤسسة الرسالة
[5] الشهادة الزكية في ثناء الأئمة على ابن تيمية ص29 ط مؤسسة الرسالة
[6] ابن تيمية السلفي , للهراس ص 28ط...المطبعة اليوسفية بطنطا ط1952
[7] بيان تلبيس الجهمية نسخة وورد
[8] التنكيل بما تأنيب الكوثري من الأباطيل ص366 ط..الثانية ..المكتب الإسلامي
[9] ج3 ص 229 ط مجموع فتاوى شيخ الإسلام أحمد بن تيمية (ط. الأوقاف السعودية)
[10] مجموعة الفتاوى ص336 ..ط دار الوفاء