علي محمد طه
خلال قرون خلت كان يطلق أهل الشام على المجموعة البشرية التي تقطن الساحل السوري وشمال لبنان وجنوب تركيا مسمى (النصيرية) لأنهم يتبعون في نهجهم خطى زعيمهم ابو شعيب( محمد بن نصير النميري) المتوفي عام 270هـ والذي عاصر ثلاثة من أئمة الشيعة وهم علي الهادي (العاشر) والحسن العسكري (الحادي عشر) ومحمد المهدي )الثاني عشر، والذي زعم أنه البابُ إلى الإمام الحسن العسكري، ووارثُ علمه، والحجة والمرجع للشيعة من بعده، وأن صفة المرجعية والبابية بقيت معه بعد غيبة الإمام المهدي ،وقد ادعى النبوة والرسالة ، وغلا في حق الأئمة, إذ نسبهم إلى مقام الألوهية، ويعتقد جل النصيرية أنه أحد نواب المهدي المنتظر في فترة غيبته الصغرى ، ولشدة ولعهم بقائدهم محمد بن نصير النميري أطلقوا على أنفسهم مسمى (النصيرية), فساد الاسم عليهم في كل بلاد الشام ، ومع مجيء الاحتلال الفرنسي عام1920 م إلى بلاد سوريا ولبنان لعب ليحكم سيطرته على البلاد بسهولة على وتر الطائفية, وتغليب قوى بعض الأقليات على الأكثرية السنية ليكون لها الغلبة في سوريا بعد رحيله، فقلد مقاليد الجيش وقوى الأمن والمخابرات لضباط من طوائف الأقليات النصيرية والدرزية والإسماعيلية والنصرانية، وقد كان للنصيرية نصيب الأسد من هذه المناصب، ويذكر التاريخ والوثائق الفرنسية أن نصيرية الساحل السوري كانوا أول من أيد احتلال فرنسا لبلاد الشام ، بل وسار بعضهم في مقدمة الجيش الفرنسي ليدله على الطرقات السهلة للوصول والسيطرة على دمشق وحلب , وللاستدلال على مخابئ ومكامن الثوار ، ولازالت وثيقة الرسالة التاريخية الشهيرة التي وقع عليها قادة الطائفة النصيرية , والتي قاموا بتوجيهها للقيادة الفرنسية معلنين فيها كامل ولائهم وطاعتهم للمحتل الفرنسي, ومطالبين فيها بحكم ذاتي شاهدة على تعاملهم وخيانتهم المستمرة مع المستعمر الأجنبي لبلاد الشام ، وتقول الوثيقة الشهيرة : أن زعماء الطائفة العلوية , وبينهم سليمان الوحش (قبل تغيير اسم العائلة) جد حافظ الأسد، ناشدوا رئيس الحكومة الفرنسية آنذاك ليون بلوم، عدم إلحاق «الشعب العلوي» بسورية المسلمة التي تعتبرهم كفاراً، محذرين من مصير مخيف وفظيع ينتظر العلويين في حالة إرغامهم على ذلك، ويضرب زعماء العلويين في هذا الصدد مثلاً بحالة اليهود الذين وصفوهم ب"الطيبين» (!) الذين يُذبحون مع أطفالهم في فلسطين، كأقوى دليل على أهمية القضية الدينية التي عند العرب المسلمين لكل من لا ينتمي إلى الإسلام.»
لقد تعاون النصيريون بكل قوة مع الاحتلال الفرنسي أثناء انتدابه على سوريا وكانوا شر عون لهم على الدولة العثمانية دولة الخلافة يومئذ وفي مقابل هذا منح الفرنسيون النصيريين أحقية السيطرة و الحكم في سوريا فيما بعد.
ومع كثرة اللقاءات بين مشايخ الطائفة النصيرية والقيادة الفرنسية في الساحل السوري قرر الاحتلال الفرنسي إقامة ما أسموه بالدولة العلوية في الساحل وقد وأطلقت عليها اسم (دولة العلويين), و استمرت هذه الدويلة من سنة 1920م إلى سنة 1936م، ومن الشخصيات القيادية النصيرية التي رعاها الفرنسيون وقلدوها زمام المسؤولية في هذه الدويلة (محمد أمين غالب الطويل), وكان أحد القيادات النصيرية البارزة , وقد ألف كتابا عن (تاريخ العلويين) يتحدث فيه عن جذور هذه الفرقة ، سليمان الأحمد ويعتبر من الشخصيات النصيرية الهامة التي شغلت مناصب دينية في دولة العلويين عام 1920م . و شجعت فرنسا كما يقول المؤرخون السوريون النصيرية للمشاركة فيما يسمى (الكتلة الوطنية )التي ضمت أبرز السياسيين السوريين خلال فترة الاحتلال الفرنسي, واجبرت المشاركين في الكتلة على تغيير مسمى النصيرية ليصبح العلويين وقد تم فيما بعد وأثناء فترة الاستعمار تغيير المصطلح في المناهج الدراسية, وتم منع استخدام كلمة نصيرية في الصحافة السورية ومع مرور الوقت اندثر المسمى القديم واستعيض عنه بمسمى العلويين . رغم أن علماء الإسلام من قبل لم يسموهم إلا ب(النصيرية)
ومن أشهر رجالا النصيرية أيام فترة الاحتلال الفرنسي :
سليمان المرشد: الذي كان فلاحاً يرعي بقرا، والذي احتضنه الفرنسيون وأعانوه على ادعاء الربوبية، كما اتخذ له رسولاً (سليمان الميده) وكان راعي أغنام ، وكان الرجل قد ادعى الألوهية, فآمن به وتبعه كثير من النصيريين و مثّل الدور تمثيلا جيدا, فكان يلبس ثيابا فيها أزرار كهربية ويحمل في جيبه بطارية صغيرة متصلة بالأزرار فإذا أوصل التيار شعت الأنوار من الأزرار ,فيخر له أنصاره ساجدين . ومن الطريف أن المستشار الفرنسي الذي كان وراء هذا الألوهية المزيفة كان يسجد مع الساجدين ويخاطب سلمان المرشد بقوله يا إلهي .
وفيما بعد حوكم على فعلته بعد الاستقلال وأعدم شنقاً عام 1946 م .
ولايزال له اتباع كثر يسمون بالطائفة المرشدية يقطنون في مناطق الساحل وسهل الغاب في ريف حماه ،وقد جاء بعده ابنه مجيب، الذي ادعى الألوهية، لكنه قتل أيضاً على يد رئيس المخابرات السورية آنذاك سنة 1951م، وبعد مقتله تقلد شقيقه (مغيث) الربوبية المزعومة عن أبيه وشقيقه ، وما تزال فرقة (المواخسة) النصيرية يذكرون اسمه على ذبائحهم حتى اليوم ، ومن أشهر رجالات الطائفة وزير الخارجية السوري الأسبق إبراهيم ماخوس.
ويذكر المؤرخون أمثال ابن كثير والطبري الكثير من القصص عن خيانات النصيرية وتعاملهم مع الغزاة ,وخاصة المغول والصليبيين ,حيث كانوا هم من فتح وقدم لهم مفاتيح أبواب دمشق ، وقصة تعاملهم مع القائد المغولي تيمور لنك شهيرة وموثقة في كتب التاريخ .
وأثناء وبعد فترة الاحتلال الفرنسي استطاع (النصيريون), وبتخطيط مسبق أن يتسللوا إلى التجمعات الوطنية في سوريا، واشتد نفوذهم في الحكم السوري منذ سنة 1965 م وعملوا تحت واجهة سُنية ،وقد سنحت لهم الفرصة للاستيلاء والانقضاض على الحكم تحت مسمى تجمع القوى التقدمية من الشيوعيين والقوميين والبعثيين في 12 مارس 1971 م, وتولى العلويون رئاسة الجمهورية عبر انقلاب على الجميع وبقيادة حافظ الأسد فيما عرف حينها بالحركة التصحيحية.
وقد كان تغيير مسمى النصيرية إلى العلويين من قبل المحتل الفرنسي الذي مكن لهم في سوريا كما مكّن للنصارى في لبنان، أثره الكبير على مستقبل عمل ونفوذ هذه الطائفة في سوريا والمنطقة ككل ، فقد أدخلها المسمى الجديد في نطاق المجموعات المتشيعة بعد ان كانت طائفة منبوذة من قبل الجميع لاتتبع لأي طائفة أو مذهب ودمجها المستعمر الفرنسي ضمن المعسكر الشيعي الذي يمتد من باكستان مرورا بإيران والعراق وانتهاء بسوريا ولبنان .
وعلى الرغم من كون أغلبية مراجع الشيعة يقرون بكفر النصيرية وعدم انتمائهم للمذهب الجعفري الإثني عشري ،إلا أن بعض مرجعياتهم سعت لتشييع النصيرية وضمهم لأتباع المذهب الجعفري وهذا ماجرى خلال فترة حكم حافظ الأسد لسوريا والتي امتدت ل 30عاماً ، ويظهر جليا مما سبق حرص المحتل الفرنسي ورعايته الكاملة لهذه الطائفة التي كانت إلى زمن غير بعيد تتقوقع على نفسها في جبال الساحل السوري ،وقد كان تغيير المسمى و إنشاء دويلة طائفية مؤقتة تحمل مسمى العلويين دليلا قاطعا على رغبة القوى الكبرى في إيجاد موقع هام لهذه الطائفة على واجهة العمل السياسي وعلى كافة الأصعدة في سوريا فيما بعد, وقد كان لهم ذلك على حساب الأغلبية السنية والتي عملت فرنسا جاهدة وبقوة على تهميشهم وتقليص نفوذهم لتكون الغلبة والسيطرة للطائفة النصيرية التي تحكمت لأكثر من نصف قرن في شؤون سوريا.
المصدر : موقع المثقف الجديد