قراقوش المظلوم

بواسطة منذر الشامي قراءة 7058

قراقوش المظلوم

بسم الله الحمد لله والصلاة والسلام على رسول وعلى آله وصحبه ومن والاه أما بعد:

فمذ صغري وأنا اسمع عوام الناس كلما رأوا ظلما وخاصة من المتنفذين قالوا الكلمة الشهيرة "حكم قراقوش" التي أصبحت مثلا على الظلم والتحكم بمصير الناس بطريقة انفرادية أي دكتاتورية.

إن الحكم على قراقرش بهذه الطريقة التعسفية هو مسلسل طويل من التشهير بعظمائنا ووصفهم بأقذع العبارات. كان المسؤول عنه الفرق الباطنية من أمثال الروافض وغيرهم .

فمن أمثال أبو بكر الصديق رضي الله عنه قاهر المرتدين الذي ربط اسمه بقصة فدك وعمر الفاروق ساحق دولتي كسرى وقيصر عندهم  كاسر ظلع فاطمة رضي الله عنها إلى خالد بن الوليد سيف الله الذي لقن الفرس والروم الدروس في الإقدام والشجاعة والخطط العسكرية التي تبهر العدو قبل الصديق عندهم قاتل رجل ومغتصب امرأته وهكذا العجلة الإعلامية الظالمة تدوس كل عظيم من عظمائنا  فها هو هارون الرشيد رحمه الله الذي في زمانه وأبان حكمه كانت دولة المسلمين في أوج عزها وتمكنها ورسالته إلى نقفور(1) ملك الروم مشهورة .والذي كان يحج عاما ويجاهد في سبيل الله عاما ويحب العلم والعلماء ماذا وصفه أصحاب الأقلام الغادرة . وصفوه بأنه صاحب طرب وغواني وينام على كأس الخمر . هذا هو دأبهم في الطعن بكبرائنا وباني مجدنا .

وعندما كنا أطفالا نسمع بعض البنات الصغار وهن يرددن أرجوزة في لعبهن ماهي الكل سيتذكرها .

هي : طلعت الشميسة على كبر(أي قبر) عيشة عيشة بت الباشا تلعب بالخرخاشة . تذكرتموها . من هي عيشة هي عائشة الطاهرة رضي الله عنها أم المؤمنين وزوجة نبينا الكريم محمد صلى الله عليه وسلم وأحب نسائه إليه .هكذا يعلمون أطفالنا كيف نسخر من عظمائنا من حيث لا نشعر انها آلة التشهير والطعن و الخبث الصفوي الرافضي . يريدون أن يهدموا كل مأثرة لنا . وممن نالته أيديهم وألسنتهم  الغادرة قراقوش رحمه الله فمن هو قراقوش .

بهاء الدين قراقوش كما جاءت ترجمته في وفيات الأعيان:

أبو سعيد قراقوش بن عبد الله الأسدي، الملقب بهاء الدين، كان خادم صلاح الدين، وقيل خادم أسد الدين شيركوه عم السلطان صلاح الدين، فأعتقه - وقد تقدم ذكره في ترجمة الفقيه عيسى الهكاري . ولما استقل صلاح الدين بالديار المصرية جعله زمام القصر، ثم ناب عنه مدة بالديار المصرية، وفوض أمورها إليه واعتمد في تدبير أحوالها عليه، وكان رجلا مسعودا وصاحب همة عالية، وهو الذي بنى السور المحيط بالقاهرة ومصر وما بينهما وبنى قلعة الجبل، وبنى القناطر التي بالجيزة على طريق الأهرام، وهي آثار دالة على علو الهمة، وعمر بالمقس رباطا، وعلى باب الفتوح بظاهر القاهرة خان سبيل.(وفيات الاعيان 4-91)

ولنترك الشيخ علي الطنطاوي في كتابه رجال من التاريخ يسرد سيرة هذا البطل المسلم فقال:

حدثتكم من شهور حديثا صححت فيه خطا شائعا وبرأت فيه متهما مظلوما حين رددت باطل المتنبي وبينت حق المؤرخين في كافور الملك العادل الذي صغره المتنبي وهو عظيم وسيف الدولة الذي جعله المتنبي أعدل الملوك وكان على براعته في الحرب من ظلمة الحكام .

ولقد جئت أحدثكم اليوم عن رجل راح ضحية الأدب المفترى عليه ، كما راح كافور بعده ضحية الشعر الظالم . . هو قراقوش .

وقراقوش المسكين الذي صار على ألسنة الناس في كل زمان وكل بلد المثل المضروب لكل حاكم فاسد الحكم ، فكلما أراد الناس أن يصفوا حكما بالجور والفساد قالو : هذا حكم قراقوش.

وهم يحرفون اسمه فوق تحريف تاريخه ..فيقولون قلااقاش بدل قراقوش ، وقراقوش بالتركية -النسر الأسود- (قوش +نسر ، قرا : أسود)/ إن قراقوش له صورتان صورة تاريخية صادقة وصورة روائية صورها عدو له من منافسيه .

والعجيب أن الصورة التاريخية الحقيقية طمست ونسيت والصورة الخيالية بقيت وخلدت فلا يذكر قراقوش إلا ذكر الناس هذه الحكايات العجيبة وهذه الأحكام الغريبة التي نسبت إليه وافتريت عليه ..

فمن هو قراقوش؟

هو أحد قواد بطل الإسلام صلاح الدين الأيوبي كان من أخلص أعوانه وأقربهم إليه وكان قائدا مظفرا وكان جنديا أمينا وكان مهندسا حربيا منقطع النظير .

وكان مثالا كاملا للرجل العسكر إذا تلقى أمرا أطاع بلا معارضة ولا نظر ولا تأخير ، وأن أمر أمرا لم يرض من جنوده بغير الطاعة الكاملة لا اعتراض أو تأخير أو نظر .

وكان أعجوبة في أمانته ، لما أحس الفاطميون بقرب زوال ملكهم شرعوا يعبثون بنفائس القصر ويحملون منها ما يخف حمله ، ويغلو ثمنه وكان القصر مدينة صغيرة كدس فيها الخلفاء الفاطميون (كذا يعوهم الناس وليسوا على التحقيق من الفاطميين ) خلال قرون من التحف والكنوز والنفائس مالا يحصيه العد ولو أن عشرة لصوص أخذو منه ما تخفيه الثياب لخرج كل منهم بغنى الدهر ولم يحس به أحد .

فوكل صلاح الدين قراقوش بحفظ القصر فنظر فإذا أمامه من عقود الجواهر والحلي النادرة والكؤوس والثريات والبسط المنسوجة بخيوط الذهب ما لا مثيل له في الدنيا هذا فضلا عن العرش الفاطمي الذي كان من أرطال الذهب لا ومن نوادر اليواقيت والجواهر ومن الصنعة العجيبة ما لا بقوم بثمن (ومثله عرش الطاوس الذي تعتز به غيران وما هو لها إنما هو عرش شاهجهان باني تاج محل (.

وكان في القصر فوق ذلك من ألوان الجمال في المئات والمئات من الجواري المتحدرات من كل أمم الأرض ، ما يفتن العابد فلا فتنه الجمال ولا أغواه المال وفى الأمانة حقها ولم يأخذ لنفسه شيئا ولم يدع أحدا يأخذ منها شيئا وهو الذي أقام أعظم المنشئات الحربية التي تمت في عهد صلاح الدين وإذا ذهبتم إلى مصر وزرتم القلعة المتربعة على المقطم المطلة على المدينة فاعلموا أن هذه القلعة بل المدينة العسكرية اثر من آثار قراقوش .

وإذا رأيتم سور القاهرة الذي بقي من آثاره إلى اليوم ما يدهش العين فاعلموا أن الذي بنى السور وأقام فيه الجامع وحفر البئر العجيبة في القلعة هو قراقوش . ولما وقع الخلاف بين ورثة صلاح الدين وكادت تقع بينهم الحرب ما كفهم ولا ردهم إلا قراقوش .

ولما مات العزيز الأيوبي وأوصى بالملك لابنه المنصور وكان صبيا في التاسعة جعل الوصي عليه قراقوش فكان الحاكم العادل والأمير الحازم أصلح البلاد وأرضى العباد .

هذا قراقوش فمن أين جاءت تلك الوصمة التي وصم بها ؟ ومن الذي شوه هذه الصورة السوية ؟

إنها جريمة الأدب يا سادة .

لقد أساء المتنبي إلى كافور فألبسه وجها غير وجهه الحقيقي وأساء ابن مماتي إلى قراقوش فألبسه وجها غير وجهه الحقيقي .

ولم يعرف الناس من الاثنين غلا هذا الوجه المعار كوجه الورق الذي يلبسه الصبيان في العيد .

ابن مماتي هذا كاتب بارع وأديب طويل اللسان ، كان موظفا في ديوان صلاح الدين وكان الرؤساء يخشونه ويتحامونه ويتملقونه بالود والعطاء ولكن قراقوش وهو الرجل العسكر الذي لا يعرف الملق ولا المداراة لم يعبأ به ولم يخش شره ولم يدر أن سن القلم أقوى من سنان الرمح ، وأن طعنة الرمح تجرح الجرح فيشفى أو تقتل المجروح فيموت أما طعنة القلم فتجرح جرحا لا يشفى ولا يريح من ألمه الموت

فألف ابن مماتي رسالة صغيرة سماها " الفافوش في أحكام قراقوش " ووضع هذه الحكايات ونسبها إليه …….. وصدقها الناس . ونسو التاريخ

ومات قراقوش الحقيقي وبقي قراقوش الفافوش كما مات كافور التاريخ وبقي كافور المتنبي وكما نسي عنترة الواقع وبقي عنترة القصة ……

هذا يا سادة سلطان الأدب ….فيا أيها الأدباء اتقوا الله في هذا السلطان ..وياأيها الناس لا تنخدعوا بتزيف الأدباء.

(المصدر: رجال من التاريخ - الشيخ علي الطنطاوي رحمة الله عليه)

 

وذكر الكاتب (رشاد أبو شاور) عن قراقوش فقال :

(قراقوش) رومي الأصل، بعض سيرته في بدايتها مجهول، فقد امتلكه أسد الدين شيركوه، عم صلاح الدين الأيوبي، وحرره من العبودية، ثمّ جعله لكفاءته وذكائه أحد ضبّاط جيشه. اختار لنفسه اسم بهاء الدين بن عبد الله الأسدي، نسبةً إلى سيّده (أسد الدين)، والذي اصطحبه معه إلى مصر. بعد وفاة أسد الدين انتقل لخدمة ابن أخيه صلاح الدين الأيوبي واستبدل كنيته (الأسدي) بـ(الناصري) نسبة للناصر صلاح الدين.

جعله صلاح الدين الأيوبي متوليّاً على القصر الفاطمي بعد أن أنهيت الخلافة الفاطمية ودعى على المنابر للخليفة العبّاسي، فعالج (قراقوش) الأمور بشدّة وحكمة ويقظة، وأفسد كل المؤامرات التي حاول تدبيرها من بقي في القصر من البطانة الفاطميّة.

يكتب الدكتور عبد اللطيف حمزة: احتاج السلطان صلاح الدين إلى منشآت حربيّة ومدنيّة، كان من أهمّها إقامة الجسور، وتطهير الترع، وتشييد القلاع والأسوار المحيطة بالبلاد، لتقيها شّر الغارات التي قد تأتي إليها من جانب الفرنج...

يتوقّف الدكتور (حمزة) عند مواهب (قراقوش) الهندسيّة، وبراعته في إنشاء القلاع مستفيداً من أساليب الفرنج في هندستها، وبما يلائم حاجات المسلمين، وجيوش السلطان في الدفاع عن مصر.

قراقوش بني قلعة المقطّم التي أقام فيها حكاّم مصر بمن فيهم محمد علي باشا - وفيها وقعت مذبحة المماليك - وقلعة (المقس) المطّلة على النيل، وأنشأ الأبراج العالية لمراقبة تحركات جيوش الفرنجة، وبنى أسواراً جديدة حصينة من الحجارة للقاهرة غير التي كان بناها جوهر الصقللي، وبدر الدين الجمالي.

انتدبه القائد صلاح الدين الأيوبي بعد تحرير عكّا لتحصينها بأسوار تحول دون عودة الفرنجة لاحتلالها، ولكن الفرنجة جمعوا فلولهم وجاءتهم النجدات فعادوا وحاصروا المدينة سنتين، أبلى فيهما (قراقوش) بلاءً حسناً، بشدّه أزر المدافعين عن المدينة بانتظار قدوم جيوش المسلمين لإنقاذها ومن فيها.

أسر قراقوش في معركة الدفاع عن عكّا، وعندما افتداه صلاح الدين وحررّه مع من حرّر من أسرى المسلمين سرّ به أيّما سرور، ورفع من قدره. لم يهدأ الرجل، فقد حمل العبء بعد وفاة صلاح الدين، وعنى بأبنائه، وإصلاح ذات البين بينهم، وصان حفيده الصغير(المنصور) فصار أتابكه (معلّمه)...

إن سيرة هذا (الأمير) المعروفة بدأت وهو عبد، ومن ثمّ حر محارب، ومهندس، وقائد صمود عكّا، والوصي على الحكم في مصر، وكل هذه المسيرة الغنيّة الواسعة تتسم بالوفاء، ونكران الذات، والحرص على بلاد المسلمين، والبعد عن الأنانيّة، و(الشدّة) في إنجاز ما يوكل إليه من مهام، وربّما لذلك جرى التشنيع على سمعته ليضحى مسخرةً، وسبّة، فمن الذي فعل ذلك؟

يكتب الدكتور حمزة: الواقع أن قراقوش لم يظلم ولم يتجبّر، ولم يبطش بأحد من المصريين، أو غيرهم من المسلمين، ولم يصدر في عمل من أعماله عن عقل يمكن أن يوصف بالخبل، أو الجنون، فما سبب هذه الأحدوثة السيئة التي اشتهرت عن قراقوش يا ترى؟!

لقد شاءت الأقدار أن تسلّط عليه لسان أديب أريب هو (إبن مماتي)، والذي كان يشغل منصباً كبيراً في الدولة الأيوبيّة، في نفس زمن (قراقوش) والقاضي الفاضل البيساني، في خدمة صلاح الدين الأيوبي!

شارك ابن مماتي في لعبة سياسيّة بين أبناء صلاح الدين، ووظف بعض الطرف الهجائيّة للنيل من شخصيّة (قراقوش)، ملحقاً به أذيً يمتّد حتى زمننا،انتهى

 

نستخلص مما ذكر:

1-  إن قراقوش هو احد القادة العظام الذين كان يعتمد عليهم البطل القائد صلاح الدين الأيوبي.

2-  قراقوش هو من انهى الحكم الفاطمي الرافضي في مصر.

3- هو قائد الدفاع عن عكا امام الجيوش الصليبية ودافع عنها دفاع المستميت وأسر في المعركة وفداه صلاح الدين بمال جزيل وفرح بفك أسره.

4-  كان رجلا قمة في الأمانة حيث حفظ الكنوز التي تركها الفاطميون وأداها إلى الدولة آنذاك.

5-  حفظ بإذن الله الدولة من التفكك بعد موت صلاح الدين الأيوبي.

6-  كان مهندسا بارعا حيث بنى القلاع والحصون التي تحمي الدولة الإسلامية.

وغير ذلك كثير من مآثره وبطولاته فلا عجب أن تتناوله الأيادي الآثمة الرافضية كما تناولت غيره من عظمائنا لا سيما وانه قد قضى على دولة الفاطميين .

هذا للبيان والله من وراء القصد ونسأل الله أن يرحم عظمائنا ويسكنهم فسيح جناته اللهم أمين.

 

إعداد: منذر الشامي

25-1-2010

 

(1) كانت شهرة هارون الرشيد قبل الخلافة تعود إلى حروبه ضد الروم، فلما ولي الخلافة استمرت الحروب بينهما، وأصبحت تقوم كل عام تقريباً. وأضطرت دولة الروم أمام ضربات الرشيد المتلاحقة إلى طلب الهدنة والمصالحة، فعقدت إيريني ملكة الروم صلحاً مع الرشيد، مقابل دفع الجزية السنوية له في سنة 181هـ، وظلت المعاهدة سارية حتى نقضها إمبراطور الروم، الذي خلف إيريني في سنة 186هـ، وكتب إلى هارون: "من نقفور ملك الروم إلى ملك العرب، أما بعد فإن الملكة إيريني التي كانت قبلي أقامتك مقام الرخ (أي بمعنى القلعة القوية)، وأقامت نفسها مقام البَيْدق (أي بمعنى الجندي الضعيف)، فحملت إليك من أموالها، ما كنت حقيقًا بحمل أضعافه إليها، ولكن ذاك ضعف النساء وحمقهن، فإذا قرأت كتابي فاردد ما حصل قبلك من أموالها، وأفتدِ نفسك، وإلا فالحرب بيننا وبينك".

فلما قرأ هارون هذه الرسالة ثارت ثائرته، وغضب غضبًا شديدًا، وكتب على ظهر رسالة الإمبراطور: "من هارون أمير المؤمنين إلى نقفور كلب الروم، والجواب ما تراه دون أن تسمعه، والسلام".

وخرج هارون بنفسه في 183 هـ، حتى وصل هرقلة واضطر نقفور إلى الصلح والموادعة، وحمل مال الجزية إلى الرشيد كما كانت تفعل إيريني من قبل، ولكنه نقض المعاهدة بعد عودة الرشيد، فعاد الرشيد إلى قتاله في عام 188هـ وهزمه هزيمة منكرة، وقتل من جيشه أربعين ألفا، وجُرح نقفور نفسه.

 



مقالات ذات صلة