وقعت معركة “السلطان يعقوب” في يوميّ الخميس والجمعة 10-11 تموز/يونيو 1982م بين قواتٍ من الجيش السوري والمقاومة الفلسطينية منّ جهة وجيش الاحتلال من جهةٍ أخرى، وذلك بعد أربعة أيامٍ من بداية الاجتياح "الإسرائيليّ" للبنان أو ما سُمّي "إسرائيليًا" عملية “سلامة الجليل”، حيث حاولت "إسرائيل" التقدّم شمالًا عبر البقاع الغربي على الطّريق الرابط بين بلدة “راشيا” ونقطة “المصنع اللبناني” وطريق دمشق-بيروت، بهدف قطع الطريق الدولية وعزل القوات الفلسطينية والسورية المتواجدة في البقاع الأوسط والاشراف على منطقة الحدود السورية-اللّبنانية من خلال احتلال بلدة “عيتا الفخار” ما يضع دمشق وريفها تحت التهديد المباشر، إذ أنّ المسافة بين البلدة والعاصمة السورية لا تتجاوز الأربعين كيلومترًا. الأمر الذي وضع الجيش السوري والمقاومة الفلسطينية في المنطقة تحت ضغطٍ كبيرٍ، حيث دارت المعركة بين الطرفين لمدّة تجاوزت الثماني ساعات متواصلة وأدّت إلى فشل قوات الاحتلال في التقدّم، وتكبّدت على اثرها خسائرًا كبيرة، قُدّرت بستين دبابةٍ وثلاثين قتيلٍ وعشرات الجرحى، وقدّ استطاع جيش الاحتلال تحت غطاءٍ ناريٍ كثيفٍ سحب أغلب الآليات المعطوبة وجثث القتلى، بينما فُقِد له ثلاثة جنودٍ (زخريا باومل، ويهودا كاتس، وتسفي فيلدمان)، كانت المقاومة الفلسطينية قدّ سحبت جثثهم ونقلتها عبر الحدود إلى دمشق ثمّ مخيم “اليرموك” حيث تمّ دفنها في مكانٍ سريٍ داخل "مقبرة الشهداء".
لطالما كان ملف الجثامين والجنود الأسرى مضمار صراعٍ خاصٍ بين المقاومة الفلسطينية والعربية من جهة ودولة الاحتلال من جهةٍ أخرى، إذّ شهد هذا المضمار عددًا منّ صفقات تبادل الأسرى كان من أشهرها الصفقة التي أبرمتها حركة فتح عام 1983م والصفقة التي أبرمتها "الجبهة الشعبية-القيادة العامة" عام 1985م وآخرها صفقة “وفاء الأحرار” عام 2011 م والتي تُعتبر الأعلى ثمنًا بالنسبة للاحتلال على مستوى عدد الأسرى الفلسطينيين الذين أُفرج عنهم.
جثث جنود الاحتلال “المفقودين” في معركة “السلطان يعقوب”، ظلّت ملفًا أمنيًّا و"وطنيًّا" فلسطينيًا، تحمّل عبئه مجتمع اللجوء الفلسطيني في مخيّم اليرموك خاصةً، وحفظته بيئة "الفصائل" الفلسطينية لفترةٍ طويلةٍ -بصرف النظر عنّ أدائها في ملفاتٍ أخرى- في وجه الجهد الاستخباري الصهيوني الهادف لانتزاع أيّ معلوماتٍ عن هذا الملف، ولأسبابٍ غير معلومةٍ بقي هذا الملف مؤجلاً فلمّ يدخل في أيٍّ من صفقات التبادل السابقة، ربّما بسبب تعقيدات وجودهم في بيئةٍ فلسطينيةٍ على أرضٍ سورية، أو لأسبابٍ أكثر تعقيدًا من ذلك. الاحتفاء "الإسرائيلي" الرّسمي بالعودة المجانية لجثّة الجندي “باومل” مدعاةٌ لبحثٍ حقيقيٍ عن جهة المسؤوليّة عن الحدث وعن عدم استفادة الأسرى الفلسطينيين من هذه “البادرة الانسانية”. العلّة التي نتعقّبها هُنا، هي عنّ كيفية التعامل مع الملفات المختلفة في الحالة الفلسطينية المتراجعة، وفي بيئةٍ رسميّةٍ عربية أقلّ ما يقال أنّه لا يُمكن الاطمئنان لسلوكها تجاه حفظ الحقوق الفلسطينية.
مجريات الحدث
بصورةٍ مفاجئةٍ ومن جانبٍ واحدٍ أعلنتْ “اسرائيل” عنّ تسلمها لرفات أحد جنودها الثلاثة المفقودين في معارك “السلطان يعقوب” عبر وسائل الاعلام "الإسرائيلية"، وكعادتها مارست الصحافة العبرية في البداية عملية تضليلٍ واسعةٍ من خلال تجهيل الجهات والدول التي ساهمت في الوصول إلى الرفات، بغيّة التغطية على أساليب العمل وطرق التنفيذ وضرب الأطراف ذات العلاقة ببعضها البعض، وذلك عندما قالت أنّ العملية تمّت بتعاونٍ من جهاتٍ سوريةٍ عبر طرفٍ ثالث، دون الافصاح عن أيّ تفاصيلٍ اضافية، الأمر الذي أشعل جدلًا كبيرًا بين السلطات السورية والمعارضة، حيث اتّهم كل منهما الطرف الآخر بالتورط في العملية، لكن المعطيات المتوفرة استنادًا للتصريحات الرسمية للأطراف ذات الصلة تفيد بأنّنا أمام عمليةٍ استخباريةٍ بامتياز، نفّذتها الاستخبارات العسكرية الروسية بالتعاون مع أجهزة المخابرات "الإسرائيلية". لذا فإنّ الوصول لمعلوماتٍ دقيقةٍ ومؤكدةٍ عنّ حيثيات العملية ومُلابساتِها ليس بالأمر السهل.
من نافل القول اليوم، أنّ "إسرائيل" تستفيد بشكلٍ كبيرٍ من حالة الفوضى السائدة على الأراضي السورية منذ سنوات، بلّ إنّها تكاد تكون أكثر المستفيدين، وتاليًا فإنّ الرئيس الروسي “فلاديمير بوتين” حسم الجدل الدائر بشأن الجهة التي قامت بالبحث عنّ رفات الجندي، وتسليمه كإنجازٍ على طبقٍ منّ ذهب لرئيس وزراء دولة الاحتلال “بنيامين نتنياهو” قُبيل المعركة الانتخابية المُرتقبة، وذلك عندما قال وهو يستقبل “نتنياهو” في موسكو يوم الخميس في الرابع من شهر نيسان الجاري، بأنّ جنودًا روسيين وسوريين عثروا على رفات الجنديّ "الإسرائيلي"، وقامت روسيا بتسليمها لـ"إسرائيل"، وهذا يفسّر ما ألمح إليه الناطق بإسم وزارة الدفاع الروسية اللواء “ايغور كوناشينكوف” منذ بضعة أشهر، عندما قال أنّ بلاده تعمل على مساعدة “إسرائيل” في سورية بخصوص قضيةٍ “انسانيةٍ”، ولمّ يُوضح حينها طبيعة هذه المساعدة.
الجدير ذكره أنّ مصادر متعدّدة أكّدت حصول “إسرائيل” على معلوماتٍ خاصةٍ تُفيد بوجود رفات الجنديّ القتيل في مقبرة “الشهداء” في مخيّم اليرموك، وكانت أجهزة الاستخبارات "الإسرائيلية" قدّ انتزعتها أثناء التحقيق مع عددٍ منّ الأسرى الفلسطينيين الذين قَدِموا منّ سوريا بُعيد اتفاق اوسلو.
ما كان معهودًا بخصوص هذه الملفات الأمنيّة أنّها تقع فلسطينيًا في عُهدة جهاز “أمن الثورة” التابع لمنظمة التحرير، والذي ورثه عمليًا جهاز المخابرات العامّة للسلطة الفلسطينية، واللاّفت في هذا الجانب ما قدّمته مصادرٌ فصائلية عنّ دورٍ لجهاز مخابرات السلطة الفلسطينية في السنوات الاخيرة، في التحرّي والبحث عنّ معلوماتٍ ذات صلة بهذا الملف وتعلّقت بالمكان المحتمل لدفن الجنود، وهنا، لا شهادة رسميّة أو حتى تسريباتٍ غير رسميةٍ توضّح موقف الجهات الفلسطينية من الملف، سواء جهة الاختصاص الرسميّة المذكورة أو حتى في صفوف الفصائل الفلسطينية الأعلى نفوذًا على الأراضي السورية، باستثناء تصريحات “أنور رجا” المسؤول في "الجبهة الشعبية- القيادة العامة"، والتي اتّهم فيها المعارضة السورية بتسليم الجثث لـ"إسرائيل"، على نحوٍ يتناقض مع الرواية الروسية الرسمية.
بالعودة للدور الروسي في الحدث، تحدّثت مصادرٌ محلية عنّ وجود قوةٍ خاصة تتبع للجيش الروسي، قامت بمهمات بحثٍ عنّ الرفات مستعينةً بعناصر محلية، وبالتنسيق مع القوات الموالية للسلطات السورية والمتحالفة معها، والتي تنتشر في محيط المخيّم وتمنع عودة السكان إليه منذ ابرام الاتفاق بينها وبين تنظيم الدولة “داعش”، والذي أفضى إلى خروج التنظيم من المخيم.
مصادر من سكان المخيم أكّدوا بأنّ السلطات السورية حاولت فيما سبق الوصول إلى معلوماتٍ عن مكان وجود رفات الجنود "الاسرائيليين" في مقبرة مخيّم اليرموك، وتحديداً في العام 2007، حيث ضربت الأجهزة الأمنية طوقًا حول المقبرة ودخلت عناصر أمنية إليها واستمرت هذه الاجراءات في محيط المقبرة لمدّة خمسة أيام، ولمّ يُعرف حينها إنّ كانت هذه الجهات قدّ توصلت لمعلوماتٍ دقيقةٍ عنّ مكان الرفات ومقتنيات الجنود القتلى، أمّ أنّها حصلت عليها بالفعل وأُضيفت إلى ملف المفاوضات السورية-"الاسرائيلية"، والتي عُرفت محاولاتٍ لاستئنافها أواسط ذلك العقد.
في حين أكّدت مصادرٌ مطلعةٌ منّ أبناء المخيّم أنّ جهاتٍ أمنيّةً في السلطة الفلسطينية كانت على علمٍ بموقع رفات الجندي "الإسرائيلي" في "مقبرة الشهداء"، حيث بادرت فور انتهاء المعارك بين "داعش" والجيش السوري إلى العمل على الوصول إلى الرفات تحت يافطة رفع الأنقاض منّ شوارع المخيّم وترميم المقبرة، ورَصدت مبلغاً كبيراً لهذا العمل، ولمّ تُتح لها فرصة تقديم هذه الخدمة للجانب "الإسرائيلي"، وذلك بسبب الإجراءات المشدّدة في محيط المقبرة، والتي تُشير لإدراك الجهات الأمنية السورية لوجود مساعٍ وتحركاتٍ تهدف للعثور على الرفات منّ جهاتٍ متعدّدة، ونيّة الأمن السوري الاحتفاظ بهذا الملف لتوظيفه وفقًا لأجندته الخاصة.
جهة الاختصاص الفلسطينية المُفترضة وهي جهاز المخابرات العامّة، كان لها محاولات ٍسابقةً وجهودً حثيثةً بهدف الوصول إلى مكان الرفات، بذلتها من خلال نشطاء فلسطينيين منّ سورية، مرتبطين بها بشكلٍ مباشر، عملوا منّ صفوف المعارضة السورية المسلّحة، وكذلك عبر مؤسساتٍ تنشط في المجال الإغاثي والإنساني، وعُرف عنهم تقديمهم لخدماتٍ أمنيةٍ كثيرة لجهاتٍ داخليةٍ وخارجية في منطقة جنوب دمشق.
خلاصة ومسؤوليّات
بحسب ما تُشير إليه افادات المصادر فقدّ تعاون هؤلاء المرتبطين بالجهات الأمنيّة الفلسطينية، مع الاستخبارات العسكرية الروسية، في اتجاهٍ أدى لحل العُقد التي حالت دون وصول "إسرائيل" لرفات الجندي، وهو ما يُعيدنا للتساؤل حول دوافع وطبيعة الدور الفلسطيني في هذا الملف، ودرجة اطلاع الجهات الأمنيّة الفلسطينية على النوايا الروسية بخصوصه.
الخلاصة أنّ هنالك ورشةٌ أمنية فُتحت في مخيم اليرموك في الأشهر القليلة الماضية، تورّطت فيها جهات سورية وفلسطينية وتسابقت مع الجانب الروسي للوصول إلى رفات الجنود بدوافع وأغراض متعدّدة، وهو ما يفتح الباب عريضًا أمام امكانية أنّ يتمّ التعامل بذات الطريقة مع ملفاتٍ أمنيةٍ وسياسية عدّة، لطالما اختزنتها مخيّمات اللجوء الفلسطيني، والتي شكّلت ذات يومٍ بيئةً منيعةً ورافدًا أساسيا لصمود الشتات الفلسطيني، واليوم بعد أنّ هُجّرت الغالبية العظمى منّ سكانها، يبدو أنّ هنالك مسعى لتفكيك وشطب الملفات التي حافظت عليها بيئة المخيمات الفلسطينية في الخارج، وطيّ كل معنى للصمود الوطني حملته هذه المخيّمات بوجودها المادّي ورمزيتها المعنوية.
المصدر : مجموعة العمل من أجل فلسطينيي سوريا
6/8/1440
11/4/2019