الصعود الإقليمي: النموذج التركي في مواجهة النموذج الإيراني

بواسطة علي حسين باكير قراءة 677
الصعود الإقليمي: النموذج التركي في مواجهة النموذج الإيراني
الصعود الإقليمي: النموذج التركي في مواجهة النموذج الإيراني

الصعود الإقليمي: النموذج التركي في مواجهة النموذج الإيراني

 

علي حسين باكير

في الوقت الذي تشهد فيه خريطة ما يسمى بـ"الشرق الأوسط" إعادة تشكيل وتوزيع لمراكز القوّة والسلطة والقرار خاصة بعد انهيار البوابة الشرقية للعالم العربي اثر احتلال العراق، ومن قبله إقصاء النظام الأفغاني "الطالباني"، وتقديم الولايات المتّحدة هذه المتغيرات الكبيرة في ذاتها وفي تداعيتها لإيران على طبق من ذهب، ترتقي تركيا إقليميا بشكل تفاعلي سلمي بعيدا عن الأضواء الصاخبة.

والملاحظ انّ معظم المراقبين والكتّاب الذين يمتدحون تركيا الآن وموقفها من القضية الفلسطينية، كان من أوائل من قام بشتم تركيا وتخوينها، وهي عادة العرب للأسف في التسّرع بالحكم على الأمور والاعتماد على رد الفعل العاطفي. إذ أن المدقق في هذا الصعود الجيو-سياسي لتركيا، يستطيع أن يلاحظ انّه يأتي بشكل منسجم مع طبيعة المنطقة وارثها وبعيدا عن الحساسيات، بحيث لا يفرض نفسه بالقوة على المنطقة، ويقدّم في نفس الوقت نموذجا مغايرا عن النموذج الصدامي، الانتهازي الابتزازي الذي تقدّمه إيران.

ويركّز النموذج التركي على الجبهتين الداخلية و الخارجية للبلاد. فعلى الصعيد الداخلي، عملت تركيا على تحصين الداخل وعلى توسيع الحريات الممنوحة جذب أكبر عدد ممكن من الجمهور كغطاء يتم الاستعانة به لتحقيق الأجندة الخاصة بحزب العدالة والتنمية من دون الصدام المباشر مع العلمانيين، وذلك عبر محاربة الفساد والتركيز على قيم الشفافية والعدالة، وتحسين الوضع الاقتصادي للبلاد وتاليا للفرد.

 فكثير منّا لا يعلم انّ الاقتصاد التركي وبعد انّ شارف على الانهيار في التسعينيات أصبح في السنوات القليلة الماضية في ظل حكومة حزب العدالة والتنمية الاقتصاد الأكبر إسلاميا محتلا المركز الـ15 عالميا علما أنّ تركيا دولة غير منتجة للنفط بل ويشكّل الأخير عبئا كبيرا عليها لاسيما في ظل الارتفاع الهائل لأسعاره، حيث يبلغ حجم واردتها النفطية حوالي 20 مليار دولار وهو ما يوازي حجم عائدتها السياحية لعام 2006 و البالغ 20 مليار دولار مع وجود خطط لرفعها إلى 30 مليار خلال السنتين القادمتين.

اظهر الاقتصاد التركي انّ الاعتماد على العلم والعمل أي المعرفة والتصنيع قادر على تحقيق المعجزات. فرغم الأزمات الشديدة التي شهدها هذا الاقتصاد والتي كانت تهدد بانهياره، استطاع الخروج من محنته بل وتحقيق أرقام قياسية في كافة المجالات معتمدا على عدد من الإجراءات والإصلاحات الهيكلية التي جعلته يتفوق على كل الاقتصاديات الإسلامية الريعية بمعظمها، وبلغ الناتج المحلي الإجمالي وفقا للأرقام الرسمية، 663 مليار دولار أو ما يوازي 887 مليار دولار إذا ما قيس بالنسبة للقوة الشرائية، وتبلغ الصادرات التركية التي يغلب عليها الطابع الصناعي لوحدها حوالي 107 مليار دولار فيما يبلغ معدّل دخل الفرد السنوي ما بين 9 و 10 آلاف دولار، مع ضرورة الأخذ بعين الاعتبار انّ عدد سكّان تركيا يتجاوز الـ 70 مليون.

على الصعيد الخارجي، عملت تركيا على التفاعل مع المحيط العربي (سواءا في الخليج العربي أو الشام) والابتعاد عن ما من شأنه أن يثير الحزازيات، كأن تقدّم نفسها ممثلا مذهبيا أو عنصرا متفوقا تاريخيا أو قوميا أو عبر فرض نفسها كقائد ميداني.

وقد سعت تركيا عبر حزب العدالة والتنمية إلى إبداء حسن النيّة من خلال إنهاء جميع المشاكل الحدودية الكبرى التي كانت عالقة بينها وبين العرب خصوصا سوريا والعراق، ومن ثمّ عرضت رؤيتها الإقليمية واستعدادها الانفتاح على الجميع وتقديم المساعدة الممكنة عبر زيارات مكوكية قام بها آنذاك عبدالله غول لجميع الدول العربية الهامة وفي مقدمتها السعودية، مصر، وسوريا.

وما يميّز النموذج التركي في هذا الإطار، انّ صعودها إقليميا لم يأت نتيجة صفقات أو مساومات أو ابتزاز، كما لم يأت على حساب أحد، وهي وان كانت قادرة على استغلال حاجة أمريكا و حلف شمال الأطلسي إليها خاصة سابقا أثناء حرب أفغانستان و العراق، أو لاحقا، إلاّ أنّها لم تفعل.

كما أنها لم تقبض ثمن الأضرار الجسيمة التي أصابتها جرّاء موقف برلمانها المشرف منع حليفها الأمريكي من استخدام قاعدة "انجرليك" للانقضاض على العراق. ومقارنة بموقف جارها الإيراني الذي يدّعي العداء لأمريكا على سبيل المثال، رفضت تركيا التغلغل الإسرائيلي في شمال العراق في الوقت الذي تقاسم نفوذ المنطقة في شمال العراق إسرائيل إيران عبر مكاتب تمثيل خاصة.

النموذج التركي يكتسب مصداقيته أيضا من خلال تقديم نفسه كعنصر مصالحة واتّحاد وليس كعنصر تفرقة وتناحر واقتتال. يمكننا أن نرى ذلك بشكل واضع في النمو ذج الإيراني المتناقض تمام مع التركي سواءا على صعيد تحصين الساحة العربية الداخلية بين مكونات الشعب الواحد أو عبر مساندة القضية الفلسطينية بمواقف عملية بعيدا عن "الشعارتيه" التي تهدف إلى المتاجرة بالقضية.

وعلى الرغم من انّه كان بامكان تركيا أن تتّبع النموذج الإيراني في الصعود على الساحة الإقليمية، الاّ أنّها أكثر وعيا من إيران لحساسية وخطورة هكذا خطوة مستقبلا على الصعيد الإقليمي والدولي.

ليس من المصادفة أن تكون العلاقات الإيرانية-التركية جيّدة إلى حد ما، ولعل ذلك يعود بالأساس إلى وجود نوع من التوازن في ميزان القوى الثنائي على الصعيد الإقليمي. لكنّ المتتبّع لمسار النموذجين التركي والإيراني سيلاحظ انّهما سيصطدمان في مكان ما لاحقا، ليس على رقعة الانتشار ومناطق الهيمنة والنفوذ، وإنما على المحصّلة.

إذ انّ النموذج التركي يسحب البساط من تحت القضايا التي تتخذها إيران ذريعة وتستخدمها للارتقاء إقليميا. فالحل الديبلوماسي الذي تطرحه تركيا على سبيل المثال في القضية الفلسطينية وفي العلاقة بين سوريا وإسرائيل يتناقض مع طروحات إيران الثورية التي من مصلحتها الإبقاء على هذه المشاكل للمتاجرة بها، فأي صلح إسرائيلي-سوري سيعزل سوريا عن إيران استراتيجيا. وفي المقابل، فان بقاء المشكلة على ما هي عليه يكبّل تركيا و يحد من تحركها إقليميا. كذلك الأمر بالنسبة إلى وحدة الصف الداخلي عربيا، فتركيا تسعى إلى أن يكون هذا الوضع متينا بينما نرى انّ التحرّك الإيراني في المنطقة ساهم في إيجاد شروخ عميقة مذهبية و طائفية و سياسية لم تكن كذلك قبل أن تضع إيران استراتيجيتها للارتقاء الإقليمي موضع التنفيذ.

وفي مقابل كل من تقدّم تركيا وإيران إقليميا، نجد تراجعا عربيا مخيفا أضحى معه وضع ميزان القوى مختلا إلى درجة مهولة اقتصاديا وسياسيا وعسكريا، حيث تراجع دور مصر التاريخي في المنطقة ليتقوقع في غزّة ويبدو انّ حتى بساط غزّة أخذ يفلت من تحت أيديها، كما وأصبح تحرّكها ينحصر في معالجة نتائج التحركّات الإقليمية وانعكاساتها بدلا من أن يكون عنصرا فاعلا في صناعتها والوقاية من مساوئها.

 امّا المملكة العربية السعودية، فعلى الرغم من الدبلوماسية القوّية والنشيطة و المميزة التي اعتمدها الملك عبدالله عند بداية حكمه، الاّ اننا لاحظنا في ما بعد انّ دورها الإقليمي يفتقر إلى قوّة الإقناع أو القهر المعنوية، بما يعني انّ تحرّكاتها ستظل مجرّد تمنيات ومناشدات، كما أن تسبب إيران بانشقاقات مذهبية في المنطقة كبّل المملكة العربية السعودية على عكس ما يعتقد الجميع، اذ انّها لا تحبّذ التحرك وفق المنطق الإيراني المعتمد، بحيث يضر بصورتها وموقعها كممثل لجميع المسلمين وهو ما لا تريده على الأقل الآن في هذه المرحلة الحسّاسة، على الرغم من اعتقادي بانّها ستغيّر الكثير من المعطيات و تحجّم الدور الإيراني وأوراقه في حال قررت فعل ذلك. وعلى كل الأحوال، فانّ خريطة المنطقة الجديدة آخذة في التشّكل ولن يكون للضعيف فيها من مكان فاعل.

 

المصدر: المصريون

 



مقالات ذات صلة