أحمد بن يوسف السيد
17-8-2013
شاهدتُ عبر الشبكة خطبةً للدكتور عدنان إبراهيم قدَّمَها تحت عنوان " مشكلتي مع البخاري" وبعد مقارنتها بسائر خطبه الأخرى
ترسّخ لديّ بأن مشكلة عدنان إبراهيم ليست خاصة بصحيح البخاري؛ بل هي مع سائر كتب السنة، وهي مع الأقل صحة من (البخاري) أكبر وأشد؛ لأن صحيح البخاري يجمع أصح ما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ و ليست هناك أي خصوصية سلبية تجعل الإشكالية خاصة بالبخاري وصحيحه , فالأمر متعلق بمشكلة حقيقية لدى الدكتور عدنان إبراهيم مع السنة وروايتها بشكل عام كما سيظهر للقارئ الكريم في تفاصيل هذه الأسطر بإذن الله .
أدوات عدنان إبراهيم في تبرير مشكلته مع البخاري
يُفاجأ المشاهد بأن من أول ما يذكره عدنان إبراهيم في خطبته هو الموقف السيء لذاك الرجل المثقف الذي لم يكن مختصا في العلوم الشرعية، ويتمثل الموقف -باختصار- في أن هذا الرجل تهاون في الخطأ في القرآن وحين نوقش في ذلك دافع عن نفسه قائلا (هو إيه؟ أنا غلطت في البخاري؟!(.
وعلى قَدر الغرابة في هذا الموقف، فإن تعليق عدنان إبراهيم عليه أشد غرابة، حيث قال ما نصه عند الدقيقة 8:18 "وفي الحقيقة فهذا منطق سائد وشائع"ولا تستحق دعوى شيوع هذا المنطق أن يُرَد عليها بِقَدرِ ما ينبعث التعجب والتساؤل: لماذا يدّعي عدنان إبراهيم شيوع هذا المنطق غير الشائع؟ هل المراد بث الاستنكار والاستبشاع في أذهان المستمعين بحيث يربطون بين قول المُخالف لعدنان في موقفه من البخاري والأحاديث وبين هذه المواقف (الشائعة السائدة) ؟
لم ينته تعليق الدكتور على الموقف، حيث واصل ذاكراً "أن المثقف غير الشرعي طوال حياته إذا سمع ذِكر البخاري سمع بسماعه ألفاظَ العصمة والقداسة والتمام، وأنه يرى الهجوم على من تسول له نفسه التشكيك أو الترديد في حرفٍ من صحيح البخاري فضلاً عن التشكيك بجملة منه! " ربما يكون هذا الفهمُ شائعا بين فئامٍ من العوام وصغار الطلبة وربما بين عدد قليل ممن لهم دراية بالعلم والحديث، غير أن هؤلاء ليسوا وحدهم المخالفين للدكتور في قضية أحاديث البخاري؛ فإن أكثر من يخالفه في هذه القضية مِن حَمَلة العلم والمختصين في علم الحديث -إن لم يكن جميعهم إلا من شذ- يعلمون أن البخاري انتُقِد في مواضع، وأنها انتقادات معتبرة وليس بشرط أن تكون راجحة، ومع ذلك يُخالفون الدكتور في موقفه من صحيح البخاري والذي يختلف عن سائر هذه الانتقادات المعتبرة.
والمراد من الانتقاد في هذه الجزئية أن هذا القول الذي انطلق عدنان إبراهيم منه في خطبته بعد أن أوصل إلى النفوس بشاعته ليس هو الرأي الذي يمثل الثِقَل الحقيقي للمخالفين له في الموقف من البخاري ومن الأحاديث بشكلٍ عام! ولا عَجَبَ بعد ذلك أن تجد كثيراً ممن يطعن في البخاري وصحيحه وفي السنة وأحاديثها -من المثقفين والشباب- يقولون: "رواة الأحاديث بشرٌ يصيبون ويخطئون! والبخاري ليس معصوماً، وكل عمل بشري لا بد أن يعتريه نقص" سبحان الله! هل هذا قول مخالفيكم؟ إن كنتم سمعتموه من أحدهم مرة، فإن سائرهم لا يؤمن بهذا أبداً!
ينتقل عدنان إبراهيم بعد ذلك إلى أداة أخرى لتبرير مشكلته مع البخاري: وهي وجود من انتقد صحيح البخاري من كبار الحفاظ، مع أن انتقاداتهم على الصحيح تختلف تماماً عن انتقاداته، وتختلف عن النتيجة التي وصل إليها في الموقف من صحيح البخاري.
فالمتابع لما يطرحه عدنان يعلم أنه يرد عددا كبيراً من أحاديث الصحيحين ناسباً إياها إلى الكذب أو الدجل دون سير على قواعد علم الحديث المعتبرة - مع العلم بأن هذه القواعد ليست مقتصرة على النظر في الأسانيد كما قد يظنه البعض، بل تهتم بالمتون- وهذا هو الحد الفاصل بين الانتقاد المقبول والمردود لأحاديث الصحيحين، وهذا إجمال سيأتي تفصيله في باقي أسطر المقال إن شاء الله.
ومن العجيب أن الدكتور في سياق ذكره للأئمة الذين انتقدوا صحيح البخاري خَلَطَ بين من يُعتبر قوله في نقد صحيح البخاري وبين من لا يُعتبر قوله في ذلك.
فقد ذكر أن الأمة لم تُجمِع على صحة كل ما في البخاري، قال: لأن الأمة ليست فقط أهل السنة، بل فيهم الشيعة الزيدية، والشيعة الإمامية، والمعتزلة، والإباضية، وهؤلاء لا يلتزمون بصحة كل ما في البخاري!
إن من هؤلاء الذين ذكر عدنان من يُكفر الصحابة فهل ننتظر منهم أن يأخذوا بروايات مَن دونهم مِن التابعين وتابعيهم فضلا عن أن يعترفوا بالبخاري وشيوخه؟!
مثال آخر: ساق ابراهيم كلام الأئمة الذين انتقدوا البخاري بناء على الموازين المعتبرة في النقد والتي سيأتي ذكرها، ولكنه ذكر معهم من قام بانتقاد صحيح البخاري بناء على اختلاف التصورات العقدية وليس على الموازين المعتبرة, كالشيخ محمد زاهد الكوثري حيث ذكر عنه أنه حكم بتزييف أربعة عشر حديثاً من أحاديث الصحيحين أو أحدهما؛ لأن ظاهر هذه الأحاديث التجسيم في حق الله تعالى -على حد فهمهما لها -!
وبما أن المعروف عن تصور الشيخ الكوثري لمسائل الأسماء والصفات أنه على خلاف اعتقاد السلف الصالح من القرون المُفضّلة؛ فمن غير المستغرَب أن يستنكر هذه الأحاديث التي كان الأخذ بها وقت السلف ميزاناً لتمييز أهل السنة عن غيرهم.
فالمعيار الذي نقله عن الكوثري إنما هو الحكم على الأحاديث بناء على ما يعتقده المرء ولو كان باطلا! وبناء على ذلك يحق للشيعي الرافضي أن ينكر ما يراه مخالفا لمعتقده في صحيح البخاري،كالأحاديث المعتلقة بعدالة الصحابة وفضائلهم، وللناصبي أن يقول عن حديث أبي سعيد في أن عماراً تقتله الفئة الباغية: إنه موضوع مكذوب، ويصح للجهمي أن يُكذب الأحاديث التي تخالف قوله في الصفات، وهلم جرّاً فيصبح حديث رسول الله ألعوبة بين الناس!!
حقيقة مشكلة عدنان إبراهيم مع صحيح البخاري :
من متابعتي لكثير من طرح الدكتور عدنان ترسخ عندي أنه يحكم بالوضع والكذب على أحاديث كثيرة في البخاري دون أي اعتبار لموازين علم الحديث، ويرمي بالأحكام تعميماً ومجازفة وبكل جُرأة واستعجال!
فالمسألة التي يُقررها ينسف كلَّ ما خالفها من الأحاديث دون تردد أو تأخر أو تلطف في العبارة! كما أشرنا في الجزء الثاني من الانتقادات عليه في موضوع النسخ، وذلك أنه حين قرر نفي النسخ في القران بدأ يتخلص من لوازم هذا التقرير من الأحاديث المثبتة له
فقال عن حديث عائشة في صحيح مسلم "كان فيما أنزل التحريم بعشر رضعات.. " إنه موضوع! وقال بجريء العبارة في مثال من أمثلة النسخ "قصص يؤلفونها"! هكذا بالجملة دون تفصيل متعلق بقدر هذه القصص وأسانيدها وفقهها، مع أن من ضمن هذه التي سماها "القصص المؤلفة" حديثاً في البخاري!
هذا مع أن النسخ يؤمن به كافة علماء الأمة قديما وحديثاً إلا قولاً شاذاً مخالفاً لإطباقهم، فالعبرة عند الدكتور في الرد ما خالف فهمه -هو- للشريعة، ثم بعد ذلك لا معنى لورود هذا الحديث الذي يعارض فهمه من إسناد واحد أو من عشرين إسنادا فالقضية لا معنى لها عنده.
ولا معنى عنده لإيمان آلاف العلماء على مر القرون بهذه الأحاديث وتنزيههم إياها عن مخالفة الشريعة، فهي بكل سهولة: كذب ودجل ودسائس!! وهذا كما تقدم هو جوهر الفرق بين انتقاداته لأحاديث الصحيحين وبين انتقادات الدارقطني وأمثاله ممن انتقادهم معتبرة.
وأضرب مثالين على إثبات ذلك من خطبتين من خُطَبِه:
المثال الأول: تكذيبه أحاديث خروج المسيح الدجال. المثال الثاني: تكذيبه أحاديث نزول نبي الله عيسى عليه السلام (وسأشير إلى شيء من التفصيل في هذا المثال عند عنوان "عدنان إبراهيم والإحالة إلى الأشباح")
أحاديث خروج الدجال رويت في الصحيحين من رواية عشرين صحابياً، وبعض هؤلاء الصحابة روي الحديث عنهم من أكثر من وجه وطريق.
والنقطة المهمة هنا أن نعلم أنه قلَّ أن يوجد حديث روي في الصحيحين بهذا الكم الكبير من الأسانيد الصحاح، فمِثل هذا الحديث يُعّدُّ من أصح ما في الصحيحين، وبما أن الصحيحين هما أصحّ الكتب بعد القران، فالنتيجة أن هذا الحديث هو من أصح ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم على الإطلاق.
فإذا كان مثل هذا الحديث بهذه الدرجة من الصحة يقول عنه د.عدنان بلا تردد (إنه كذب) فهل يمكن الاعتماد بعد ذلك على شيء من السنة ؟ الجواب: لا بالتأكيد.
اضطراب الموازين عند عدنان إبراهيم :
بعض الموازين والمعايير التي يستعملها عدنان إبراهيم تكون معتبرة عنده في بعض المواضيع ثم تختفي فجأة في البعض الآخر!
فعلم الحديث وموازينه يكون حجة في أمور، وصِفراً في أمور أُخَر ! ومعارضة الحديث بما هو أصح منه تُستعمل مرةً وتُهمَل أخرى!
وهكذا في خطبتنا هذه حكّم ميزاناً كان يُهمله ويناقضه دائماً ! فالمتابع لخُطَب د. عدنان إبراهيم يرى بجلاء استسهاله تجهيلَ مئات العلماء من الفقهاء والمحدثين والمفسرين بعبارات شديدة جدا، وكثيرا ما يمارس هذا التجهيل بشكل تعميمي مُزعِج يُشعرك أنه هو وحده الذي أدرك المسألة التي يتحدث عنها!
إلا أنه -وللمفارقة العجيبة- في خطبته هذه يعكس القضية بشكل غريب حيث قال ما نصه عند الدقيقة 34:46 "من قال بأن من رد حديثاً في البخاري أو مسلم فقد رد على رسول الله، ...، أقول : فهذا جاهل جهالة غليظة لأنه جهّل معظم من سنذكر، بل كل من سنذكر من العلماء الرادين لأحاديث في الصحيحين، وغير الصحيحين مما صح وهم بالعشرات" عجباً تقول عنه جاهل جهالة غليظة لأن قوله يؤدي إلى تجهيل عشرات العلماء ممن انتقدوا أحاديث في الصحيحين! إذن بماذا تصف من يقول عن معظم أهل السنة والجماعة بأنهم يدّعون التحريف في كتاب الله كما ذكرتَ ذلك في خطبة "لا نسخ في القران" ؟
وبماذا تصف من يقول كَذَبنا على أنفسنا أربعة عشر قرناً ؟!
الانفصال بين الألباني وعدنان إبراهيم في الموقف من البُخاري!
أشار عدنان إبراهيم في هذه الخطبة إلى أن الألباني وافق على كلام الغماري الذي ذكر فيه "أن من أحاديث الصحيحين ما يُقطع ببطلانه" وأنه دعى إلى "عدم التهيب من الحكم عليها بالوضع".
وعند التحقيق فليس كلامُ الألبانيِّ صريحاً في موافقة الغماري على كلمة (الوضع) بعينها، فإن الغماري ذكر في سياق كلامه أكثر من جملة، منها: أن الإجماع لم يقع على صحة كل ما في الصحيحين، وعبارة الألباني جاءت في ختام هذه الجُمَل، وهي تنطبق على الجملة المتعلقة بالإجماع ؛ فإن نص كلام الألباني في الموافقة هو : "وهذا مما لا يشك فيه كل باحث متمرس في هذا العلم، وقد كنتُ ذكرتُ نحوه في مقدمة شرح الطحاوية "انتهى.
والذي يدل على أن موافقة الألباني لكلام الغماري ليست فيما يتعلق بالموضوعات ما يلي :
1- قوله : وهذا لايشك فيه (كل) باحث متمرس في هذا العلم. وهذه العبارة لا يمكن أبداً أن تنطبق على ادعاء وجود موضوعات في البخاري، ودونك أيها القارئ الكريم أيَّ باحثٍ متمرس في هذا العلم - الذي هو بالطبع علم الحديث- فسَلْه: هل يخفى عليك وجود موضوعات في صحيح البخاري؟ ثم لتنظر: هل عبارة الألباني تنطبق على الإجابة بـ"نعم" عن هذا السؤال كما فهمها عدنان إبراهيم؟ أم على عدم ثبوت الإجماع على صحة (كل) حديث في الصحيحين؟ فإن كل باحث متمرس في علم الحديث لا يخفى عليه وجود بعض الأحاديث اليسيرة المنتقدة فيهما وأنها مستثناة من الإجماع المنقول على صحة ما في الصحيحين.
2- الألباني رحمه الله ضعّف أحاديث في الصحيحين، وقد تُتُبِّعَت هذه الأحاديث وجُمعت، ووقفتُ على رسالة مُصنّفة في جمع هذه الأحاديث وكلام الألباني عليها، وليس فيها شيء حكم عليه بالوضع وإنما بالضعف، ولن يترك رحمه الله الأحاديث الموضوعة دون بيان ليتجه إلى بيان الأحاديث الضعيفة!
3- أن الألبانيّ أحال في الكلام السابق في تعليقه على الغماري إلى مقدمة الطحاوية وعند مراجعة المقدمة لم أجد فيها أي إشارة لقضية الموضوعات في البخاري.
4- دائما تجد لُغة الألباني في نقد البخاري خفيفة ومشيرة إلى محدودية وخفة الانتقادات عليه، انظر مثلاً قوله "واعلم أن صحيح البخاري مع جلالته وتلقي العلماء له بالقبول كما سبق ذِكره في المقدمة فإنه لم يسلم من النقد من بعض العلماء وإن كان غالبه -أي غالب هذا النقد- مجانبا للصواب" مقدمة مختصر البخاري للألباني جزء2 ص4.
وقال : "أعود إلى أحاديث هذا الصحيح (يقصد البخاري) فأقول،...، الباحث الفقيه لا يسعه إلا أن يعترف بحقيقة علمية عبر عنها الإمام الشافعي رحمه الله فيما روي عنه من قوله "أبى الله إلا أن يتم كتابه" ولذلك أنكر العلماء (بعض الكلمات) وقعت (خطأ) من أحد الرواة في (بعض) الأحاديث الصحيحة" مختصر البخاري 2/6 وكما أن الدكتور نَقَل موافقَة الألباني للغماري؛ فمن اللطيف أن يُعلَم أن الألباني رحمه الله انتقد الغماري على تضعيفه لأحاديث صحيحة، فقال في مقدمته لمختصر البخاري 9/2 "وقريب من هؤلاء بعض المشتغلين بهذا العلم، إلا أنهم لغَلَبَة التعصب المذهبي عليهم، وتمكن الأهواء منهم فإنهم في كثير من الأحيان يُضعفون الأحاديث الصحيحة، كالشيخ الكوثري، وعبدالله الغُماري، وأخيه الشيخ أحمد" وهاهنا تنبيه مهم من الألباني يوضح الفرق بين انتقاداته على الصحيح وبين انتقادات عدنان إبراهيم، وهو تنبيه في غاية الأهمية ، وفي نظري أن جزءا كبيرا من هذا الكلام ينطبق على د.عدنان إبراهيم تماماً!
قال الألباني "وفي مقابل هؤلاء بعض الناس ممن لهم مشاركة في بعض العلوم، أو في الدعوة إلى الإسلام – ولو بمفهومهم الخاص – يتجرؤون على رد ما لا يعجبهم من الأحاديث الصحيحة وتضعيفها ولو كانت مما تلقته الأمة بالقبول، لا اعتماداً منهم على أصول هذا العلم الشريف وقواعده المعروفة عند المحدثين، أو لشبهة عرضت لهم في بعض رواتها، فإنهم لا علم لهم بذلك، ولا يقيمون لأهل المعرفة به والاختصاص وزنا، وإنما ينطلقون في ذلك من أهوائهم، أو من ثقافاتهم البعيدة عن الإيمان الصحيح القائم على الكتاب والسنة الصحيحة، تقليدا منهم للمستشرقين أعداء الدين، ومن تشبه بهم في ذلك من المستغربين أمثال أبي رية المصري ، وعز الدين بليق اللبناني .." مقدمة مختصر صحيح البخاري2/8
الفرق بين نقد أئمة الحديث لبعض أحاديث البخاري وبين نقد عدنان إبراهيم :
وإذا أردتُ أن أُجمل ذِكر الفروق بين انتقادات الدكتور عدنان إبراهيم وبين انتقادات المحدثين على البخاري، فسأذكرها في ثلاث نقاط: 1- هم ينطلقون من قواعد علم الحديث في انتقاداتهم وهو لا ينطلق منها. (مع التأكيد المتكرر على أن قواعد علم الحديث لا تقتصر على النظر في الإسناد) 2- هم لا يقللون من قدر صحيح البخاري لا تصريحا ولا تلميحاً، وهو يقلل من قدره في مواضع من خُطبه وذلك بأسلوبه وعباراته المصاحبة لردِّهِ لبعض أحاديثهما مع أنه يُصرح بمدح الصحيحين في بعض المواضع وبأن البخاري أًصح كتاب بعد كتاب الله. 3- هم لم يحكموا على أي حديث في صحيح البخاري بالوضع وهو حكم بذلك في أحاديث كثيرة (وبينّا المُجمل في كلام الألباني) عدنان إبراهيم والإحالة إلى الأشباح : من الإشكالات الواضحة لدى الدكتور عدنان عندما يحكم على حديث بالوضع والكذب: أنه لا يذكر لنا كيف أُدخَل هذا الحديث في صحيح البخاري؟ من الذي وضعه؟ فقد ذكر في خطبته هذه تبرئة البخاري ومسلم من وضع الأحاديث ، قال: وهي مِن وَضْعِ مَن وَضَعَها ! عجَباً! نحن نريد هذا الذي وضعها. ألا يستطيع الدكتور إظهاره؟ أم استطاع هؤلاء الوضاعون تجاوز كل أسوار النُقاد والمحدثين وقواعدهم وتدقيقاتهم حتى أدخلوا أحاديث غير قليلة في أصح الكتب دون علم من أحد منهم! بل صدقوها وآمنوا بها عن غفلة وتلقت الأمة هذه الكذبة بالقبول؟ هنا أستعير عبارة الدكتور لأقول : إن القائل بهذا القول جاهل جهالة غليظة لأنه جهّل عشرات بل آلاف العلماء الذين تلقوا صحيح البخاري بالقبول وصدقوا هذه الأحاديث وشرحوها واستدلوا بها! ولولا خشية الإطالة لذكرتُ بالتفصيل التام مثالاً تطبيقيا على هذه النقطة، غير أني سأذكره على سبيل الإجمال، وهو حديث في البخاري (حديث أبي هريرة مرفوعاً في نزول عيسى عليه السلام) قال عنه الدكتور إنه (فِرية)! وحين نبحث عمّن افترى هذه الفرية فلن نجده أبداً؛ وذلك أن البخاري روى هذه الحديث عن ثلاثة من شيوخه، وروى مسلم نفس الحديث عن اثني عشر من شيوخه، ويرويه الإمام أحمد عن اثنين من شيوخه أو أكثر، ويرويه الترمذي عن شيخه وهو أحد شيوخ البخاري ومسلم في هذا الحديث بعينه، ورواه ابن ماجه عن شيخٍ لمسلم أيضاً، وكل هذه الأسانيد مُثبتة في كتبهم، ثم بعد ذلك روى جماعة من الصحابة عن النبي صلى الله عليه وسلم نفس موضوع الحديث منهم في صحيح مسلم -فقط- أربعة؛ فكيف؟ ومتى؟ تم وضع هذا الحديث في البخاري ومسلم وأحمد والترمذي وابن ماجه؟ ومن الذي قام بإدخاله في كتبهم على اختلاف بلدانهم؟ وكيف لم ينتبهوا لذلك وهم أئمة النقاد؟ كم هو سهل أن يرمي المرء الكلام جزافا، ولكنه لا يتمشى مع التدقيق العلمي. لِفَهم منهجية علماء الحديث في انتقاد صحيح البخاري : أختم أسطري هذه بأهم ما فيها، وهو ما تمت الإشارة إليه سابقاً من أن انتقادات المُحدّثين المعتبرين لصحيح البخاري تُفهَم تحت المنهجية التالية :
1- أن الأصل في كل حديث في البخاري الصحة، وأنه يكفي المعرفة بأن الحديث أخرجه البخاري ليُعمَل به. وبما أن الدكتور عدنان استدل بالألباني في خطبته على شيء من مراده فإني أبتدئ بكلامٍ للألباني تحت هذه النقطة، حيث قال مانصه : " حتى صار عرفاً عاما أن الحديث إذا أخرجه الشيخان أو أحدهما فقد جاوز القنطرة ودخل في طريق الصحة والسلامة، ولا ريب في ذلك وأنه الأصل عندنا" مقدمة الطحاوية ص 22 وقال الجُويني : " لو حلف إنسان بطلاق امرأته أن ما في كتابي البخاري ومسلم مما حكما بصحته = من قول النبي صلى الله عليه وسلم لما ألزمته الطلاق، ولا حنثته ، لإجماع علماء المسلمين على صحتهما " تدريب الراوي 1/142 ط. طيبة وقال النووي رحمه الله : " أجمعت الأمة على صحة هذين الكتابين ووجوب العمل بأحاديثهما " تهذيب الأسماء واللغات .
2- أن هذه المكانة لصحيح البخاري ليست لمجرد كون جامع هذا الكتاب مِن أعلم مَن خَلَقَ اللهُ تعالى بالحديث وعِلله وفقهه، ولكن لأن الأئمةَ من أهلِ الاختصاص بالحديث وغيرهم من الفقهاء والمفسرين تلقوا كتابه هذا بالقبول لما فيه.
3- أن انتقاد شيء من الصحيح لا بد ألاّ يكون معارضا لقواعد علم الحديث التي هي المعيار في معرفة الصحيح من الضعيف، وليس خفياً على أهل الاختصاص -كما تقدم- أن علم الحديث يهتم بنقد المتن كما يهتم بنقد السند.
4- أن الأحاديث التي انتُقدت على صحيح البخاري عددها قليل جداً بالنسبة لأحاديث الكتاب.
5- ليس في صحيح البخاري - جزْماً وقطعاً- أيَ حديث مكذوب على رسول الله صلى الله عليه وسلم .
6- أن من استبان له من أهل العلم ضعفَ إسناد أو رواية معينة أو متنٍ أو زيادةِ كلمةٍ فيها حُكمٌ أو نحو ذلك من صحيح البخاري، وكان حكمه مبنياً على علم ودراية وعقيدةٍ صحيحة غيرَ ضاربٍ بقواعد علم الحديث عرض الحائط = فإنَّ عدَمَ أخْذِه بما استبان له ضعفه لا يكون مِن باب رد سنة النبي صلى الله عليه وسلم بل هو من باب الخلاف المُعتبَر.
7- أن العلماء الذين نُقِل عنهم أنهم انتقدوا شيئا من صحيح البخاري ليس كل انتقادهم منصبا على المتون أو يعود عليها بالضعف، فإن بعض الانتقادات موجه إلى إسناد معين من أسانيد حديثٍ له أكثر من إسناد بعضها صحيح وبعضها فيه كلام. وبعضُ الأحيان يكون الانتقاد موجها على جزء من الحديث وليس على أصله.
8- ليس بالضرورة أن يكون كلام من انتقد شيئا من الصحيح صحيحاً، وكما أنه يوجد من أهل العلم من انتقد البخاري، فإن من أهل العلم من أجاب عن هذه الانتقادات وبين أن الصواب في جمهورها مع البخاري، قال ابن تيمية في الفتاوى "ولهذا كان جمهور ما أُنكر على البخاري مما صحّحه، يكون قوله فيه راجحاً على قول من نازعه "مجموع الفتاوى" (1/256).
9- لا يجوز أن يكون التضعيف لأحاديث البخاري مبنيا على اعتقاد يخالف اعتقاد أهل السنة والجماعة من سلف هذه الأمة، كمن رد أحاديث الرؤية أو الشفاعة أو الصفات بناء على اعتقادات باطلة تتعارض مع هذه الأحاديث، كما أنه لا يجوز أن يكون مُنطَلَق التضعيف والرد لشيء من البخاري مجرد مقاومة هجوم تشكيكي من أعداء الإسلام تعود على خبر ثابت عن النبي بالإبطال. كما حصل مِن رد حديث زواج النبي من عائشة وهي ابنة تسع.
10- استشكال المرء حديثاً لا يكفي للمبادرة بردّه، بل لا بد من النظر في موقف أهل العلم من هذا الحديث وتعاملهم معه، فإن كثيرا من هذه الاستشكالات ليست تخفى عليهم، وأجابوا عنها، ثم إن هناك قبل الرد التوقف، وإرجاء القطع بشيء في الحديث حتى يعيد العالِم المستتشكلُ النظرَ فيما استشكل ويزيد، فإن للصحيح هيبة كما قال الذهبي رحمه الله في ترجمة خالد بن مخلد القطواني في ميزان الاعتدال (1/592) بعد أن ذكر حديثاً رواه خالد هذا في صحيح البخاري :"هذا حديث غريب جداً، لولا هيبة الجامع الصحيح لعدُّوه في منكرات خالد بن مخلد، وذلك لغرابة لفظه، ولأنه مما ينفرد به شريك وليس بالحافظ، ولم يرو هذا المتن إلا بهذا الإسناد" ط.الرسالة وقال الألباني في السلسلة الصحيحة 5/326: " فإن تخطئة الإمام البخاري أو أحد رواته الثقات ليس بالأمر الهيّن" وبقي في الخطبة مواضع التي تستحق الإلتفات، لعل ما ذُكر هنا يكون دليلاً على ما غاب ذكره، والحمد لله رب العالمين .
المصدر : مركز التأصيل للدراسات والبحوث