فؤاد خشيش
منذ بعد ظهر نهار السبت 31 "آب" بدأت ضاحية بيروت الجنوبية تعيش أيامها ولياليها "العاشورائية". وهي كانت أعدت العدة لاستقبالها منذ السبت الماضي الذي دهمت في ليلته الطائرتان "الإسرائيليتان" المسيّرتان حي معوض، وشغلت الناس لأيام عن "الذكرى الحسينية"، فأخذهم القلق والخوف في انتظار ما يمكن أن يحصل، بعد التهديدات النارية التي أطلقها حسن نصرالله.
بين القلق والأمن
لكن هذين القلق والخوف كانا قد تراجعا نسبياً يوماً بعد يوم، إلى أن أطل نصرالله هادئاً في المساء العاشورائي الأول على مستمعيه ومشاهديه الجالسين أرضاً، يحدقون في صورته
على الشاشة العملاقة في "مجمع سيد الشهداء" بمحلة الرويس. لم يتمادَ هذه المرة في تهديداته، بل منح "حزبه" وقتاً للرد عندما يشاء باستهداف الطائرات "الإسرائيلية" المسيرة في سماء لبنان.
وبدل القلق والخوف من رد "حزب الله" العسكري ومن احتمال اندلاع حرب مدمرة، حلت في شوارع الضاحية الجنوبية التدابير الأمنية المشددة تهيئاً لـ"المجالس العاشورائية" في أحيائها. وكانت تلك التدابير قد تراخت نسبياً بعد مضي وقت طويل على التفجيرات "الانتحارية" التي ضربت بعض أحياء الضاحية على إيقاع الحرب السورية وحرب فجر الجرود. ثم تجددت بعض الشيء بعد حادثة "المسيّرتين" التي أثارت استنكارات وتهديدات وتبريكات بالنصر والبطولة لمن ساهم في إسقاط إحداهما بحجر، على ما روى نصرالله بنفسه.
غلبة أمل: توزيع أدوار؟
وتزامنت بداية عاشوراء هذه السنة مع مناسبة ذكرى "تغييب" موسى الصدر، التي تعتبر مناسبة لـ"حركة أمل" ونبيه بري، أكثر منها لنصرالله وحزبه. وليس معلوماً بوضوح سبب انتشار أعلام "حركة أمل" بكثافة لافتة في أحياء كثيرة في الضاحية وعلى طول الأوتوستراد الساحلي من خلدة إلى الجنوب، من دون تجدّد أعلام "حزب الله" وزيادتها، إن كان نتيجة "توزيع عمل وأدوار" بين الثنائي الشيعي، أم هو حصل لـ"مناسبة ذكرى "تغييب" الصدر ومهرجانها الأملي الحاشد" في النبطية. لكن حتى في الضاحية الجنوبية تفوّق الحضور الكاسح لأعلام "أمل" و"خيمها العاشورائية"، حتى في بئر العبد وفي بورة قرب مركز العلاقات الإعلامية لـ"حزب الله" في حي معوض.
فأعلام "أمل الحزبية"، وصور الصدر وسواها من "الشارات والشعارات الأملية"، وأقل منها بكثير التابعة لـ"حزب الله"، انتشرت بكثافة في شوارع الضاحية الجنوبية كلها تقريباً وعلى أعمدة الإنارة والجدران، وطغت على مشهد الحياة اليومية.
و"الخيم العاشورائية" في الأحياء تدل عليها "الأعلام والرايات"، كما تدل لأي من الثنائي الشيعي تتبع، وأي من الجمهورين يؤمّها. سيارات وفانات وشاحنات صغيرة تعبر في الشوارع حاملة مكبرات الصوت الضخمة تصدح عالياً بـ"الندبيات الحسينية" التي صارت لها "سوقها التجارية" وحضورها في "الذائقة الفنية" الشيعية، إلى جانب "الأهازيج والأناشيد الملحّنة لـ"حزب الله" وزعيمه". و"الرايات والأعلام" تغطي السيارات ومكبرات الصوت التي تبث "الندبيات والأناشيد"، حتى بات صعباً رؤية سائقيها. وتنتشر "الأعلام الحزبية والرايات العاشورائية" في المحال الأكشاك للبيع من الأحجام كلها. لكن اللون الطاغي هو الأسود أو الأحمر، مع كتابات تحمل اسم "صاحب المناسبة (الإمام الحسين)"، ويتخلل هذين اللونين اللون الأخضر الخاص بـ"أعلام أمل".
صيحات الموضة
أما الألبسة فسوداء، ويحمل الكثير منها الرقم 313 شعاراً. وهناك روايات تشير إلى أن هذا الرقم يعود إلى تفسيرات ورموز تظهر للمرة الأولى في عاشوراء: عدد أنصار النبي محمد صلى الله عليه وسلم .. الذين قاتلوا معه في موقعة بدر بلغ 313 مقاتلاً. وعدد الذين نصروا جيش نبي إسرائيل على أعداء الله .. مع النبيّ موسى عليه السلام بلغ 313 أيضاً.
واللافت هو تحول هذا الرقم - الشعار إلى "موضة" في ضاحية بيروت الجنوبية، فيرتدي الشبان "تي شرتات" سوداء تباع بكثافة وكميات تجارية في هذه "المناسبة الحسينية". وبدورها "الأوشام العاشورائية" تحولت إلى صيحة من آخر صيحات الموضة على أجساد الشبان والشابات. والرقم 313 طُبع على بلوزات سوداء تباع في المحال للنساء.
الطريق تحت جسر محلة صفير قُطعت السبت بسبب التدابير الأمنية التي أتاحت وضوحاً باهراً لمشهديات "الأعلام والرايات"، ولأصداء "الندبيات" الصادحة عالياً. فيما على الجهة الأخرى من الطريق قرب الجسر، مقهى يجلس فيه الشبان بقمصانهم السود يرتشفون القهوة.
الفانات ممنوعة من الدخول الى الضاحية بعد السادسة وحتى الانتهاء من "المجالس الحسينية" في أيامها ولياليها العشر. وإذا أضفنا هذه التدابير إلى أخرى سبقتها منذ وقت طويل، تبدو ضاحية بيروت الجنوبية أشبه بمربعات أمنية مغلقة ومسورة بأسيجة الحديد في أوقات محددة من اليوم.
الشبان يتجولون مجموعات في الشوارع سيراً على أقدامهم، وهناك مجموعات أخرى يمتطي شبانها دراجات نارية يسيرون بها بطريقة فوضوية عشوائية، حاملين "الرايات والأعلام الحزبية". وعلى الراجلين في الشوارع تجنبهم وحماية أنفسهم من احتمال أن تجتاحهم الدراجات المنطلقة بسرعة جنونية.
تنوع "الخيم والندابين"
لا يتوقف هذا أو ذاك من أهالي الضاحية عن سؤال معارفه، في أية "خيمة" ومكان سيحضر "المجالس العاشورائية العشر"؟ البعض يقول إنه سينوع ويتردد إلى أكثر من "خيمة". آخرون يقولون أنهم سيختارون "الخيمة" حسب "منشد الندبيات الحسينية". و"الندابون" هؤلاء صارت لهم أسماؤهم المشهورة، ويتقاضون عن "الندب والإنشاد" مبالغ مالية، حسب صيت كل منهم شهرته. أي لكل سعره في السوق "الحسيني – الكربلائي". وغالباً ما تُجمع هذه الأموال من متبرعين مقتدرين، تكون لهم الأولوية في تصدر "المجالس". وهذا ما يغلب على "خيم "حركة أمل" ومجالسها". وهناك من قال إن "حزب الله" "مش فاضي لعاشوراء في هذه السنة". فهو مشغول بما بعد حادثة وصول الطائرتين المسيرتين إلى عقر داره في الضاحية. وقال أحدهم إنه لاحظ استنفاراً عسكرياً في صفوف "الحزب" وحشد عناصره في الجنوب.
"أدام الله الوفاق"
لدى سؤال مجموعة من الشبان في أي من "الخيم" سيشاركون في هذه "المناسبة"، أجاب أحدهم: "تعودنا، لا شيء مهم". وقال آخر: "لازم نخلص تجارة بالدين، "الله يديم الوفق" (أي الوفاق) الأفضل البقاء في البيت، وخصوصاً في هذه الفترة.. مع اللغط المتواصل عن الوضع الأمني". وتساءل ثالث: "إلى أين نهرب في حال اندلعت الحرب؟". ويبدو أن الحماسة تدنت لدى الكثيرين لرد "حزب الله" على العملية "الإسرائيلية" في معوض، لكن القلق يظل سيد الموقف.
تحولت الضاحية في هذه المناسبة إلى ما يشبه الحصن الأمني، الذي تحضر فيه القوى الأمنية "الشرعية" أو الرسمية، إلى جانب قوى الأمر الواقع (حزب الله وأمل)، وكل على طريقته، مع غلبة أمنية خفية ومنظمة لـ"حزب الله" الذي يبدو أنه لا يريد الدخول في مماحكات مع "حركة أمل" في هذا الظرف.
ونشرت بلدية الغبيري لافتات لتوعية الأهالي، ولفت انتباههم إلى عدم مخالفة السير تلافياً للزحام. وحملت اللافتات عبارات مثل: "أنت عكس السير...أنت بتقبل هيك؟!" و"الفوضى ما بتخدم الناس، وأنتم أطيب الناس".
المصدر : المدن
7/10/1441
6/9/2019