هيثم الكسواني
14-11-2015
ظلّ صلاحُ الدين الأيوبي -رحمه الله- يتعرض للمؤامرات من أنصار الفاطميين وبقاياهم، حتى بعد قضائه على قوّتهم العسكرية، وإخماده ثوراتهم المسلحة المتتابعة، وآخرها تمرد كنز الدولة في جنوب مصر، إذ ظلّت تُحاك هنا وهناك مؤامرات من أطراف عدّة، لكن الهدف واحد: إعادة دولة العبيديين الفاطميين، صاحبة المذهب الشيعي الإسماعيلي، والقضاء على صلاح الدين ودولته السنّية الفتيّة.
ويُلاحظ أن الثورات/ المؤامرات الأولى (مؤتمن الخلافة، الجند السودان، الجند الأرمن، عُمارة اليمني) كانت تحاك في القاهرة، عاصمة الدولة، ثمّ بدأت تنتقل إلى الأطراف والأقاليم (عبد النبي بن مهدي، كنز الدولة) وإن كان قد جمع بينها (خاصة بعد الإعلان عن إسقاط دولة الفاطميين وموت آخر حكامهم مطلع سنة 567هـ) أن التخطيط والتنفيذ كانا يتمّان مِن قِبل أنصار الفاطميين والمتكسّبين منهم، وليس من الأسرة الفاطمية الحاكمة، ذلك أن صلاح الدين بعد إسقاطه للدولة الفاطمية، قام بالتحفظ على أعضاء الأسرة الحاكمة، ووضعهم تحت الإقامة الجبرية، وفرّق بين الرجال والنساء لئلاّ يتناسلوا.
في هذه الحلقة من السلسلة نعرضُ عددا من المؤامرات التي تعرض لها صلاح الدين، ليس فقط مِن قبل أنصار الفاطميين الإسماعيليين، بل من قِبل طوائف مختلفة من الشيعة، ومن بلدان عديدة، ذلك أن إضعاف أهل السنة ومعاداتهم لم يكن حكرا على طائفة الشيعة الإسماعيلية، بل هو أمر تكاد تشترك فيه جميع فرق الشيعة، وهو الأمر الذي يحصل الآن من اجتماع الشيعة على اختلاف مذاهبهم وبلدانهم على أهل السنة في العراق وسوريا واليمن والبحرين ولبنان، وفي غيرها من البلدان، فقد رأينا رئيس الوزراء العراقي السابق نوري المالكي (الشيعي الاثنى عشري) ينحّي خلافاته جانبًا مع الرئيس السوري بشار الأسد (الشيعي النصيري) ويلتقيان مع رئيس حزب الله الشيعي اللبناني حسن نصر الله، وقائد فيلق القدس الإيراني قاسم سليماني لمحاربة الشعب السوري السنّي وقمع ثورته.
ورأينا الشيعةَ الإثنى عشرية يتقاطرون من أقاصي العالم، من أفغانستان وباكستان وطاجكستان وغيرهما، ويشكّلون الميليشيات المسلحة الحاقدة لمحاربة الشعب السوري وإنقاذ النظام الشيعي النصيري، كما رأينا بعض الطوائف والفرق الأخرى تضع يدها في يد الشيعة والعلويين النصيريين ما دام العدو هو نفسه: أهل السنة.
مؤامرة قديد القفاص
ظهر قديدُ القفاص في مدينة الإسكندرية، في شمال مصر، وقد تحدّث صلاح الدين عن قديد القفاص هذا وخطره في رسالة بعثها إلى نور الدين زنكي، يبيّن له ما يتعرض له من مؤامرات من الفاطميين وأنصارهم، وممّا جاء في الرسالة: «... إن ثغر الإسكندرية على عموم مذهب السنة فيه، اطلع البحث أن فيه داعيةً خبيثاً أمرُه، محتقراً شخصُه، عظيماً كفرُه، يُسمى قديدا القفاص، وأن المذكور مع خموله في الديار المصرية قد فشت في الشام دعوتُه، وطبقت عقولَ أهل مصر فتنتُه، وأن أرباب المعايش فيها يحملون إليه جزءا من كسبهم، والنساء يبعثن إليه شطرا وافيا من أموالهن، ووُجدت في منزله بالإسكندرية عند القبض عليه والهجوم إليه كُتب فيها خلع العذار، وصريح الكفر الذي ما عنه اندفاع واعتذار، ورقاع يخاطَب فيها بما تقشعرّ منه الجلود، وكان يدّعي النسب إلى أهل القصر، وأنه خرج منه طفلا صغيرا، ونشأ على الضلالة كبيرا، وبالجملة فقد كفي الإسلام أمره، وحاق به مكره، وصرعه كفره».
يتضح من رسالة صلاح الدين السابقة أن القفاص انتشرت دعوته الخبيثة في الشام ومصر، ورغم أنه لم يكن صاحب تنظيم عسكري أو قائد تمرد كما السابقين، إلاّ أنه غدا كالخلايا النائمة التي تتحيّن الفرصة للانقضاض على المشروع السّني، وأن أصحاب الحرف والصناعات (المعايش) وكذلك النساء يموّلونه بأموالهم.
ومما أشار إليه صلاح الدين أيضاً ظهور قديد القفاص في مدينة الإسكندرية، التي ظلّت متمسّكة بسنّيتها طيلة حكم الفاطميين الإسماعيليين لمصر، ولذا فظهوره في مدينة سُنّية يحمل دلالة خطيرة، وإزاء انحرافه وخطره قتلَه صلاح الدين وأراح البلاد والعباد مِن شرّه، وكان ذلك في سنة 569هـ، في الفترة نفسها التي اكتشف فيها مؤامرة الشاعر عُمارة اليمني، وسبق تناولها في إحدى حلقات هذه السلسلة.
مؤامرة شيعة حلب
وتتلخص هذه المؤامرة في أن دولة نور الدين زنكي تضعضعت بعد وفاته في شوال من سنة 569هـ، وسبب ذلك تولي ابنه الملك الصالح إسماعيل الحكم بعده، وكان آنذاك طفلا صغيرا، فتحكّم فيه وفي الدولة الأمراء وبعض أقاربه، وخاصة ابن عمّه، سيف الدين غازي، حاكم الموصل، وساروا فيها سيرةً خبيثة فنشروا المنكرات والخمور، وهادنوا الصليبيين ودفعوا الأموال إليهم، بخلاف ما كان عليه نور الدين رحمه الله، من الصلاح والعدل وجهاد الصليبيين.
ولمّا رأى صلاح الدين (نائبُ نور الدين آنذاك على حُكم مصر وأبرز قوّاده) الانحراف الذي طرأ على الدولة، والخطر الذي يتهددها من الصليبيين، الذين أفنى نورُ الدين وصلاحُ الدين حياتَهما في جهادهم، عزم صلاح الدين على المسير إلى بلاد الشام للاستيلاء عليها وحفظها من الصليبيين (بعد أن أرسل إلى الأمراء يحذرهم من مسلكهم المتخاذل دون جدوى).
وبالفعل بدأ صلاح الدين يسيطر على مدن الشام التي كانت بحوزة الملك الصالح والأمراء المتحكّمين به، وكانوا قد قاموا بالانتقال إلى مدينة حلب، في الشمال، واستنفروا أهلها لمحاربة صلاح الدين، وكان ذلك في سنة 570هـ. ومِن ضمن الذين استعدّوا لمحاربة صلاح الدين، وأبدوا الحماسة في ذلك: شيعة حلب، الذين يعود وجودهم في المدينة إلى أيام الدولة الحمدانية الشيعية التي قامت في حلب والموصل خلال الفترة 293-394هـ.
ولم يكن انضمام الشيعة في حلب لقتال صلاح الدين "مجّانيا" ذلك أنهم استغلوا الظرف واشترطوا على المَلك الصالح جملة شروط، تدور حول إظهار مذهبهم، الذي لم يكونوا يجرؤون على إظهاره أيام أبيه، نور الدين زنكي، فقد اشترط شيعة حلب على الملك الصالح أن يُعاد الأذان بـ (حيّ على خير العمل)، وأن يُذكر في الأسواق، وأن يكون لهم في الجامع الجانبُ الشرقي، وأن تُذكر أسماء الأئمة الاثني عشر بين يدي الجنائز، وأن يكبّروا على الجنازة خمساً، وأن تكون عقود أنكحتهم إلى الشريف الطاهر أبي المكارم حمزة بن زهرة الحسيني، فأجيبوا إلى ذلك كله. فأُذّن في الجامع وغيره بسائر البلد بـ (حيّ على خير العمل).
لقد استلهم شيعةُ اليوم سيرةَ أسلافهم في حلب، فكم استغلوا الخلافات بين أهل السنة، بل كم عملوا على إذكائها واستثمارها، وعلى الإيقاع بين الحكّام والعلماء، وكم دفعوا المالَ إلى فئات من أهل السنة كي يُظهر الشيعة طقوسَهم وينشروا مذهبهم وعقيدتهم في البلاد السنّية، وللأسف كم يوجد في زماننا هذا من (الملك الصالح إسماعيل) والأمراء المتسلّطين عليه، الذين يضعون أيديَهم في أيدي الشيعة من أجل مصالح شخصية ضيّقة وملك زائل، بدلاً من أن يمدّوها إلى إخوانهم من أهل السنة، لا سيّما الحريصين على نشر الإسلام ورفعته، وحماية بلاد المسلمين من الأخطار الداخلية والخارجية.
مؤامرات الحشاشين
ولمّا عجز حكام حلب عن محاربة صلاح الدين، توجّهوا إلى طائفة شيعية أخرى، هي طائفة الحشاشين، التي تُعرف أيضا بالحشيشية، وهي فرقة شيعية إسماعيلية انفصلت عن الدولة الفاطمية بسبب الخلاف حول الإمامة، وكوّنت دولة في أجزاء من بلاد فارس والشام.
وقد اشتهر الحشاشون باحتراف القتل والاغتيالات السياسية والدينية، واغتالوا عددا كبيرا من الخلفاء العباسيين والوزراء وقادة الأمة السياسيين والعسكريين، وهذ المرّة وجّهوا أنظارهم لاغتيال صلاح الدين، فكانت أولى المحاولات خلال حصار صلاح الدين لحلب سنة 570هـ، إذ أرسل زعيم الإسماعيلية الحشاشين في بلاد الشام، شيخ الجبل سنان، بعضَ أتباعه لقتل صلاح الدين، فاستطاعوا التسلل لخيمته، وقتلوا بعض الأمراء، لكن صلاح الدين لم يُصَب بأذى. أما الحشاشون فقُبض عليهم، وقُتِلوا عن آخرهم.
وفي العام التالي، كرّر الحشاشون محاولتهم، خلال محاصرة صلاح الدين لحصن عزاز في شمال حلب، إذ وثب عليه ثلاثة منهم أو أربعة، وهم متنكّرون في زي الجند، وقاومهم صلاح الدين مقاومة شديدة([1])، وأبدى شجاعة نادرة، لكنه أُصيب بجروح، ومما حماه الله به ارتداؤه للدروع.
وإزاء ذلك الغدر، اشتد حنق صلاح الدين على أهل حلب، وصمّم على فتحها، كما أنه توجّه إلى ديار الحشاشين، فحاصر حصنَهم مصياف، فقتل وضرب وسبى، وأخذ أبقارَهم، وخرّب ديارهم، إلى توسّط فيهم خاله، شهاب الدين محمود بن تِكش، حاكم حماة، وكانوا جيرانه، فتوقف عن قتالهم وصالَحهم.
ويذكر المؤرخون أسبابا أخرى لمصالحة صلاح الدين للحشاشين، منها اضطراره لصدّ هجمات الصليبيين على بلاد الشام، الذين استغلوا غيابه، فهاجموا بعض أنحائها كالبقاع.
والعجيب أنه في مقابل العداء الذي كان يكنّه الإسماعيليون الحشاشون لأهل السنة وصلاح الدين، إلاّ أنهم كانوا "بردا وسلاما" على أعداء الإسلام آنذاك، وعلى رأسهم الصليبيون، بل إنه ليس من المبالغة القول بأن الحشاشين "تخصصوا" باغتيال قادة الجهاد الإسلامي ضد الصليبيين، كما فعلوا مع الأمير مودود، حاكم الموصل، سنة 507هـ، وهو أحد الذين تصدّوا للحملات الصليبية في بداياتها، وكما فعلوا بعد ذلك مع صلاح الدين. للاستزادة:
1- ابن كثير، البداية والنهاية.
2- ابن الأثير، الكامل في التاريخ.
3- ابن واصل، مفرّج الكروب في أخبار بني أيوب.
4- شاكر مصطفى، صلاح الدين الفارس المجاهد، والملك الزاهد المفترى عليه.
المصدر : موقع الراصد