الباطنية يقتلون الأمير مودود في بيت المعبود
تعود بنا الذاكرة في هذه السطور إلى العام 507هـ/ 1113م، حيث قتل الباطنية الأمير مودود، الذي كان السبّاق لقتال الصليبيين في بلاد الشام، واشتهر رحمه الله بأنه كان "دينّناً عادلاً كثير الخير".
ولم تكن تلك المرة الأولى التي يقدم فيها الباطنية من فرقة الإسماعيلية على قتل علماء المسلمين وأمرائهم ومصلحيهم، ففي سنة 485هـ أقدم الباطنية من الحشاشين الإسماعيلية على قتل الوزير نظام الملك، الذي كان له الدور الكبير في الحفاظ على دولة الخلافة العباسية من المؤامرات الباطنية، وعمل على نشر مذهب أهل السنة والجماعة، والعلوم الشرعية.
وفي سنة 571هـ حاول الباطنية اغتيال السلطان صلاح الدين الأيوبي، الذي كان قد أنهى حينها الدولة العبيدية الفاطمية الشيعية التي جثمت على صدور المسلمين عدة قرون، كما كان السلطان في تلك الفترة منهمكاً بقتال الصليبيين.
وجاء قتل الأمير مودود بين تلك الجريمة، وتلك المحاولة ليؤكد على الأسلوب الذي انتهجته الباطنية بقتل أمراء أهل السنة وعلمائهم، ظناً منهم بأن هذا الأسلوب كفيل بالقضاء على مذهب ودعوة أهل السنة.
وفي سنة 502هـ تولى الأمير مودود بن التونتكين ولاية الموصل، وكانت بلاد الشام القريبة من ولاية الموصل تعيش أجواء الحملة الصليبية الأولى التي بدأت سنة 489هـ عندما خشي الصليبيون أن يعود المسلمون إلى قوتهم في أعقاب ما حققوه من انتصارات في معركة ملاذ كرد سنة 463هـ بقيادة ألب أرسلان السلجوقي، وفي معركة الزلاقة في الأندلس سنة 479هـ بقيادة يوسف بن تاشفين.
ولكن بعض العوامل أدت إلى ضعف دولة السلاجقة، ودخول بعض القبائل البربرية في النصرانية، وتحقيق الإمارات الإيطالية بعض الانتصارات على أمراء البحر المسلمين الذين كانوا يعيقون عمل السفن الإيطالية في البحر المتوسط، الأمر الذي جعل البابا إيربان الثاني يشعر بأن الظروف مواتية لغزو بلاد المسلمين واحتلال أراضيهم، خاصة بلاد المقدس، وبعد النفوذ الذي حصل عليه إيربان بعد اختياره بابا لروما سنة 481هـ.
دعا إيربان إلى اجتماع لرجال الدين سنة 489هـ في كليرمونت بفرنسا، ودعا إلى الحرب الصليبية، وطالب الأمراء بترك الخلافات القائمة بينهم، وقدّم لهم الصليب، وجعل مبرراً لهذه الحرب ما يقوم به السلاجقة من مضايقة للحجاج النصارى الذين يريدون بيت المقدس، وطلب أن يحتل النصارى بيت المقدس، وساهم بهذه الدعوة بطرس الناسك الفرنسي، وسار بجموع المتطوعين، وسبق جيوش الأمراء النصارى النظامية، وأخذوا يسببون الفوضى والدمار لكل المناطق التي مرّوا عليها، حتى النصرانية منها... وعندما وصلوا إلى بلاد المسلمين أحرقوا الأخضر واليابس وعاشوا في الأرض فساداً، فتصدى لهم السلاجقة في نيقية (جنوب تركيا) فأفنوهم عن بكرة أبيهم سنة 489.
وفي هذه الأثناء بدأت حملة أمراء الجيوش النظامية، فاتجه بعضهم إلى الرها (شمال العراق) واحتلوها وأسسوا بها إمارة نصرانية، وسار باقي القادة إلى أنطاكيا (شمال غرب سوريا)، فدخلوها عنوة سنة 491، بعد حصار دام سبعة أشهر، وقتلوا من أهلها أكثر من عشرة آلاف، وارتكبوا أبشع الجرائم، ثم اتجهوا بعدها نحو بيت المقدس، فسار لقتالهم كربوقا صاحب الموصل، ودقاق صاحب دمشق، وجناح الدولة صاحب حمص، غير أن الصليبيين قد انتصروا عليهم، ودخلوا معرّة النعمان (بين حلب وحماة)، ووصلوا إلى بيت المقدس في عام 492 وقتلوا من أهلها أكثر من سبعين ألفاً، وخاضت خيولهم ببحر من الدماء.
وكان العبيديون الفاطميون قد استغلوا تقدم الصليبيين من الشمال، فتقدموا هم من الجنوب، وكانوا قد دخلوا القدس، وطردوا السلاجقة منها، قبل وصول الصليبيين، وجرت مفاوضات بين العبيديين، وبين الصليبيين على أن يكون شمال بلاد الشام للصليبيين، وجنوبها للعبيديين، ثم نقض الصليبيون العهد عندما شعروا بالنصر.
وبسيطرة الصليبيين على بيت المقدس، ارتفعت معنويات سكان الإمارات الإيطالية، فبدأت سفنهم تجوب أطراف البحر المتوسط، وتقدم المساعدات والدعم للصليبيين، فاستطاعوا أن يأخذوا حيفا وقيسارية سنة 494، وعكا سنة 497، وطرابلس 503هـ بعد حصار سنتين، كما أخذوا جبلة في العام نفسه، وصيدا في العام التالي. وحاصروا صور عام 505 وكانت بيد العبيديين، فأمدّهم طغتكين صاحب دمشق، الذي سيبرز هو ومودود كأبرز قادة الجهاد ضد الصليبيين في تلك الفترة، بالمؤن والمساعدات، فلم يستطع الصليبيون احتلال مدينة صور.
والدور المشبوه الذي لعبه العبيديون في بداية الحروب الصليبية، يحتاج إلى وقفة، فقد أرسل بدر الجمالي، وزير المستعلي العبيدي، سنة 490هـ، سفارة من قبله إلى قادة الحملة الصليبية الأولى تحمل عرضاً خلاصته ـ كما ذكرنا ـ أن يتعاون العبيديون والصليبيون للقضاء على دول السلاجقة في بلاد الشام، وأن تقسم البلاد بينهما، بحيث يكون القسم الشمالي من الشام للصليبيين، في حين يحتفظ العبيديون بفلسطين.
ولمّا قام الأمير كربوق، صاحب الموصل آنذاك من قبل السلاجقة، بتجهيز قوة لمنع سقوط أنطاكيا بيد الصليبيين، وقف العبيديون موقف المتفرج، ولم يكتفوا بذلك، بل استغلوا الفرصة، وسيّروا جيشاً إلى بيت المقدس الذي كان بيد السلاجقة، وحاصروه ونصبوا عليه أكثر من أربعين منجنيقاً حتى تهدمت أسواره، وسيطروا عليه.
وإزاء ما حلّ بالمسلمين من نكبات في بلاد الشام بسبب الحملة الصليبية، خرج الناس من الشام إلى بغداد لاستثارة الخليفة العباسي، والسلطان السلجوقي محمد ملكشاه، لكن المسلمين حينها كانوا في وضع لا يحسدون عليه، فالخلافة تعاني الضعف، والخلافات تدب في البيت السلجوقي، ومؤامرات العبيديين تحاك ضد المسلمين، حتى قال الإمام ابن كثير واصفاً ذلك الضعف: "... وخرج أعيان الفقهاء يحرضون الناس والملوك على الجهاد فلم يفسد ذلك شيئاً، فإنا لله وإنا إليه راجعون".
لكن ذلك الضعف والتفكك لم يمنع الكثير من المحاولات الجادّة لمحاربة الصليبيين في تلك الفترة، وقد انتصر المسلمين في بعض المعارك، وقد أشرنا إلى أن أولى تلك المعارك التي انتصر بها السلاجقة سنة 489هـ في قونية، في عهد السلطان ركن الدين أبي المظفر ابن ملكشاه.
وبرز اسم أمير الموصل مودود كأحد قادة الجهاد ضد الصليبيين، إلى جانب طغتكين صاحب دمشق، فقد كان لهما همة عالية وجهد كبير في محاربة الحملة الصليبية الأولى، فقد ذكرنا أن طغتكين زوّد العبيديين بالمؤن والمساعدات في صور كي لا تسقط في يد الصليبيين، وكان من أسباب صمودها بحمد الله.
كما أنه أغار في سنة 499هـ على بلاد الجليل في شمال فلسطين.
أما مودود، فيقول فيه ابن الأثير "وكان خيّراً عادلاً كثير الخير" وقد كان سبّاقاً لقتال الصليبيين لولا خذلان بعض الأمراء له، الأمر الذي جعله يترك العمل مع هؤلاء الأمراء، ويتوجه للعمل مع أمير دمشق طغتكين ويتفق معه على حرب الصليبيين في الشام، ففي سنة 505هـ أغار مودود على الصليبيين، وفي العام التالي سار إلى جهات طبريا، وأغار على مدينة طبريا.
وقبل ذلك كان يجمع جنوده في إمارة الرها، وخرب الكثير من بلاد الأرمن الساكنين هناك، الذين كانوا يعانون الصليبيين القادمين من أوروبا، وأسر عدداً من جنود الصليبيين.
وفي بداية سنة 507هـ كان مودود وطغتكين يقودان معركة حاسمة ضد الصليبيين في طبريا، يروي ابن الأثير في "الكامل" بعض أحداثها، فيقول: "في هذه السنة (أي 507هـ) اجتمع المسلمون وفيهم الأمير مودود بن التونتكين صاحب الموصل، وتميرك صاحب سنجار، والأمير أياز بن أيلغازي، وطغتكين صاحب دمشق.
وكان سبب اجتماع المسلمين أن ملك الفرنج بغدوين تابع الغارات على بلد دمشق، فغلت الأسعار فيها، وقلّت الأقوات، فأرسل طغتكين صاحبها إلى الأمير مودود يشرح له الحال، ويستنجده ويحثه على الوصول إليه، فجمع عسكراً، وسار فعبر الفرات آخر ذي القعدة سنة ست وخمسمائة، فخافه الفرنج.
وسمع طغتكين خبره، فسار إليه، ولقيه بسلميّة، واتفق رأيهم على قصد بغدوين ملك القدس، فساروا إلى الأردن، فنزل المسلمون عند الأقحوانة، ونزل الفرنج مع ملكهم بغدوين، وجوسلين صاحب جيشهم، وغيرهما من المقدمين والفرسان المشهورين ودخلوا بلاد الفرنج مع مودود، وجمع الفرنج فالتقوا عند طبرية ثالث عشر المحرم، واشتد القتال وصبر الفريقان".
ويتحدث ابن الأثير عن نتائج هذه المعركة فيقول: "ثم إن الفرنج انهزموا، وكثر القتل فيهم والأسر، وممن أسر ملكهم بغدوين فلم يعرف، فأخذ سلاحه، وأطلق فنجا، وغرق منهم في بحيرة طبرية ونهر الأردن كثير، وغنم المسلمون أموالهم وسلاحهم، ووصل الفرنج إلى مضيق دون طبرية، فلقيهم عسكر طرابلس وأنطاكية، فقويت نفوسهم بهم، وعاودوا الحرب، فأحاط بهم المسلمون من كل ناحية، وصعد الفرنج إلى جبل غرب طبرية فأقاموا به ستة وعشرين يوماً، والمسلمون بإزائهم يرمونهم بالنشاب فيصيبون من يقرب منهم ومنعوا الميرة عنهم لعلهم يخرجون إلى قتالهم، فلم يخرج منهم أحد، فسار المسلمون إلى بيسان ونهبوا بلاد الفرنج بين عكا إلى القدس، وخربوها وقتلوا من ظفروا به من النصارى".
لكن لبعد جيوش المسلمين عن بلادهم، وانقطاع المادة عنهم، أذن مودود للعساكر في العودة والاستراحة ثم الاجتماع في الربيع لمعاودة الغزاة.
وإذا كان بداية هذا العام (507هـ) قد شهد انتصاراً مدوياً للمسلمين بقيادة مودود على الصليبيين وملكهم بغدوين، فما هي إلاّ أيام وأسابيع قلائل حتى شهد ربيع الأول من ذلك العام مأساة قتل الأمير مودود على يد أتباع الباطنية، إذ دخل مودود في الحادي والعشرين من ربيع الأول من ذلك العام دمشق ليقيم عند أميرها طغتكين إلى الربيع، فدخل الجامع الأموي في ذلك اليوم لأداء صلاة الجمعة، هو وطغتكين، فلما فرغوا من الصلاة، وخرج مودود إلى صحن الجامع ويده في يد طغتكين "وثب عليه باطني فضربه، فجرحه أربع جراحات، وقتل الباطني وأخذ رأسه، فلم يعرفه أحد، فأحرق".
وكان مودود رحمه الله يوم طُعن صائماً، فحمل إلى دار طغتكين، وحاولوا أن يجعلوه يفطر كي يسهل علاجه، فرفض، وقال "لا لقيت الله إلاّ صائماً" فمات من يومه رحمه الله.
وفي تفسيره لجريمة قتل مودود يقول ابن الأثير: "فقيل إن الباطنية بالشام خافوه وقتلوه، وتابعه ابن كثير في "البداية والنهاية" إذ يقول" "... فظفر باطني على مودود فقتله رحمه الله، وهكذا نفذ الباطنية الإسماعيلية ما كانوا يصبون إليه من قتل علماء المسلمين ومجاهديهم، ولم يكن مودود أولهم ولا آخرهم.
ومن الأمور العجيبة في هذه الجريمة أن ملك الفرنجة بغدوين لمّا وصله خبر قتل مودود، أرسل رسالة إلى طغتكين جاء فيها: "إن أمة قتلت عميدها يوم يعدها في بيت معبودها، لحقيق على الله أن يبيدها".
للاستزادة:
1ـ الكامل في التاريخ ـ ابن الأثير الجزء التاسع.
2ـ البداية والنهاية ـ الإمام ابن كثير الجزء الثاني عشر.
3ـ الحركات الباطنية في العالم الإسلامي ـ د. محمد الخطيب ص 446.
4ـ التاريخ الإسلامي (الدولة العباسية ـ الجزء السادس) محمود شاكر.
5ـ أطلس تاريخ الإسلام ـ د. حسين مؤنس ص 267.
6ـ خيانات الشيعة وأثرها في هزائم الأمة الإسلامية ـ د. عماد علي عبد السميع ص 115.