انتصار حزب الله (الحلقة الثانية)

بواسطة محمد سرور زين العابدين قراءة 2280

انتصار حزب الله (الحلقة الثانية)

محمد سرور زين العابدين

خلاصة الحلقة الماضية

1 - لم تنقطع مقاومة أهل السنة [مؤمنهم وفاسقهم] لأطماع اليهود في مختلف السنوات التي تلت الحرب الكونية الأولى، وكان علماؤنا يقودوننا في ميادين التضحية والفداء، كما كان شبابنا وشيوخنا يتسابقون إلى حمل السلاح، وبذل المال والمهج والأرواح في سبيل الله.

2 - إخراج المقاومة من لبنان كان نتيجة مؤامرة شارك في تنفيذها والتخطيط لها داخلياً: الشيعة، والموارنة، والدروز، وخارجياً كل من: أمريكا، وإسرائيل، وسورية الأسد، وفرنسا، وعملاء هذه الأنظمة داخل لبنان، ومما يجدر ذكره أن القوات النصيرية دخلت لبنان بتفويض من معظم الدول العربية.

3 - لم تقتصر المؤامرة على إخراج المقاومين الفلسطينيين وحدهم، وإنما شملت أهل السنة من فلسطينيين ولبنانيين وجنسيات أخرى، ولم يفرق المتآمرون بين المؤمن والفاسق من السنيين، كما أن الإخراج لم يكن بطرق سلمية، وإنما بحرب مدمرة وغير متكافئة، وكان من آثار هذا الدمار قتل علمائنا وأطفالنا ونسائنا وشيوخنا العجز.

4 - اختفى شعار تحرير فلسطين، كل فلسطين ولو بشكل تدريجي بعد إخراج المقاومة السنية من لبنان، واستبدل بتحرير جنوب لبنان، أما العرب في غير لبنان، فرفعوا شعار تحرير القدس والضفة الغربية والجولان.

* * *

ملحوظتان:

الأولى: شكا بعض الإخوة من طول هذه الحلقة - أي الأولى - وقالوا: من يصبر على قراءتـها فقد لا يصبر على قراءة الحلقة التي تليها، وأضافوا: أما كان من الأفضل اختصار هاتين الحلقتين ببضع صفحات وفي عدد واحد؟!.

وإنني إذ أشكر هؤلاء الإخوة الأفاضل على ما بذلوه من جهد في قراءتـهم للحلقة الأولى، فإنني أعتذر إليهم عن عدم قدرتي على تنفيذ رغبتهم لأسباب متعددة:

منها: أن هذا الموضوع شائك، ومتعدد المداخل، ويكثر فيه الجدل، ومن جهة أخرى فهذا الذي كتبته قد راعيت فيه الاختصار قدر الاستطاعة.

ومنها: أن الذين كانوا يلحّون علينا في السؤال عن انتصار حزب الله معظمهم من الشباب، وهذا يعني أن بعضهم ما كان قد ولد عندما وقعت الحرب الأهلية في لبنان عام 1975، وبعضهم الآخر ما كان قد بلغ سن التمييز.

ومنها: كثرة المغفلين من أبناء جلدتنا الذين يَفْصِلونَ انتصار حزب الله عن إطاره العام، ويعتبرونه فتحاً عظيماً للإسلام والمسلمين، ويستغربون ما نكتبه في هذا المجال.. هؤلاء - وبغض النظر عن نواياهم - يخدمون مخططات الرافضة في بلادنا.

وإذا كان القارئ يبذل جهداً مضنياً في القراءة، فهل فكر بالجهد الذي أبذله في تحضير المادة، ثم في كتابتها؟!، ولو كنت أرى أنه من الممكن جمع الموضوع كله ببضع صفحات لما أرهقت نفسي وأرهقت القراء معي.. وعلى كل حال فهذا هو قدرنا نحن الذين نعيش في عصر المختصرات والوجبات السريعة.

الثانية: كنت قد توسعت في الكتابة عن بعض هذه المعلومات التي وردت في هذا البحث، ولهذا فقد آثرت عدم ذكر المصادر في كثير من الأخبار التي عرضتها، لأن ذكر المصادر يزيد من عدد الصفحات، ويدعو إلى الملل، ولكنني والحمد لله أحتفظ بتوثيق كل خبر ذكرته.

نشوء الحزب:

مع إطلالة عام 1982 م كانت حركة أمل الشيعية التي تأسست عام 1973 قد أدت الدور المطلوب منها، واستنفدت أغراضها، ولم تعد صالحة في عهد الخميني وثورته الإسلامية، ويعود ذلك لأسباب كثيرة أهمها:

1 - ارتباط مؤسس هذه الحركة - موسى الصدر - بأنظمة مشبوهة: منها: نظام شاه إيران ومخابرات [السافاك]. ومن المعروف أن هذه المخابرات هي التي أرسلته عام 1958 إلى لبنان، لتجميع صفوف الشيعة، ومقاومة المد الناصري في لبنان وبقية الدول العربية. ومنها: ارتباطه مع نظام النهج في لبنان [فؤاد شهاب] الذي منحه الجنسية، كما منحه أيضاً ترخيصاً بإنشاء المجلس الشيعي الأعلى، وكان هدف الطرفين: النهج والصدر إضعاف شوكة أهل السنة في لبنان. ومنها: صلاته المتينة مع نظام القذافي الذي كان يقدم له مساعدات مالية مغرية، وكانت هذه المساعدات سبباً في إقدام القذافي على قتله، لأنه - أي القذافي - شعر أن الصدر تمرد عليه، ووقف في خندق المعادين للقوى الوطنية في لبنان.

2 - لم تعد حركة أمل مقبولة خارج إطار معظم الشيعة في لبنان، وخاصة بعد تحالفها مع قوات النظام النصيري، وبعد أن تبيّن للجميع أنـها كانت تنسق مع القوات الغازية قبل دخولها إلى لبنان [كما رأينا في الحلقة الماضية].

3 - انتقال قيادة الحركة بعد غياب موسى الصدر إلى أشخاص، لا يعدون من علماء الشيعة مثل: حسين الحسيني، ونبيه بري، وزاد الطين بلة أن الأخير - بري - صار يدعو صراحة إلى علمانية الحركة، ويريد أن يكون الارتباط بإيران وآياتـها محدوداً، وليس فيه تبعية مطلقة.

إن حركة أمل، وإن كانت شيعية في شكلها ومضمونـها، وحققت للطائفة إنجازات كبيرة على جميع المستويات، وقدمت لثوار الخميني خدمات جلى.. مع كل هذه الاعتبارات فقد أصبحت مرفوضة عند أهل السنة وبعض الشيعة، وعند معظم الحركات الوطنية، وليس من مصلحة إيران أن تتبنى ورقة محروقة، لأن طموحاتـها في لبنان واسعة وتحتاج إلى ترتيب جديد.

هذه الطموحات الجديدة يحدثنا عنها حجة الإسلام فخر روحاني - سفير إيران في لبنان - في مقابلة أجرتـها معه صحيفة اطلاعات الإيرانية في نـهاية الشهر الأول من عام 1984، يقول روحاني عن لبنان:

"لبنان يشبه الآن إيران عام 1977، ولو نراقب ونعمل بدقة وصبر، فإنه إن شاء الله سيجيء إلى أحضاننا، وبسبب موقع لبنان وهو قلب المنطقة، وأحد أهم المراكز العالمية، فإنه عندما يأتي لبنان إلى أحضان الجمهورية الإسلامية، فسوف يتبعه الباقون".

ويضيف قائلاً:

"لقد تمكنا عن طريق سفارتنا في بيروت من توحيد آراء السنة والشيعة حول الجمهورية الإسلامية والإمام الخميني، والآن غالبية خطباء السنة يمتدحون[1] الإمام الخميني في خطبهم".

"وسئل عن نبيه بري فقال: إنه عضو في السي، آي، إيه [المخابرات الأمريكية]، وكان انتخابه رئيساً لمنظمة أمل بحماية السفارة الأمريكية.

ويتابع حديثه عن أمل:

"أمريكا تدعم عملاءها مباشرة أو عن طريق التابعين لها، وإلا فكيف يمكن تفسير قيام الجزائر بدفع خمسين مليون دولار لمنظمة أمل؟ ما هي علاقة الجزائر؟ بلد سني[2] في شمال أفريقيا يقوم بدعم الشيعة في لبنان، ظاهرة فريدة وحسنة.. ولكن أنا أعرف بأن أمريكا وراء دعم الجزائر للشيعة" اهـ.

ونقلت صحيفة النهار اللبنانية [11/1/1984] عن السفير نفسه - روحاني - قوله: "لبنان يشكل خير أمل لتصدير الثورة الإسلامية".

قلت: حجة الإسلام فخر روحاني من السفراء المعدودين في إيران، وقد أدلى بـهذه التصريحات بعد انتهاء عمله في لبنان، ولكنه كان يعني ما يقول، وعندما سألت إطلاعات رئيس الوزراء في تلك الفترة "مير حسين موسوي" عن هذه التصريحات أيدها، وأشاد بسعة معلومات روحاني، وعمق خبرته في الشأن اللبناني، أما وزارة الخارجية فكانت طبيعة عملها تقتضي مجاملة الحكومة اللبنانية وعدم الاصطدام معها، ومثل هذه التناقضات محسوبة وكثيرة بين أوساط المسؤولين الإيرانيين.

* * *

وإذا كان لبنان بوابة إيران إلى البلدان العربية.. وإذا كان هذا الحزب الجديد سيكلف بمهمات أكبر من حجم لبنان.. وإذا كان الحزب الجديد لن يتمكن من منافسة منظمة أمل إلا إذا كان مدعوماً دعماً قوياً من إيران.. إذن لابد وأن يتولى الخميني بالذات هذه المهمة، وهذا الذي حدث:

منذ الاجتياح الإسرائيلي للبنان 1982 بدأت قوات الحرس الثوري الإيراني تتسلل إلى لبنان عن طريق سورية وبالتنسيق معها، وأقامت هذه القوات مخيمين لتدريب الشيعة: الأول في الزبداني، وهي بلدة سورية على حدودها مع لبنان، والثاني في بعلبك اللبنانية، وكانت القوات السورية تشارك في التدريب، وفي تنظيم دخول قوات الحرس الثوري إلى لبنان بدون تأشيرة، وهل يستطيع الأمن اللبناني محاسبة السوريين عن مثل هذه الأمور؟!.

ولابد لنا هنا من تسجيل الملحوظات التالية:

كان المسلمون العرب من أهل فلسطين، والجزيرة العربية، ومصر، وبلاد الشام، والمغرب العربي يسعون من أجل دخول لبنان، والانضمام إلى القوات التي تدافع عن بيروت الغربية، وعن الجنوب المحتل.. كان هؤلاء الأحرار يطرقون جميع الأبواب، وهم لا يريدون غير إغاثة أطفال المسلمين ونسائهم، وغير الموت في ساحة الوغى، وكان النظام النصيري لا يسمح لأي من هؤلاء بمجرد المرور من سورية إلى لبنان.. أخبرونا بالله عليكم أيها المغفلون من أبناء قومنا: لماذا يغلق هذا النظام الخبيث الأبواب بوجه كل ما هو سني، ويفتحها على مصراعيها أمام كل ما هو شيعي؟!.. أجيبوا أيها المعجبون بحزب الله، وبكل ما هو شيعي خميني:

لماذا يرفض هذا النظام اللحية السنية ويقبلها إذا كانت شيعية؟!.

على هامش "المؤتمر الأول للمستضعفين" اجتمع الخميني بعدد من علماء ودعاة الشيعة الذين شاركوا في هذا المؤتمر، وكان من بينهم: محمد حسين فضل الله، صبحي الطفيلي، وممثل حركة أمل في طهران إبراهيم أمين، وتدارس معهم الخطوات الأولى اللازمة من أجل إنشاء هذا الحزب الجديد.

عاد الوفد إلى لبنان، وكثَّف من اتصالاته مع وجهاء وعلماء الطائفة الذين لم يشاركوا في لقاء طهران، ثم تكرر لقاؤهم بالخميني، ووضعوا وإياه الخطوط العريضة لحزب الله. يقول أحمد الموسوي في مقال له بمجلة الشراع: "من أنتم.. حزب الله (2)":

"ثم استكملت الخطوط التنظيمية الأولى باختيار هيئة قيادية للحزب ضمت 12 عضواً هم: عباس الموسوي، صبحي الطفيلي، حسين الموسوي، حسن نصر الله، حسين خليل، إبراهيم أمين، راغب حرب، محمد يزبك، نعيم قاسم، علي كوراني، محمد رعد، محمد فنيش.

ولم يكن هؤلاء وحدهم نواة التأسيس لحزب الله، إنما كان معهم عشرات من الكوادر والشخصيات الإسلامية الأخرى من حركة أمل، وحزب الدعوة، وقوى ومجموعات تبلورت شخصيتها الإسلامية السياسية مع الثورة الإسلامية وقائدها الإمام الخميني، وكوادر أمنية أخرى ما زالت أسماؤها طي الكتمان".

فمن هذه الشخصيات التي بقيت أسماؤها طي الكتمان، ولم يعلن عنها؟!، تقول كثير من المصادر المختصة: كان من بين هذه الأسماء رئيس المجلس الشيعي الأعلى محمد مهدي شمس الدين، ومحمد حسين فضل الله، ولقد جاء في كتاب الحروب السرية في لبنان: "يتولى الخميني أعلى المسؤوليات في لبنان، ونظراً لبعده عن لبنان، يفوض صلاحياته التشريعية والتنفيذية والقضائية إلى نائبه محمد مهدي شمس الدين الذي يرأس لجنة ولاية الفقيه"، وهناك أسماء أخرى يحافظون على سريتها، ويحرصون على عدم ارتباطها العلني بحزب الله، ومن الأمثلة على ذلك الأسماء التي كانت تحمّلها أجهزة المخابرات العربية والغربية مسؤولية الأعمال الإرهابية كخطف الرهائن والطائرات.

وهناك أنصار للحزب في أوساط أهل السنة مثل الشيخ سعيد شعبان وحركته - التوحيد - وتجمع العلماء، ومنظمة الجهاد الفلسطينية، حتى أن بعض هؤلاء كان يتهم بالتشيع.

ومركز قيادة الحزب الفعلية لا الشكلية هي السفارة الإيرانية، ومن الأطراف التي كانت تشارك في اجتماعات قيادة الحزب وفي اتخاذ القرارات، سفير إيران السابق في دمشق - محتشمي - وقائد الحرس الثوري في لبنان.

حزب الله اللبناني عضو في المجلس الأعلى للثورة الإسلامية، الذي تأسس في طهران عام 1981، أما بقية الأعضاء فهم: الجبهة الإسلامية لتحرير البحرين، ومنظمة الثورة الإسلامية في شبه الجزيرة العربية، حزب الدعوة العراقي، وحركة العمل الإسلامي العراقية، وحركة أمل الإسلامية - حسين الموسوي - وهذه الحركة جزء من حزب الله، أما المحافظة على اسم آخر فكان من قبيل التقية.

ويجتمع أعضاء المجلس الأعلى للثورة الإسلامية اجتماعات دورية في طهران، وبحوزتـهم عدد من معسكرات التدريب موزعة بين إيران وسورية ولبنان، ففي إيران لهم أربعة معسكرات، وفي سورية اثنان: معسكر السيدة زينب، ومعسكر الزبداني، وفي لبنان: معسكر الشيخ عبد الله، ومعسكر الدركي، وكلاهما في بعلبك.

فنحن إذن أمام تنظيم عالمي يرعاه الخميني أو من يمثله، والمنظمات التي يتألف منها المجلس الأعلى للثورة الإسلامية تؤدي مهمة مزدوجة: الأولى محلية، والثانية عالمية، والقيادة طهران الآيات[3].

وخلال أشهر قليلة، وُلِدَ وترعرع في لبنان حزب يعتبر من أكبر وأغنى الأحزاب اللبنانية على الإطلاق بما فيها حزب الكتائب الذي مضى على تأسيسه أكثر من خمسين عاماً.. كيف حدث ذلك؟!.

الذين يثيرون مثل هذا السؤال يعرفون الجهود المضنية التي يبذلها كل من أراد أن يشكل حزباً سياسياً، فهو من جهة لابد له من صياغة مبادئ مقنعة لهذا الحزب، ومن جهة أخرى لابد له من إقناع الناس بجدوى هذه المبادئ، وقدرتـها على منافسة الأحزاب الأخرى، وقد يمر عقد أو عقدين، دون أن يتطور هذا الحزب، ويحتل مكان الصدارة في ميادين الأنشطة السياسية.

لكن هؤلاء الذين يثيرون مثل هذا السؤال يجهلون أن الإمامية - الاثني عشرية - هم أقرب ما يكونون إلى الحزب، فمراجعهم من الآيات يتولون مركز قيادة الطائفة، والمتمسكون بدينهم من أبناء الطائفة هم قاعدة هذا الحزب، وحتى غير المتمسكين بدينهم لبعضهم دور داخل هذا التنظيم، أما المناهج والأهداف، والتستر خلف شعارات براقة تستقطب الجماهير [التقية]، فللقوم باع طويل في هذا المجال، وخبرة عريقة عمرها هو عمر التاريخ الإسلامي.

وعندما جاءت الأوامر والتعليمات من آية الله روح الله الخميني، قال معظم شيعة لبنان سمعاً وطاعة للإمام وحكومته، فكم نتمنى أن يفهم المنظرون الفلاسفة من أصحابنا معلومات كافية عن عقائد الشيعة وآياتـهم وطبيعة تكوينهم.. وكم نتمنى أن يدركوا أهمية المرجعية في نشأة وتطور الطوائف والأحزاب والجماعات، ولو أدركوا ذلك لوفروا على أنفسهم هذه الأوقات والجهود التي يهدرونـها، وجعلوا القضية الأولى في مسيرتـهم الدعوية هي قضية المرجعية.

أما التمويل المادي لحزب الله فقد تكفلت به قيادتـهم في إيران، ويقول المختصون بالشأن الإيراني أن هذه المساعدات بلغت في بداية رئاسة رفسنجاني الثانية حوالي [280 مليون دولار]، وهذا غير السلاح والعتاد الحربي الذي كان يشحن لهم عن طريق سورية، ومن الأرقام الأخرى التي تذكر [12 مليون] في الشهر، ويقول علي نوري زاده: بلغت المساعدات عام 1993 [160 مليون]، وجاء في كتاب الحروب السرية:

"بلغت الأجرة الشهرية للمقاتل خمسة آلاف ليرة لبنانية، وهي أعلى أجرة تقاضاها مقاتل في لبنان عام 1986، لدرجة أن مقاتلي أمل راحوا بـهدف الكسب يهجرون صفوف الحركة للانخراط في حزب الله، وهذا الأخير يجني موارده أيضاً من الزكاة ومن ابتزاز الأموال من التجار المسيحيين أو من الذين لا يلتزمون بالتعاليم الإسلامية [الحلاقون والخياطون وأصحاب الملاهي] وكذلك من خطف الرهائن، فضلاً عن ذلك جاء في تقرير دبلوماسي فرنسي أن حزب الله في البقاع قد استولى على الأراضي المسيحية فيها لنشر زراعة الخشخاش"[4].

فعلى الذين يحلو لهم أن يقارنوا ما بين حزب الله والأحزاب السنية الإيرانية أن يضعوا في حسبانـهم تركيبة الطائفة الشيعية من جهة، وحجم الدعم الذي كانت إيران تقدمه لفرعهم في لبنان، ومن الأمثلة على ذلك أن عدد الخبراء والمدربين الإيرانيين الذين كانوا يتولون رعاية تنظيم شؤون حزب الله في لبنان يزيد عن الألفين.

أما أحزاب أهل السنة، فلا تلقى من الحكومات العربية إلا الكبت والاضطهاد والتنكيل، وحرمانـهم من الأنشطة الإعلامية والسياسية والاقتصادية والثقافية، والمساعدات التي تقدمها هذه الأنظمة تكون من نصيب الجهات التي تحاد الله ورسوله والذين آمنوا، فأين هذا من ذاك؟!.. إننا لو نظرنا إلى الجانبين: الاقتصادي والاجتماعي في حزب الله لوجدنا أنفسنا أمام دولة وليس أمام حزب: فمن المؤسسات التعليمية إلى المؤسسات الصحية، إلى مؤسسات البناء والتجارة، وغير ذلك كثير.

المرحلة الأولى من مسيرة الحزب:

تأكد عندنا فيما مضى أن حزب الله مؤسسة إيرانية في ثوب لبناني، وهذا يعني أنه لابد لنا من استعراض الأوضاع العامة في إيران لنتعرف من خلالها على أهداف هذا الحزب في مرحلته الأولى.

كانت إيران في عام 1982 [وهو العام الذي تأسس فيه الحزب] تخوض حرباً شرسة مع العراق، وكانت الكفة قد بدأت تميل لمصلحة العراق، ولم يكن ذلك متوقعاً، لأن عدد سكان إيران ثلاثة أمثال عدد سكان العراق، ونسبة الشيعة العراقيين تتجاوز 40% قليلاً، وكثير من هؤلاء سيكونون "طابوراً خامساً" لمصلحة إيران، وكان شاه إيران قد ترك للآيات جيشاً قوياً، وأسلحة متطورة.

إيران كانت تعتقد أن العراق ما كان ليتفوق عليها لولا الدعم المادي الذي كان يتلقاه من دول الخليج، وبشكل خاص من السعودية والكويت، وهذا الاعتقاد صحيح لأن دول الخليج كانت مهددة من إيران التي رفعت شعار تصدير الثورة منذ تولي الآيات زمام الحكم، وكانت تدافع عن نفسها من خلال المساعدات التي تقدمها للعراق.

وكان العراق يتلقى الدعم العسكري - أعني الأسلحة وقطع الغيار - من فرنسا بالدرجة الأولى، ثم من أمريكا، وكان للسعودية دور في إقناع الأمريكان بتقديم هذا الدعم لأن الخليج مهدد بالسقوط إن انتصرت إيران على العراق.

الأمريكان والفرنسيون كانوا يدعون الحياد في هذه الحرب، وادعاؤهم هذا ليس صحيحاً، فقد كانوا معنيين باستمرار هذه الحرب، لأن في استمرارها: إنعاشاً لاقتصادهم، واستنـزافاً لثروات البلدين وبلدان دول الخليج، وضماناً لتفوق جيش ربيبتهم إسرائيل، لكنهم أيضاً معنيون - بدافع من مصالحهم - بحفظ أمن الخليج، وعدم سيطرة الإيرانيين عليه.

وإذن: فإن أهداف الحزب في مرحلته الأولى لن تتجاوز ما يلي:

1 - قيام جمهورية إسلامية في لبنان، ولولا تصدير الثورة لما وقعت حرب إيران مع العراق، وإن ادعى الإيرانيون بأن العراق هي التي بدأت هذه الحرب.

2 - توجيه ضربات موجعة لكل من الدول الآتية: أمريكا، فرنسا، السعودية، الكويت.

أما تصدير الثورة إلى لبنان، فلقد مر معنا فيما مضى مقابلة حجة الإسلام فخر روحاني سفير إيران في بيروت، وقوله الذي نقلته عنه النهار: "لبنان يشكل خير أمل لتصدير الثورة الإسلامية".

وما كان قادة الحزب يخفون هذا الهدف، ففي كانون الثاني من عام 1986 راحوا يعدون في طهران، دستور الجمهورية الإسلامية المقبلة [على كل لبنان أو على جزء منه]، وقد شارك في إعداده [63 شخصية] ومنهم من هو منسوب لأهل السنة، ومما جاء في هذا الدستور:

"ينبغي تأليف حكومة إسلامية في لبنان كشرط لازم لوضع حدٍ للحرب الداخلية فيه"، ومما هو جدير بالذكر أن الخميني هو المرجع لهذه الدولة، وهو عندهم ظل الله في الأرض كلها.

قيل لأحد قادة الحزب - إبراهيم الأمين -: أنتم جزء من إيران، فكان رده: "نحن لا نقول: إننا جزء من إيران؛ نحن إيران في لبنان، ولبنان في إيران" [جريدة النهار: 5 - 3/1987].

وبعد تفجير مقري المارينـز ووحدة المظليين الفرنسيين أُرسِلَتْ البرقيات التالية للخميني: "حزب الله وجه مع تجمع العلماء المسلمين في 29/10/1983 برقيات إلى الإمام الخميني ومجلس الدفاع الأعلى للثورة الإسلامية في إيران، أشادوا فيها بالانتصارات التي يحققها المسلمون، ومما جاء في البرقيات:

"إن شعبكم المسلم في لبنان والمرتبط بولايتكم يرفع إلى مقامكم أسمى التبريكات والتهاني لمناسبة انتصار حماة الإسلام.. نرفع إليكم التهاني ببركة حركتكم الشعبية المتصاعدة في لبنان وفي بيروت حيث الضربة الحيدرية والخمينية لمقري قيادتي القوات الأمريكية والفرنسية"[5].

فالحركة في لبنان للخميني، والشعب المسلم مرتبط بولايته، والضربة حيدرية وخمينية، وهذه هي العقلية التي كان يفكر بـها ما يسمى بتجمع العلماء، إذ لا حل عندهم وعند حزب الله إلا بقيام جمهورية لبنانية إسلامية على غرار إيران.

هذا عن تصدير الثورة، أما الحديث عن أهم العمليات فنوجزه فيما يلي:

1 - اختطاف "دافيد دودج" رئيس الجامعة الأمريكية بالوكالة، في تموز 1982، وكان أول رهينة غربية، وقد نقل إلى دمشق، ومنها جرى نقله جواً إلى طهران حيث وضع بسجن انفرادي بالقرب من مطار مهراباد.

2 - في 17/3/1983 أعلنت منظمة تطلق على نفسها اسم "الجهاد الإسلامي" عن هجومها على دوريتين: إيطالية وأمريكية، وأوقعت في صفوفهما ثلاثة عشر جريحاً.

3 - وفي 18/4/1983 أعلنت المنظمة - الجهاد - مسؤوليتها عن الاعتداء على السفارة الأمريكية بواسطة سيارة مفخخة، وكانت محصلة هذا الاعتداء: 63 قتيلاً، والجدير بالذكر أن حزب الله كان قد أصدر عام 1986 طابعاً بريدياً بمناسبة تحقيق هذا النصر على "الشيطان الأكبر"، وجرى توزيعه عن طريق رسائلهم التي يرسلونـها من بيروت الغربية إلى كل مكان في العالم.

4 - وفي 23/11/1983 اقتحمت سيارتان انتحاريتان مبنيين يضمان جنود القوة المتعددة الجنسية فسقط 241 قتيلاً من البحارة الأمريكيين و 58 مظلياً فرنسياً عدا عشرات الجرحى.

5 - أعلنت منظمة الجهاد الإسلامي في كانون الثاني 1984 مصرع رئيس الجامعة الأمريكية في بيروت "مالكوم كير".

6 - في 12/12/1983 هزت الكويت سبعة انفجارات: ثلاثة منها وقعت في مصالح أمريكية، وثلاثة أخرى في مؤسسات كويتية هي: الشعيبة الصناعية، ومبنى المراقبة والتحكم الآلي التابع لوزارة الكهرباء والماء، وبرج المراقبة في مطار الكويت الدولي، والانفجار السابع أمام مقر السفارة الفرنسية في حي الجابرية السكني.

7 - وفي عام 1985 تعرض الأمير الشيخ جابر الأحمد لمحاولة اغتيال عندما اعترضت الموكب سيارة مفخخة في عملية انتحارية لم يكتب لها النجاح، ونجا الأمير من الموت بأعجوبة.

وفي هذه والتي قبلها ألقت السلطات الكويتية القبض على الجناة، وكانوا خليطاً من العراقيين والكويتيين واللبنانيين.

8 - وفي 11/3/1983 اختطف الحزب طائرة كويتية وعلى متنها [500 راكباً]، وأجبروها على التوجه إلى مطار مشهد الإيراني، واحتجزوا في لبنان رهينتين وهما [جان لوي نورماندان، وروجيه أوك] من الجنسية الفرنسية.

9 - ابتدعوا في حجهم ما أسموه "مسيرة الوحدة" والبراءة من الشيطان، والحج لا يحتمل مثل هذه المظاهرات الصاخبة، فما كان من السلطات السعودية إلا التصدي لهذه الفتنة التي افتعلها الرافضة وبلغت قمتها في عام 1987، ومما ضاعف من استعدادات السعودية اكتشافها أسلحة خفيفة أثناء تفتيش أمتعة الحجاج الإيرانيين، وهكذا حولوا موسم الحج إلى ساحة حرب، ففي عام 1987 سقط عشرات القتلى، وامتلأت مستشفيات ومستوصفات مكة بالجرحى.

* * *

هذه بعض الأعمال الإرهابية التي نفذها حزب الله في المرحلة الأولى التي أعقبت تأسيسه، وكانت البيانات التي تصدر بعد كل عملية تنسب إلى: منظمة الجهاد الإسلامي، أو منظمة العدالة الثورية، أو المقهورون في الأرض، وكلها أسماء وهمية ليس لها أصل، يقول صبحي الطفيلي الأمين العام الأسبق لحزب الله:

"تضم الجهاد الإسلامي كل الذين يريدون التستر خلف اسم ما دون الإعلان عن هويتهم"، ومن جهة أخرى فقد كان الغرب والشرق يعلم أن حزب الله هو الذي ينفذ هذه العمليات نيابة عن إيران، وكانت بعض الدول الغربية تضطر إلى التفاوض مع إيران بشكل سري، من أجل إطلاق سراح المخطوفين، ولعل كثير من المتابعين ما زالوا يذكرون فضيحة "إيران غيت" التي كشفها جناح آية الله حسين المنتظري عن طريق مجلة الشراع اللبنانية، وتعرض صاحبها لمحاولة اغتيال بسبب نشره لأسرار هذه الصفقة بين إيران - الثورة الإسلامية - وبين الشيطان الأكبر.

إيران كانت تدعي أن الأمريكان هم العدو رقم (1) للإسلام والمسلمين، وأنه لا مجال لأي لقاء أو تفاهم أو حوار بينهما، وأمريكا التي تتشدد في مقاطعة إيران زعيمة الإرهاب في العالم، ثم يكتشف العالم قضية الطائرة الأمريكية التي هبطت في مطار طهران، وهي محملة بقطع الغيار، وعلى متنها وفد من كبار المسؤولين في البيت الأبيض، أرسلهم الرئيس الأسبق "ريغان" للتفاوض مع نظرائهم من مساعدي الخميني.

استطاعت إيران أن تحل كثيراً من مشاكلها مع الغرب مستخدمة في ذلك قضية الرهائن، أما سورية، فلقد قدمت خدمات نادرة للأمريكيين والفرنسيين، وكان لها الفضل (!!) في إطلاق بعض الرهائن، ومما لا شك فيه أن الغربيين يحترمون مواطنيهم، ويحرصون على سلامتهم وكرامتهم، ولهذا السبب فقد اقتنع الأمريكان بأهمية عودة القوات السورية إلى بيروت، وقد عادت بالفعل، وأغلق ملف الرهائن.

ولسائل أن يسأل: ما هي علاقة حزب الله بالأعمال الإرهابية التي وقعت في الكويت وفي السعودية؟!.

الجواب: حزب الله العضو الأهم في المجلس الأعلى للثورة الإسلامية، وهذا المجلس هو الذي كان ينظم العمليات الإرهابية في الجزيرة وغيرها من بلدان العالم الإسلامي، وفي جميع هذه العمليات كان يجري اعتقال لبنانيين من أعضاء الحزب، ومن جهة ثانية (وهذا هو الأهم) فقد كان يجري تدريب المنظمات الشيعية الإرهابية في لبنان، وكان حزب الله ينظم عمليات تـهريب الأسلحة والمتفجرات إلى إخوانـهم في الجزيرة العربية، ففي عام 1987 اكتشف حكام الخليج (12) ألف قطعة سلاح بين بنادق كلاشينكوف، وقواذف صواريخ آر بي جي، ورشاشات ثقيلة ومتوسطة، واحتجت كل من السعودية والكويت والإمارات عند حافظ الأسد لأن بعض ضباط أمنه كانوا متورطين مع حزب الله في هذه العملية.. والذي أعلمه أن آخر عمليات تـهريب أسلحة من لبنان إلى المنظمات الشيعية في الخليج كان قبل عملية تفير القاعدة الأمريكية في الخبر [25-6-1996] بأيام قليلة.

المرحلة الثانية من مسيرة الحزب:

جدت أمور مهمة على الساحتين اللبنانية والعربية، من أهمها:

1 - أنـهى المؤتمر اللبناني الذي عُقد في مدينة الطائف السعودية، حالة الفوضى، وعادت الدولة لتبسط نفوذها على الأرضي اللبنانية غير الخاضعة للاحتلال.

2 - وافقت إيران الخميني على إنـهاء حربـها مع العراق، وهذا يعني خروجها من هذه الحرب مهزومة.

3 - اجتاحت القوات العراقية دولة الكويت، واعتبرتـها محافظة من محافظات العراق، ووضع هذا الاحتلال العالم على حافة حرب لا يعلم نتائجها إلا الله سبحانه وتعالى.

احتلال النظام العراقي للكويت، وتـهديده لبقية دول الخليج حقق لإيران انتصارات ما كانت تحلم بـها، وكان من أفضلها تنازل صدام عن الانتصارات التي حققها والتي من أجلها قامت الحرب، وتقديمها طواعية لإيران، أما الأمريكان وحلفاؤهم، فقد باتوا يخشون من تحالف إيران مع العراق، ولا يرجون من إيران إلا وقوفها على الحياد.

ولم يكن حزب الله راضياً عن مؤتمر الطائف لأنه قطع الطريق على قيام جمهوريتهم الإسلامية في لبنان، ولهذا فلقد عمت مظاهراتـهم التي تـهاجم السعودية والوهابية مختلف المدن التي ينتشرون فيها، وإذا كانت السعودية قد ضغطت على الفرقاء اللبنانيين من أجل نجاح المؤتمر، فما علاقة الإمام المجدد محمد بن عبد الوهاب رحمه الله ودعوته التوحيدية الإصلاحية؟!.

أجل، لابد أن يبرز الحقد الرافضي الباطني على ألسنة القوم، وعلى جميع مواقفهم وأفعالهم، وما تخفي صدورهم أعظم وأخطر.

إذن: لابد وأن يكون الهدف الجديد متناسباً مع ما جد من أمور مهمة، كما لابد وأن تشارك أطراف ثلاثة في رسمه: إيران وسورية والحزب.

فسورية التي تحتل معظم الأراضي اللبنانية من مصلحتها أن تحارب إسرائيل بقوات حزب الله، لتجبرها على الانسحاب من الجولان، وعقد معاهدة سلام معها، ومن مصلحتها أيضاً أن لا تعود قوات المجاهدين السنة إلى جنوب لبنان، لأن عودتـها تشكل خطراً على النظام النصيري في دمشق، وفضلاً عن هذا وذاك، فإن دعم حزب الله يضمن عودة القوات السورية إلى بيروت، التي أجبرت على الابتعاد عنها بعد اجتياح قوات الصهاينة لبيروت وجنوب لبنان.

وإيران لا تزال تصر على تصدير الثورة، لكنها سلكت طريقاً آخر يختلف عما كان عليه الحال بأيام الخميني، فأسلوب المواجهة الذي اتبعه إمامهم فشل وعاد عليهم بالويل والثبور وعظائم الأمور، أما الأسلوب الجديد الذي سلكه رفسنجاني فليس فيه أي استفزاز للعرب، وعلى العكس فإنه يعتمد على الشعارات التي يفتقدها جمهورنا، ومن هنا جاءت دعوتـهم إلى تحرير فلسطين والمقدسات الإسلامية، ورفع راية الجهاد في سبيل الله، ومساعدة الهيئات والجماعات السنية التي ترفع هذا الشعار، وبالتالي لا تستطيع الحكومات العربية والأجنبية تجاهل إيران ودورها في معاهدات السلام العربية الإسرائيلية، وسيبقى لبنان بوابة إيران إلى البلدان العربية، وسيبقى حزب الله الجهة الوحيدة المنتدبة من أجل تحقيق أهداف إيران وطموحاتـها.

حصر حزب الله جل اهتماماته بمقاومة الاحتلال الإسرائيلي لجنوب لبنان، وعادت سورية إلى بيروت كما كانت وأشد، ومن الصلاحيات الجديدة والمتعسفة التي مارسها النظام نزع سلاح الأحزاب والميليشيات إلا سلاح حزب الله، وإغلاق فضائيات الأحزاب إلا "تلفاز حزب الله"، ومنعت الجماعات الإسلامية السنية والأحزاب الوطنية من الجهاد في الجنوب اللبناني، وكانت هذه الجماعات قد أدت دوراً مهماً في مقاومة الاحتلال، وأوقعت خسائر فادحة في جيش العدو المحتل، وقدمت عدداً كبيراً من الشهداء، فلماذا يمنعون من الجهاد في سبيل الله؟! ألأنـهم من أهل السنة، ولكن نظام أسد يزعم بأنه غير طائفي، وقادة حزب الله وزعماؤهم في طهران يدعون أن ثورتـهم لجميع المسلمين، وكثير من الذين كانوا يجاهدون هم ممن يحسنون الظن بالآيات وحزبـهم المدلل. هل أدركوا تعصب أصحابـهم الطائفي، أم إن المحب لمن يحب مطيع؟!.

أجرت مجلة "فلسطين المسلمة" مقابلة مع نائب الأمين العام لحزب الله الشيخ نعيم قاسم، وكان مما سألته:

أعلنتم قبل فترة عن تأسيس السرايا اللبنانية لمواجهة الاحتلال لتوسيع المقاومة الشعبية للاحتلال، فما هو تقييمكم لنجاح هذه الفكرة؟.

فكان مما جاء في جوابه: "أطلقنا هذه الفكرة بعد جو إشاعة البعض في أننا نحتكر المقاومة، ولا نعطي فرصة للآخرين في الوقت الذي نعتبر فيه أن الساحة مفتوحة للمقاومة، فلسنا نمنع أحداً من الانتقال من موقع لموقع لمقاتلة الإسرائيليين، لكن بعض العاجزين أصبحوا يردون السبب لنا..".

مقابلة نعيم لفلسطين المسلمة كانت في شهر نيسان من عام 1999، وإعلان حزب الله عن تشكيل هذه السرايا كان في عام 1998، أي بعد سيطرتـهم التامة على مختلف مناطق ومدن الجنوب، ومن جهة أخرى فقد كان الحزب يتصرف وكأنه دولة، ولهذا فقد خصص جهازاً لتدريب المتطوعين، وبعد التدريب يحدد للمتطوع نطاق عمله، ومن هذا المنطلق فهو الذي يحدد قبول هذا ورفض ذاك.

هذه العملية الدعائية أعلن عنها الحزب قبل عامين فقط - 1998 - وكان المنع قائماً قبل هذا الوقت، ومنذ عدة سنين، وليسأل من شاء أصدقاء حزب الله من أهل السنة: كأعضاء جبهة العلماء، وحركة التوحيد، والجماعة الإسلامية، بل وليسأل من شاء منظمات ما يسمى بالمعارضة الفلسطينية التي انشقت عن عرفات، وتبعت أسد النصيرية بطل الصمود والتصدي.

وبلغ دعم إيران للحزب أوجه في هذه المرحلة، جاء في تقرير وجهه أحد الدبلوماسيين الأوربيين إلى حكومته في مطلع صيف 1986، وكشف فيه أبعاد اللعبة السورية، ما يلي:

"تقوم طائرات الشحن الإيرانية من طراز بوينغ 747 بالإقلاع والهبوط ثلاث مرات في الأسبوع، على طرف مدرج مطار دمشق، ناقلة حمولات غامضة، فالبضائع التي تفرغ عبارة عن أسلحة خفيفة مرسلة إلى [حراس الثورة] الذين يشرفون على تدريب أتباع حزب الله في معسكر زبداني بالقرب من دمشق، أو في المعسكرات الكائنة في منطقة بعلبك. أما البضائع المحملة فهي مدافع هاون وصواريخ مضادة للطيران من طراز سات. كذلك يحفل ميناء اللاذقية بنشاط من هذا النوع"[6][6].

وهذا الدعم الذي كان حزب الله يتلقاه من سورية وصنيعتها - الحكومة اللبنانية - ومن إيران، لا يمنعنا من القول: لقد قاتل الحزب قوات الاحتلال الصهيوني قتالاً ضارياً، وكان القادة نماذج حية لجنود الحزب، فالأمين العام الأسبق عباس الموسوي، قتل وهو يتفقد المواقع في فبراير 1992، والأمين العام الحالي حسن نصر الله فقد ابنه في إحدى المعارك، وأثبت الحزب أنه من حيث التدريب والإعداد في مستوى المهمة التي انتدب لها. ومما يجدر ذكره أن النجاحات التي حققها من أجل تحرير الجنوب جعلت الناس ينسون أو يتناسون أعماله الإرهابية التي كانت في وقتها حديث العالم كله، ومع تحسين صورته في أعين الناس فقد تحسنت صورة إيران.

حقيقة وحجم هذا الانتصار:

يقول الكاتب اليهودي (آريه ناؤور) [معاريف: 26/5/2000]: "عندما بدأت حرب لبنان سميت [حملة سلامة الجليل] وكان يفترض بالحملة أن تستغرق 48 ساعة، على عمق 40 كيلومتراً، وقال رئيس الوزراء الإسرائيلي مناحيم بيغن لمجموعة من كبار الضباط على مشارف بيروت: أنتم تعرفون جيداً أنني ما كنت سأصادق على حملة تنطوي على عدد كبير من الإصابات تزيد على بضع عشرات من جانبنا، وبعد وقت قصير من ذلك ارتفع عدد ضحايانا إلى 500، فأغلق بيغن على نفسه في بيته ولم يجد ما يواسيه، ولشهامته لم يتهم أحداً، وفي آخر مرة يظهر فيها أمام مركز الليكود قال: إنه يجري في لبنان مأساة، ومنذئذٍ ارتفع عدد ضحايانا ضعفين وأكثر..".

هذه هي مسألة اجتياح إسرائيل للأراضي اللبنانية.. وهذه هي أهداف حملة سلامة الجليل، فبشير الجميل أراد من وراء هذه الحملة إخراج منظمة التحرير وقوات الجيش السوري من لبنان، وبيغن أراد عقد اتفاقية سلام مع لبنان تنهي حالة الحرب. جاء في افتتاحية صحيفة ها آرتس الإسرائيلية في منتصف حزيران: لا تحولوا عملية السلام من أجل الجليل إلى سلام من أجل لبنان.

صُدِمَ بيغن من موقف بشير الجميل بعد انتخابه رئيساً للجمهورية، لقد اعتذر عن عقد اتفاقية سلام مع إسرائيل لأن الوقت غير مناسب، ووعد بالعمل من أجل تـهيئة الأجواء التي تسمح بذلك، وصُدِمَ أكثر من موقف الزعيم الماروني بيار الجميل - والد بشير الجميل - الذي أكد تمسكه بالموقف العربي العام.

تعارضت المصالح الإسرائيلية مع المصالح المارونية، وسقطت نظرية الزعيم اليهودي "بن غوريون" الذي كان ينادي بدولة مارونية في لبنان تتحالف مع إسرائيل ضد الإسلام السني العربي، وبعد أن فقدت إسرائيل أي أمل بالموارنة، فقد راحت تبحث عن مخرج لها من ورطتها منذ عام 1982.

نعود إلى الحديث عن قتلى اليهود الذين بلغوا [500]، كما يقول الكاتب اليهودي [آريه ناؤور] فمن هؤلاء الذين أوقعوا بجيش الغزاة هذا العدد الكبير؟!.

حزب الله لم يكن قد ظهر إلى الوجود عام 1982، وحركة أمل كانت تقف في الطرف المعادي للذين أحسنوا إليها - منظمة التحرير -، فلم يبق إلا أهل السنة من الفلسطينيين واللبنانيين، وما كانت القوات النصيرية بقادرة على منعهم لأنـها قابعة على الحدود السورية اللبنانية.

وإذن: فلقد مضى اليهود عام 1982 يبحثون عن مخرج، ولهذا لم نستغرب أن يعلن باراك عن تعهده بالانسحاب من لبنان فور فوزه بالانتخابات الإسرائيلية، ووعد أن يكون ذلك بعد عام واحد، أما لماذا كان الانسحاب قبل شهرين من الموعد المحدد؛ فالذي أراه أن حافظ الأسد كان يعلق آمالاً عريضة على جبهة حزب الله مع إسرائيل، وإذا طالبت حكومة باراك المسؤولين اللبنانيين بتنفيذ اتفاقية الأمم المتحدة كان الرد السوري واللبناني: الانسحاب من لبنان والجولان صفقة واحدة لا تتجزأ، وبعد تكرار هذا الرد، أرادت حكومة باراك سلب سورية هذه الورقة الوحيدة التي تستخدمها في الضغط على إسرائيل، وجاء اتخاذ هذا القرار بعد فشل مفاوضات واشنطن، وفشل لقاء الأسد مع كلينتون في سويسرا.

فوجئت سورية بقرار الانسحاب، وحاولت استغلال عدم انسحاب إسرائيل من مزرعة "شبعا"، فجاءت التهديدات الإسرائيلية بأنـها ستعتبر سورية مسؤولة عن أي هجوم يشنه حزب الله بعد الانسحاب، وستهاجم البنية العسكرية السورية في لبنان، وأنـها ستضرب الجسور المقامة على طريق دمشق بيروت السريع، ومنشآت سورية رئيسية في بيروت ووادي البقاع [عن رويتر 24/5/2000].

فما كان من الزعيم النصيري الهالك إلا التراجع، ورفع شعاره المعهود [كن أرنباً عند اللزوم]، وسكت الجميع عن مزرعة "شبعا" ويقدر سكان هذه المنطقة بحوالي (70 ألفاً) وهم من أهل السنة.. ثم تغيرت المواقف، وصارت أجهزة إعلام حزب الله وكل من حكومة: لبنان وسورية وإيران، تتغنى بـهذا النصر الكاسح الذي حققه الحزب، وقال نصر الله فيما قاله: إن عصر الهزائم العربية قد انتهى، وعاد السكان إلى قراهم. وتولى حزب الله حفظ الأمن في الجنوب فلم تطلق حتى رصاصة واحدة باتجاه الجليل.

* * *

هذه هي حقيقة هذا الانتصار الذي حققه حزب الله ومن يقف وراءه.. وهذه صفحات موجزة تحكي المأساة التي صنعها الثنائي الإيراني النصيري في لبنان.. وهذه هي مأساة أهل السنة في هذا البلد المنكوب المحتل.

وهناك أمور لم تعط حقها من الدراسة، ويلح الإخوة اللبنانيون في السؤال عنها:

منها: هل يتطلع حزب الله لإقامة دويلة في الجنوب والبقاع؟، وهل مقابلة الأمين العام للأمم المتحدة لحسن نصر الله تدخل في هذا الإطار؟، وهل قيام الحزب بمهمة حفظ الأمن في الجنوب، وتصريح رئيس الدولة بقرار حكومته الذي ينص على عدم إرسال قوات الجيش لحفظ حدود لبنان وسيادته.. هل هذا وغيره اعتراف بدور جديد للحزب؟!.

ومنها: لماذا الضغط الشديد على جماعات ودعاة أهل السنة: إن مجرد طباعة كتاب أو تداوله يعتبر جريمة لأن في ذلك إثارة نعرات طائفية، لكن الشيء نفسه لا يعتبر جريمة، ولا يعاقب فاعله، ولا يحال إلى محكمة إن كان شيعياً.

ومنها: مَنْ وراء جماعة الأحباش، ولماذا ازدهرت هذه الجماعة في ظل الاحتلال السوري للبنان مع أن أهل السنة كلهم متفقون على دور هذه الجماعة التخريبي الهدام؟.

أرجو من الله تعالى أن يسهل لي الأسباب للإجابة عن هذه الأسئلة، وليعذرني الإخوة السائلون إن تأخرت ]لا يكلف الله نفساً إلا وسعها[ .

المصدر: مجلة السنة - العدد 98

-----------------------------------------------------------

[1] - وقد صدق في قوله هذا.

[2] – لينظر المتعالمون من أبناء قومنا إلى قول هذا السفير: "وإلا فكيف يمكن تفسير قيام الجزائر بدفع خمسين مليون دولار لمنظمة أمل؟ ما هي علاقة الجزائر بلد سني في شمال أفريقيا يقوم بدعم الشيعة في لبنان؟". إنه تفكير طائفي متزمت يجري في دماء الشيعة، وكل موقف يقفونه لابد وأن ينطلقوا فيه من هذا المنطلق. أسأل الله تعالى أن يشرح صدور أبناء قومنا للحق، وأن يهدهم سواء السبيل.

[3] - عن مجلة "جون أفريك" الفرنسية، العدد الصادر في منتصف فبراير 1984.

[4] - الحروب السرية، مصدر سابق، ومجلة المجلة، العدد: 1013، تاريخ 11 - 17/7/1999.

[5] - انظر كتاب السراب، مركز الوحدة الإسلامية للدراسات والتوثيق، ص: 157، وجريدة النهار: 30/10/1983.

[6] - الحروب السرية، مصدر سابق، ص: 275.

 



مقالات ذات صلة