عيد الفطر وحصاد الخيرات .. عبر وعظات
أيمن الشعبان
الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات ، وصلى الله وسلم وبارك على المبعوث رحمة للبريات ، وعلى آله وصحبه ومن اقتفى أثرهم إلى يوم المعاد ، وبعد:
انقضت أيام وساعات شهر فضيل كريم ، تجلت فيه الرحمات والبركات ، وسائر الطاعات والخيرات ، إذ جمع في ثناياه أركان الإسلام جميعا ، ففيه الصيام المفروض وهو ركن ، وفيه أعظم هذه الأركان وهو توحيد رب العالمين ( لا إله إلا الله محمد رسول الله ) وهذا المعنى يتجلى عندما يستجيب العبد لربه وخالقه بما أمره به وينقاد ويستسلم ويذعن وينصاع لما فرض الله عليه ، إذ من المعتاد أن يكون للمسلم نظام خاص في سائر الشهور من حيث الأكل والشرب والبرنامج اليومي للحياة، إلا أن الله عز وجل قد أراد منا شيئا آخر وحياة مختلفة مليئة بالطاعات والعبادات في هذه الأيام وتمام الانقياد والتسليم لذلك هو تحقيق كمال العبودية لله عز وجل ، وتطبيق هذه الأوامر وفق ما أراد النبي عليه الصلاة والسلام معلم الناس الخير ، هو تمام إفراد النبي عليه الصلاة والسلام بالإتباع .
وهذا الشهر من أكثر الشهور تؤدى فيه الصلوات المفروضات بوقتها بالإضافة لأفضل صلاة بعد المكتوبة وهي قيام الليل ، وقد اعتاد أيضا العديد من الناس إخراج زكاة أموالهم في هذا الشهر العظيم ، وبقي ركن خامس وهو الحج أيضا قد تجلت معانيه في هذا الشهر من خلال الأجر العظيم والفضل الكبير لأداء العمرة فيه فإنها تعدل حجة مع النبي عليه الصلاة والسلام ومن يشاهد الجمع العظيم في بلد الله الحرام في هذا الشهر يتبين له ذلك، فكم يتمنى المسلم أن يحج مع ملك من الملوك أو حتى أمير بل إن شئت فقل وزير أو مسؤول ما ويفرح بذلك ويفتخر ويقول قد حججت مع فلان ، فما بالكم بحجة مع النبي عليه الصلاة والسلام ألا تستحق التمسك بها والعمل طوال العام من أجلها والثبات والمحافظة عليها ، فهل عرفتم هذا الشهر الجامع لأركان الإسلام ، والذي هو في الحقيقة موسم من مواسم الخيرات ، وسوق كما وصفه أحد السلف قائلا: رمضان سوق أقيم ثم انفض ربح فيه من ربح وخسر فيه من خسر فيا ترى هل نحن من الرابحين أو الخاسرين عياذا بالله؟ ، نسأل الله القبول والثبات والفوز بالجنة والعتق من النيران .
من معاني العيد لبس الجديد وإدخال الفرح والبهجة والسرور لعامة المسلمين والتوسع في الطعام والشراب المباح، وصلة الرحم وبر الوالدين والتزاور والألفة والمحبة في الله وتعميق أواصر الأخوة الإسلامية وغيرها من المعاني ، مع أن في هذا اليوم هو الجائزة الكبرى والفضل العظيم من الله عز وجل على عباده بأن يعتق رقاب المسلمين المقبولين من النار ، ووالله ما بعد هذه من جائزة.
وهنالك أحكام وسنن وأمور تتعلق بصلاة العيد وليلة العيد وأشياء اعتاد عليها الناس ، من التزاور واللقاءات وصلة الأرحام وغيرها فهل يا ترى جميع المسلمين يمارسون ويقومون بكل تلك الأمور على حد سواء أم أن هنالك شعوب وفئات وأقليات لا تحس بطعم العيد نتيجة المآسي التي مروا ويمرون بها ؟!!.
فمن اشترى ملابسا جديدة ولبسها صبيحة يوم العيد فليتذكر بأن أعداد غير قليلة من المسلمين غير قادرين على شراء لباس جديد ، ومن استطاع منهم الشراء لا يحس بتلك البهجة نتيجة ما هم فيه من محن والمثال الشاخص القائم الآن هم "فلسطينيي العراق" فمنذ ست سنوات اختلف لون العيد عندنا وطعمه ونكهته ، وما ذلك إلا بسبب ما تعرضنا له من اضطهاد وتطهير عرقي وعنصري وتهجير وقتل واختطاف من قبل ميليشيات صفوية معروفة ، والنتيجة تهجير أكثر من ثلثي الفلسطينيين في العراق إلى أكثر من ثلاثين دولة معظمها أجنبية ، فلا حول ولا قوة إلا بالله .
وكم من صلة رحم تتحقق في هذا اليوم وزيارات الأقارب فهلا تذكرنا أننا الآن تفرقنا وأصبحنا شذر مذر وحرمنا من هذا الخير فذاك في قبرص وشقيقه في الصحراء وشقيقتهم في السويد وآخر في الهند وقريبه في تشيلي وثالث في البرازيل وقريبه في أميركا ورابع في سوريا ينتظر الهجرة وقريبه في النرويج ودواليك.
ألا تتذكر يا من فرشت المائدة صبيحة هذا اليوم وفيها ما لذ وطاب من الطعام والشراب أن الكثير من فلسطينيي العراق افترشوا التراب والبعض الآخر لا يجد ما يسد الرمق ، وأنت يا من قبلت ولدك وابنتك ألا تعلم بأن العديد من اليتامى الذين لا يجدون من يقبل رأسهم ويواسي لوعتهم ويعوض حرمانهم من عطف وحنان الأب .
وكم من أرملة فلسطينية فقدت زوجها في العراق الجريح على يد الميليشيات فمن يعوض لها حنان الزوج لا سيما في هذا اليوم ، ألا تذكرنا ونحن نبتهج ونفرح في هذا اليوم كل هذه المعاني ، مع أن السنة في هذا اليوم إظهار الفرح والسرور والبهجة والتوسع في الطعام والشراب مع التأكيد على المحافظة على الصلوات المفروضات وذكر الله عز وجل وعدم الفتور والانقطاع في ذلك.
لا نبالغ إذا قلنا أن الفرحة انطفأت عندما نتأمل بحالنا وما وصلنا إليه والعديد من العرب والمسلمين يتفرجون أو يلتزمون الصمت ، ومن أحس منهم استهجن ما حصل وتكلم متعاطفا مع هذه القضية بلا عمل، إلا أن عزائنا ومواساتنا في هذا أن ما جرى هو بقدر الله عز وجل وعلينا الرضى بخيره وشره، وإذا أحب الله قوما ابتلاهم فمن رضي فله الرضى ومن سخط فعليه السخط، وأن الليل مهما طال لابد من طلوع الفجر، والدنيا دار ممر وهي معبر للآخرة ، وسوف تنقضي الأيام والآجال فمن عمل فيها خيرا فليحمد الله ومن عمل غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه.
إن أسمى معنى من معاني العيد هو شكر الله عز وجل على أن يسر لنا طاعته من الصيام والقيام والنفقات والصدقات كما قال تعالى ( لتكبروا الله على ما هداكم وبشر المحسنين ) والشكر لا يكون فقط باللسان بل بالجوارح والقلب واللسان كما قال تعالى ( اعملوا آل داوود شكرا وقليل من عبادي الشكور ) والحال أننا في فرقة وشتات لابد أن نتذكر نوع من أنواع الشكر الذي قد يغفل عنه الكثير من الناس، إذ طالما أنقذنا الله عز وجل من موت محقق أو اختطاف مع ما تعرضنا له من لئواء وعناء ، لكن ألا يستحق الله سبحانه وتعالى أن نشكره بجميع جوارحنا من خلال امتثال أوامره وطاعته وترك نواهيه وعدم الوقوع في المحرمات لا سيما وقد ينعم أكثرنا بالاستقرار في دول المهجر الجديد كأوربا وغيرها ، لكن للأسف نجد البعض قد انقلبت لديه الموازين والمفاهيم فبدلا من شكر نعمة الأمان والاستقرار تظهر بوادر كفر النعمة والتجرؤ على محارم الله لاسيما في دول الانفتاح والحرية ومظاهر الفساد والانحطاط.
ينبغي على من انتقل من الخوف إلى الأمان ومن القتل إلى العيش الرغيد ومن الاستهداف المباشر إلى الرفاهية ولو نسبيا أن يتذكر بأن الأمر كله لله أولا وآخرا وأن لا يطغى إذا فتحت عليه الدنيا ، بل كما قيل بالشكر تدوم النعم وربنا يقول سبحانه ( لئن شكرتم لأزيدنكم ولئن كفرتم إن عذابي لشديد ) ولا تغرنكم زينة الحياة الدنيا وبهجتها والحياة الجديدة المليئة بالفتن والاستدراج، لأن ما عند الله خير وأبقى، هذه معاني لابد من استذكارها في كل وقت لا سيما هذه الأيام ( وذكر فإن الذكرى تنفع المؤمنين ) .
نسأل الله تعالى أن يثبتنا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة ، وأن يسدد خطانا وأن نكون من الشاكرين لنعم الله المثنين عليه بها ، وندعو الباري عز وجل أن يحفظنا وذرياتنا وذوينا من مضلات الفتن ما ظهر منها وما بطن ، ونسأله تعالى أن يتقبل منا ومنكم صالح الأعمال وأن يعيد علينا العيد بتحرير الأقصى من براثن اليهود الغاصبين ، وأن نسترد قرانا بإذن الله، وما ذلك على الله بعزيز.