علي عثمان جرادي
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين، وبعد:
فقد أصبح أهل السنة عامة وأتباع أبي حنيفة خاصة يعانون من آلام في آذانهم من كثرة الصراخ بهذه العبارة الشهيرة: " لولا السنتان لهلك النعمان" يريدون بذلك أن يثبتوا أن أبا حنيفة كان تلميذاً لسيدنا جعفر الصادق رحمه الله تعالى، ويريدون من ورائها أن يقولوا أن علم أهل السنة مأخوذ عن جعفر الصادق رحمه الله تعالى وحده وكذا سائر العلوم، حتى أصبح البعض يدرج هذه العبارة بمؤلفاته ومقالاته وأبحاثه دون أن يتتبع المنهج العلمي. وقد اغتر بعض أهل السنة بهذه العبارة فأدرجها في كلامه وكتاباته.
وبعد أن أصبنا بالصداع المستمر بسبب هذه العبارة التي اتخذها البعض قرآن يتلى، أو سنة ثابتة، أو إجماعاً لا يجوز مخالفته، رأيت أن أصدح بصوت مرتفع جدًا لأقول: إن هذه العبارة كذب وافتراء على أبي حنيفة خاصة وأهل السنة عامة.
فإن قلت لي: إن كنت مدعياً فالدليل، أو ناقلاً فالصحة، فسأبين لك إن شاء الله.
مما لا يحتاج إلى تأكيد أننا - أهل السنة - نجلّ الإمام جعفرًا ونبجله ونعرف له فضله وحرمته كعالم من علماء المسلمين وكإمام من آل بيت نبينا محمد صلى لكن لا نقول أن كل علوم الإسلام من قرآن وحديث وفقه مردها إلى جعفر فهذا من الغلو المذموم.
ثم لو سلمنا جدلا أن المذاهب الأربعة مأخوذة عن جعفر الصادق، فهذا في الحقيقة حجة على الخصم لا له لأن ما رواه الأئمة الأربعة حينئذ من فقه جعفر الصادق مباين لما ينسبه الخصم إليه. والأئمة الأربعة عند أهل السنة بلا شك أوثق وأجلّ من الخصم الذين يروي عن جعفر. وعليه فلو أراد السنيّ أن يكون جعفريّ الفقه، فما عليه إلا أن يتبع أحد المذاهب السنية الأربعة لأنها مأخوذة عن جعفر الصادق!
وإليكم ترجمة مختصرة لسيدنا جعفر الصادق أنقلها من كتاب الاعلام للزركلي: " جعفر (80 - 148 هـ ـ 699 - 765 م): جعفر بن محمد الباقر بن علي زين العابدين بن الحسين السبط، الهاشمي القرشي، أبو عبد الله، الملقب بالصادق: سادس الائمة الاثني عشر عند الإمامية.كان من أجلاء التابعين. وله منزلة رفيعة في العلم.
أخذ عنه جماعة، منهم الامامان أبو حنيفة ومالك. ولقب بالصادق لانه لم يعرف عنه الكذب قط. له أخبار مع الخلفاء من بني العباس وكان جريئاً عليهم صدّاعاً بالحق. له (رسائل) مجموعة في كتاب، ورد ذكرها في كشف الظنون، يقال إن جابر بن حيان قام بجمعها. مولده ووفاته بالمدينة".
(الزركلي الدمشقي، خير الدِّين بن محمود بن محمد علي بن فارس، ت1396هـ، بيروت، دار العلم للملايين، ط15، أيار مايو 2002 م, ج2, ص126 )
قلت: ادعى بعضهم أن جعفرًا كان شيخًا لأبي حنيفة، حتى نقلوا عن أبي حنيفة أنه قال: " لولا السنتان لهلك النعمان "
وفي لفظ آخر:" لولا العامان لهلك النعمان".
وممن أورد هذا الكلام الانطاكي في كتابه لماذا اخترت مذهب الشيعة. (محمد مرعي الأنطاكي، حلب، مؤسسة الفداء، ط3، ص2، وممن عدّ أبا حنيفة من تلاميذ جعفر محمد التيجاني السماوي. ( التيجاني، محمد السماوي، ثم اهتديت، دار الفجر، ص54).
وقد عدّ بعض أهل السنة سيدنا جعفرًا من جملة شيوخه منهم:
1 ـ " لكن منهم المتفقهُ عليه والراوي عنه والمجالسُ له وهم: مالك وأبوحنيفة خصوصاً". (علي الشبل، الموجز الفارق من معالم ترجمة الإمام جعفر الصادق، د ط، ص5).
2 ـ أحمد الشرباصي فقد ذكر أن من جملة شيوخ أبي حنيفة الصادق كما في كتابه (الأئمة الأربعة ص 22).
3 ـ "أخذ عنه جماعة، منهم الامامان أبو حنيفة ومالك". (الزركلي, الأعلام، ج2, ص126).
وبعد هذا نقول: هل ثبت أن جعفرًا رحمه الله تعالى كان شيخًا لأبي حنيفة رحمه الله تعالى أم كان معاصرًا له ومن أقرانه؟
لابد من دليل يثبت صحة النقل ولا بد من التثبت لجعل أبي حنيفة من تلاميذ جعفر.
وهذه الفرية افتراها عليه بعض الجهلة من الروافض.
قال التيجاني: "سألني ـ كلام التيجاني ـ أحدهم: ما هوالمذهب المتبع في تونس؟ قلت: المذهب المالكي، ولاحظت بعضهم يضحك، فلم أهتمّ لذلك، قال: ألا تعرفون المذهب الجعفري؟ فقلت: خير إن شاء الله، ما هذا الاسم الجديد؟ لا، نحن لا نعرف غير المذاهب الأربعة وما عداها فليس من الإسلام في شيء، وابتسم قائلاً: عفواً، أن المذهب الجعفري هو محض الإسلام، ألم تعرف بأنّ الإمام أبا حنيفة تتلمذ على يد الإمام جعفر الصادق؟ وفي ذلك يقول أبو حنيفة: (لولا السنتان لهلك النعمان) سكتُّ ولم أبد جواباً، ... وأبو حنيفة أخذ عن جعفر الصادق وعلى هذا فكلهم ـ الأئمة الأربعة ـ تلاميذ لجعفر بن محمد، وهو أول من فتح جامعة إسلامية في مسجد جدّه رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد تتلمذ على يديه أكثر من أربعة آلاف محدّث وفقيه". (التيجاني السماوي، ثم اهتديت، ص 54، بتصرف).
ونجيب على هذا الادعاء فنقول:
"1 ـ الادعاء بأن أبا حنيفة تتلمذ على يد جعفر الصادق كذب يعرفه كل من قرأ شيئاً عن حياة أبي حنيفة، والمعلوم المشهور أنه تتلمذ على يد ثلة من كبار العلماء في عصره ومن أبرزهم إسماعيل بن حماد أبي سليمان الكوفي وهو من أخص شيوخ أبي حنيفة إضافة إلى إبراهيم بن محمد المنتشر وإبراهيم بن زيد النخعي وأيوب السختياني والحارث الهمذاني وربيعة المدني وسالم بن عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنه وسعيد بن مسروق ... وغيرهم كثير.
2 ـ وعلى فرض أن أبا حنيفة درس على يد جعفر الصادق فلا يعدو ذلك أن يكون أبو حنيفة واحداً ممن أخذ العلم عنهم، فلا يعني هذا أن أبا حنيفة صار جعفري المذهب وأنا أقول ذلك افتراضاً وإلا فالثابت أنه كان يفتي في زمان أبي جعفر والد جعفر الصادق! أما قوله: بأن المذاهب الأربعة تتبع المذهب الجعفري فكلام ساقط، فأحمد لم يقرأ على الشافعي بل جالسه، والشافعي قرأ على مالك الموطأ ولا يوجد فيه لجعفر إلا تسعة أحاديث فقط! ولم يقل أحد أن مالكاً كان من تلاميذ أبي حنيفة بل عدّوه من أقرانه.
3 ـ الرافضة أنفسهم يرون في أوثق كتبهم ما يفيد أن أبا حنيفة لم يكن يوماً من تلاميذ أبي جعفر فضلاً عن جعفر الصادق بل من أعدائهم! فهذا كبيرهم الكليني يروي في أوثق كتبهم والذي يضاهي البخاري عندنا وهو أصول الكافي:" عن سدير قال: سمعت أبا جعفر عليه السلام وهو وأنا خارج وأخذ بيدي ثم استقبل البيت فقال: يا سدير إنما أمر الناس أنْ يأتوا هذه الأحجار فيطوفوا بها ثم يأتونا فيعلمونا ولايتهم لنا وهو قول الله: " وإني لغفّار لمن تاب وآمن وعمِلَ صالحاً ثم اهتدى " ثم أومأ بيده إلى صدره: إلى ولايتنا، ثم قال يا سدير فأريك الصادين عن دين الله، ثم نظر إلى أبي حنيفة وسفيان الثوري في ذلك الزمان وهم حِلَقٌ في المسجد، فقال: هؤلاء الصادّون عن دين الله بلا هدًى من الله ولا كتاب مبين، إنّ هؤلاء الأخباث لو جلسوا في بيوتهم فجال الناس فلم يجدوا أحداً يخبرهم عن الله تبارك وتعالى وعن رسوله حتى يأتونا فنخبرهم عن الله تبارك وتعالى وعن رسوله". (خالد العسقلاني، بل ضللت، مصر، دار الأمل القاهرة، ط2، 1420هـ ـ 1999م، ص459 وما بعدها).
4 ـ "وهذا مما يبيّن أن هذه الحكاية كذب فإن أبا حنيفة إنما اجتمع بجعفر بن محمد وأما موسى بن جعفر فلم يكن ممن سأله أبو حنيفة ولا اجتمع به وجعفر بن محمد هو من أقران أبي حنيفة ولم يكن أبو حنيفة ممن يأخذ عنه مع شهرته بالعلم فكيف يتعلم من موسى بن جعفر". (ابن تيمية، أحمد بن عبد الحليم بن، تقي الدين أبو العباس النميري العامري، منهاج السنة النبوية، تحقيق محمد رشاد سالم، مؤسسة قرطبة، ط1، 1406هـ، ج 3، ص140 ).
"قال الرافضي وفي الفقه الفقهاء يرجعون إليه والجواب أن هذا كذب بيّن فليس في الأئمة الأربعة ولا غيرهم من أئمة الفقهاء من يرجع إليه في فقهه أما مالك فان علمه عن أهل المدينة وأهل المدينة لا يكادون يأخذون بقول علي بل أخذوا فقههم عن الفقهاء السبعة عن زيد وعمر وابن عمر ونحوهم". (ابن تيمية، منهاج السنة، ج7، ص529).
"وأما أبو حنيفة فشيخه الذي اختص به حماد بن أبي سليمان وحماد عن إبراهيم و إبراهيم عن علقمة وعلقمة عن ابن مسعود وقد أخذ أبو حنيفة عن عطاء وغيره". (ابن تيمية، منهاج السنة، ج7، ص530).
"قال الرافضي وأما أبو حنيفة فقرأ على الصادق". (ابن تيمية، منهاج السنة، ج7، ص530).
"والجواب أن هذا من الكذب الذي يعرفه من له أدنى علم فإن أبا حنيفة من أقران جعفر الصادق توفي الصادق سنة ثمان وأربعين وتوفي أبو حنيفة سنة خمسين ومائة وكان أبو حنيفة يفتي في حياة أبي جعفر والد الصادق وما يعرف أن أبا حنيفة أخذ عن جعفر الصادق ولا عن أبيه مسألة واحدة بل أخذ عمن كان أسن منهما كعطاء بن أبي رباح وشيخه الأصلي حماد بن أبي سليمان وجعفر بن محمد كان بالمدينة"اهـ. (ابن تيمية، منهاج السنة، ج7، ص532).
5 ـ "فأبو حنيفة ليس من تلاميذ جعفر ولا مالك من تلاميذ أبي حنيفة. وقد أخذ التيجاني هذا الكلام من كتب الشيعة " اهـ. (عثمان الخميس، كشف الجاني محمد التيجاني، د ط، ص61).
6 ـ "والحق أنه لا شيء يصح من هذا فأبو حنيفة ما كان في يوم من الأيام من تلاميذ جعفر" اهـ. (أبو الشباب، أحمد، الرد البياني، ط1، 1425هـ2005م، ص621).
"أما أصحاب المذاهب الفقهية الأربعة المعروفة، أبو حنيفة ومالك والشافعي وأحمد، فليس بينهم وبين جعفر الصادق أي شبهة للتلمذة عند من يعرف معناها الشامل العميق ويحسه، مهما نقل بعضهم عنه من مرويات أو معلومات شرعية، لأن التلمذة شيء غير أخذ المعلومات وإن اشتبه الأمر"اهـ. (أحمد أبو الشباب، الرد البياني، ص622).
والذي يظهر أن أبا حنيفة التقى بجعفر رحمه الله تعالى, ودليل ذلك:
"حدثنا ابن شبرمة قال دخلت أنا وأبو حنيفة على جعفر بن محمد فسلمت عليه وكنت له صديقاً ثم أقبلت على جعفر فقلت أمتع الله بك هذا رجل من أهل العراق له فقه وعقل فقال جعفر لعله الذي يقيس الدين برأيه ثم أقبل علي فقال: النعمان بن ثابت؟!
فقال: أبو حنيفة نعم أصلحك الله.
فقال: اتق الله ولا تقس الدين برأيك فإن أول من قاس إبليس إذ أمره الله بالسجود لآدم فقال: " أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين " (الأعراف 153) ثم قال له جعفر: هل تحسن أن تقيس رأسك من جسدك؟
فقال: لا.
قال: فأخبرني عن الملوحة في العينين وعن المرارة في الأذنين وعن الماء في المنخرين وعن العذوبة في الشفتين لأي شيء جعل ذلك؟
قال: لا أدري.
قال جعفر: الله عز وجل خلق العينين فجعلهما شحمتين وجعل الملوحة فيها ضنا منه على ابن آدم ولولا ذلك لذابتا فذهبتا وجعل المرارة في الأذنين ضنا منه عليه ولولا ذلك لهجمت الدواب فأكلت دماغه وجعل الماء في المنخرين ليصعد للتنفس وينزل ويجد منه الريح الطيبة من الريح الردية وجعل العذوبة في الشفتين ليجد ابن آدم طعم لذة مطعمه ومشربه ثم قال له جعفر: أخبرني عن كلمة أولها شرك وآخرها إيمان.
قال: لا أدري.
قال: لا إله إلا الله ثم قال له: أيهما أعظم عند الله قتل النفس أو الزنا؟
قال: لا قتل النفس.
قال له جعفر: إن الله عز وجل قد رضي في قتل النفس بشاهدين ولم يقبل في الزنا إلا بأربعة ثم قال: أيما أعظم عند الله الصوم أم الصلاة؟
قال: لا بل الصلاة.
قال: فما بال المرأة إذا حاضت تقضى الصيام ولا تقضى الصلاة اتق الله يا عبد الله إنا نقف نحن وأنت غدًا ومن خالفنا بين يدي الله جل وعز فنقول قال رسول الله عليه السلام ويقول أنت وأصحابك قال: سمعنا ورأينا ففعل بنا وبكم ما يشاء".
(ابن حبان، أَبُوبَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ خَلَفِ، أخبار القضاة، بيروت، عالم الكتب، ج2، ص 77).
و"حدثنا علي بن حرب الموصلي قال: حدثنا ابن فضيل قال: حدثنا أبي قال: كان ابن شبرمة والحارث العكلي والقعقاع بن يزيد والمغيرة والضبي يسمرون في الفقه حتى تنار الغداة وزادني جعفر بن محمد عن محمد بن الصباح عن هشيم قال: فمر بهم أبو المغيرة فيقول بهذه الساعة ما يكفيكم ما يكون منكم بالنهار حتى تذكروه هذه الساعة حدثني على ابن حرب قال: حدثنا ابن فضيل قال: سمعت ابن شبرمة يقول: اجتمعت أنا والحارث العكلي على مسألة لم يبال من خالفنا" (ابن حبان، أخبار القضاة، بيروت، عالم الكتب، ج3ص 77 وما بعدها).
ونستخلص مما مرّ معنا:
1 ـ أن أبا حنيفة رحمه الله تعالى كان معاصرًا للإمام جعفر رحمه الله تعالى.
2 ـ أن الإمام أبا حنيفة رحمه الله تعالى التقى به.
3 ـ أن الإمام أبا حنيفة رحمه الله تعالى روى عنه بعض الروايات.
4 ـ إن مجرد الرواية لا يعني ذلك أنه تتلمذ عليه، فقد روى الصحابة بعضهم عن بعض ولم ينقل إلينا أن كل راوٍ أصبح يعد من تلاميذ المروي عنه، فالرواية شيء والتتلمذ شيء آخر.
5 ـ أن أبا حنيفة لم يكن في يوم من الأيام تلميذًا للإمام جعفر رحمه الله تعالى. ولو سلمنا جدلاً أنه كان من تلاميذه فعلى الروافض أن يكون على مذهب أبي حنيفة لأن مذهبه مذهب أهل البيت الطاهرين.
6 ـ وأخيرًا: يتبين لنا كذب هذه الرواية المزعومة والمروية عن إمامنا أبي حنيفة رحمه الله تعالى: "لولا السنتان لهلك النعمان".
المصدر : بوابة صيدا