لماذا الضغط على السُنّة في لبنان؟
رضوان السيد
الشرق الأوسط / تَميَّزتَ الأيام الماضية في لبنان بأمرين: تعقُّد مسألة تشكيل الحكومة التي جرى الاتّفاقُ عليها في الدوحة. وازدياد وامتداد مساحات الاشتباكات المسلَّحة بعد بيروت والبقاع إلى طرابلس بشمال لبنان.
في الأمر الأول، برز الجنرال عون وتياره الوطني الحُرّ باعتباره المُنازع الأول لرئيس الجمهورية الجديد، ولرئيس الحكومة في الوقتِ نفسِه. فهو يُطالبُ بخمس وزارات بينها وزارة سيادية له، غير الوزارة السيادية التي أخذتْها المعارضة التي ينتمي إليها (وزارة الخارجية التي يريدها الرئيس نبيه بري). ولأنّ الباقي من الوزارات السيادية بعد الخارجية ثلاث، وهي المالية والدفاع والداخلية، ورئيس الجمهورية والحكومة متفقان على أن يأخذ رئيس الجمهورية وزارتين هما الداخلية والدفاع، بسبب الظروف الاستثنائية التي يمرُّ بها لبنان؛ فلا تبقى للطائفة السنية غير وزارة المالية، والتي لا يمكن انتزاعُها منها. وهكذا فإنّ عوناً إنما يريد في الحقيقة مصارعة رئيس الجمهورية الجديد وتعطيله منذ البداية، باعتباره هو وليس الرئيس، «الممثّل الشرعي الوحيد» للمسيحيين اللبنانيين! وقد قلّب الرئيس السنيورة الأمر على كافة وجوهه، وقبل بإعطاء المالية للمعارضة وأخْذ الخارجية للسنة. كما حاول إرضاء الجنرال عون بزيادة عدد وزارات الخدمات التي عرضها عليه. لكنه في كل مرةٍ كان يعود خائباً، ويعود الجنرال عون للغمز من قناة الجميع. وقد اضطر ذلك الرئيس السنيورة قبل أربعة أيام، للتصريح لصحيفةٍ نمساوية؛ بأنّ الجنرال عون يريد أن يكونَ زعيم المسيحيين الأَوحد، كما أنّ حزب الله متمسِّكٌ به لأنّ ذلك يوسّع دائرة تمثيله. وردَّ عون بتهديد السنيورة بالتفحيم (أي الصَعْق بالمسّ الكهربائي عند التعرض لخطوط التوتر العالي!)، كما ردَّ حزبُ الله باتهام السنيورة بالكذب والتزوير (هكذا!).
بيد أنّ الأمر الثاني هو الأبرز، أي امتداد الاشتباكات إلى طرابلس، وعودة خطوط التماسّ القديمة بين جبل مُحْسن (الذي تسكنه أقليةٌ عَلَويةٌ تصرفت دائماً بأوامر من النظام السوري على مدى الثلاثين عاماً الماضية)، وباب التبّانة وحيّ البقّار، وهما حيّان سنّيان، كانا أيضاً بيئة اشتباك خلال الحرب الأهلية. والمعروف أنّ السوريين غزوا طرابلس مرتين في الثمانينات: مرَّة لإخراج ياسر عرفات منها، ومرةً أُخرى لإزالة سيطرة «حركة التوحيد» عنها. وفي كلتا المرتين كان هجوم «الأحزاب التقدمية» على المدينة يأتي من جبل مُحْسن أو جبل بعل مُحْسن! وخلال الأيام الثلاثة التي سبقت اشتباكات طرابُلُس كان بارزاً إقبال نواف الموسوي (القيادي في حزب الله)، والجنرال عون وإيلي سكاف (النائب عن مدينة زحلة) على الهجوم على السلفية والتشدُّد، واتّهام السلفيين وتيار المستقبل بأنهم يجمعون السلاح، ويريدون الاعتداء على الآخَرين من الشيعة والمسيحيين. وقد تعمّد نواف الموسوي أن يتهم السعودية بذلك كلِّه، وأن يهدّد سفيرها بالقتل هذه المرة!
ما معنى هذا كلّه؟ ولماذا عاد التوتُّر الأمني بعد هدوءٍ نسْبيٍ استمرَّ أُسبوعين؟ من جانب حزب الله يبدو التوتر والاستنفار شديداً وشديداً جداً. وأوساطُهُ تقول تارةً إنَّ العدوَّ الصهيوني يخطّط لمهاجمته، بينما تقول تارةً أُخرى إنّ المؤامرة من جانب «عملاء الداخل» عليه ما تزال مستمرة، رغم اجتياحه لبيروت من أجل إحباطِها! ولا شكّ أنه في الحالتين؛ فإنّ الحزب يفضّل أن لا تقومَ الآن حكومة هو مضطرٌ للمشاركة فيها، خشية أن يُطلبَ منه شيء إقليمي فلا يكونُ الأمرُ سهلاً إن كانت هناك حكومةٌ قائمةٌ وهو حاضرٌ فيها، ومُلْزَمٌ بالإصْغاء إلى آراء الآخرين وتحفُّظاتهم. وهو ليس مضطراً للتصريح بالرفض، ما دام حليفه الجنرال عون متكفلاً بأن لا يُمكِّنَ رئيسي الجمهورية والحكومة من إرضائه مهما بَذَلا من تنازُلاتٍ وقدَّما من عروض.
بعد عملية حزب الله في بيروت، واستمرار الاشتباكات بالبقاع الأَوسط، يبدو الهجومُ على السلفية والتشدُّد سخيفاً وممجوجاً. فحزب الله والتنظيمات التابعة له والمتحالفة معه هي التي بادرت وتُبادر للاشتباك في بيروت والبقاع. ومظاهر التسلُّح والتحدي ظاهرة حتى في الجهات الشيعية البحتة، بحجة الإحساس بالخطر. ولذا فبالإضافة إلى تبرير الاعتداءات، تارةً باسم المؤامرة، وتارةً باسم السلفية؛ هم يريدون أن تبقى الطائفة الشيعيةُ على استنفارها. وهم يعتقدون ومعهم الجنرال عون أنهم ببُعْبُع السلفية يخوّفون المسيحيين من الخَطَر السَلَفي الأُصولي، بعد أن بدأوا يخافون من سلاح حزب الله المنتشر في جوارهم وفي أَوساطهم. ومع ذلك فإنّ هجوم نواف الموسوي الصريح على السعودية، لا بد أن تكونَ له أسبابٌ إقليميةٌ تتصل بالموقف الإيراني الآن في مواجهة المجتمع الدولي، وإرادة التأثير على المملكة باعتبار أنّ السُنّة هم الوجهُ العربيُّ للبنان، والسعوديةُ ومصر تهتمّان لأمْرهم والطريف أنني قرأْتُ في الأيام الماضية تصريحات منسوبة لعبد الملك الحوثي، زعيم تمرد الحُوثيين باليمن، يوجّه فيها الاتّهام نفسَه للسعودية؛ لكنه هناك يتهمها بمساعدة الجيش اليمني ضد الثائرين! ثم إنه لم يبق بلبنان حاضنٌ لفكرة الدولة، والعيش المشترك، والانفتاح على الخارج، غير المدنيين السُنّة. فقد أَبعد حزب الله الطائفة الشيعية عن مجالات التأثير الإيجابية تلك، ووضعها تحت السلاح، ولا أحد يدري أو يستطيع السؤال: متى ينتهي هذا النفير العام؟ وأضاف إلى فضائله الكثيرة تدمير علائق الشيعة بالسنة، وهي وشائجُ عُمُرُها عشراتُ العقود من الصِلات الواعية والبناّءة. ويحول الجنرال عون المستظلُّ بحزب الله الآن، بل ومنذ سنتين، دون عودة المسيحية السياسية إلى الفعالية والمشاركة، كما سبق أنْ حال أواخر الثمانينات من القرن الماضي؛ والطريف أنّ ذلك يتمُّ بدعوى انتزاع حقوق المسيحيين كاملةً من مضطهِديهم، وقد صاروا الآن من السُنّة وبخاصةٍ السنيورة والسلفيون!
لكنْ لنلتفت إلى المشهد الآخَر، مشهد جبل محسن مع باب التبانة وطرابلس. فقد سكن الجبلُ هذا وسكت (فيه ألفا مسلَّح مدرَّب عندهم سلاحٌ ثقيل) منذ العام 1989/1990. لكنه بدأَ قصفاً مدفعياً على طرابلس ليلَ الأحد الماضي. ولا أعتقد أنّ لذلك علاقةً بضغوط حزب الله ومسلَّحيه على السُنّة في بيروت والبقاع. بل إنّ مسلَّحي جبل محسن هم شبه جنودٍ نظاميين بالأجهزة الأمنية السورية. فربما أراد الرئيس السوري تذكير السعوديين والمصريين بأنهم لا يستطيعون الاستمرار في تجاهُلِه بعد أن سهَّل الأمور في لبنان وفلسطين، وأبدى كامل الاستعداد لتلبية المطالب (المعقولة) من جانب العرب الكبار! وطرابلس ليست سنيةً فقط مثل بيروت؛ بل فيها أيضاً شيوخٌ وشبانٌ سلفيون. ولذا فإنّ التعرُّضَ لها من جانب مجموعاتٍ مواليةٍ لسورية، تبعثُ رسالةً أوضح وأكثر مباشرة إلى السعودية!
لكنْ، لماذا هذا التأكُّد أنّ السوريين يتصرفون في طرابلس، بمعزل عن تصرف حزب الله ببيروت والبقاع، حتّى عندما تكونُ كلتا الرسالتين موجَّهتان للسعودية؟ لا شكَّ أن العلاقات بين إيران وسورية فيها بعضُ الركود. بيد أنّ تغييراً ظاهراً ما حصل حتى الآن. أمّا العلاقاتُ بين حزب الله والنظام السوري فهي شبه مقطوعة منذ مقتل عماد مغنية. وأولوية إيران الآن استخدام حزب الله لصالح مطامحها بالنووي وبالمنطقة. بينما أَولوية سورية عدم تمكين حزب الله من أن يَخْلُفَها في لبنان، ودفْع العرب للتواصل معها. ولذلك يستميتُ الطرفان في اجتذاب الجنرال عون. فقد ضعُفت صِلاتُ عون بالحزب منذ انتخاب الرئيس الجديد، لانقطاع المصالح باستثناء بعض الدوائر الانتخابية في الانتخابات المقبلة إن كانت! ولذلك ظهر عون الأُسبوعَ الماضي في اجتماعٍ مسيحي، فيه كلُّ مسيحيي سورية. وقال كلاماً معناه إنّ المعارضة ليست فريقاً واحداً. فسارع السيد حسن نصر الله لدعوته للاجتماع به إلى جانب نبيه بري وسليمان فرنجية، حليف سورية القديم؛ حيث اتفقوا على تهدئة الخلافات فيما بينهم، وعلى السلوك إزاء رئيس الجمهورية الجديد، وربما على عدم المشاركة في الحكومة أو ترك الأمر لعون يتصرف كما يشاء. ولذا في اليوم التالي، وعلى أثر خروج النائب غسان تويني من عند الرئيس بري صرّح الرجل ربما بوحيٍ منه أنّ الأفضل للسنيورة الاعتذار!
ينشر حزبُ الله قواهُ المسلَّحة على خطوطٍ طويلةٍ وظاهرة، ما اعتاد عليها اللبنانيون منه منذ نشأته. وهو يضغطُ على السُنّة بوضوحٍ وصراحةٍ أمنياً وعسكرياً وسياسياً. وقد أُضيفت لذلك جبهة جديدة سورية المنشأ بطرابلس. وهناك من يُخوّفنا أن ينتشر الأمر إلى عكّار، حيث السنة أكثرية ساحقة (مع وجود أقلياتٍ مسيحيةٍ بارزة). وقد كان المعروف منذ بدأ حزبُ الله والسوريون التوتير بعد حرب تموز (يوليو) 2006، أنّ المسلمين لا يملكون سلاحاً ولا ميليشيات منظَّمة. ولذلك أمكن لهم أن يحتلُّوا بيروت في ساعاتٍ قليلة. لكنّ السنة ومنذ ثلاثة أسابيع في البقاع الأوسط، ومنذ أُسبوع في طرابلس، يواجهون النار بالنار، وما عادت الهويات سريةً ولا مُغَطّاة.
ففي بيروت والبقاع الأوسط يُواجِهُ الشيعةُ السُنّة. وفي طرابلس يواجهُ العلويون السُنّة. ورئيس الحكومة السنّي عاجزٌ عن تشكيل الحكومة التي كان من المفروض أن يتحمس لها نصر الله وعون، اللذان طالبا بها بإلحاحٍ منذ أكثر من عامٍ ونصف. فهل الصراع الجاري طائفيٌّ ومذهبي؟ إنه كذلك في أذهان العامة من الطرفين؛ بينما يذكر المحللون أسباباً إقليميةً ومحليةً غير مذهبية أو طائفية، لكنها ضاغطةٌ بقوة.