عمرو نبيل
مفكرة الإسلام: تعد منطقة الشرق الأوسط "مرآة" لموازين القوى العالمية والإقليمية؛ وذلك نظرًا لموقعها الإستراتيجي، فلم يشهد العالم ميلاد قوى جديدة، ألا وكان الشرق الأوسط على رأس قائمة أولوياتها، خاصة بعد اكتشاف النفط، الذي ضاعف من أهمية المنطقة الإستراتيجية، لكن هذه الأهمية لم تكن في يوم من الأيام في صالح المنطقة وشعوبها، بل على العكس تمامًا، حيث أنها جعلت المنطقة محط أطماع الدول الكبرى، وهو ما جعل "التبعية" مرادفًا لـ "الدولة العربية" في القاموس السياسي.
فلقد تحولت منطقة الشرق الأوسط إلى حلبة لصراع النفوذ الدولي والإقليمي، صراع يهدأ كلما ظهرت قوة عالمية عظمى قادرة على حسمه، ويشتعل كلما تراجعت هذه القوة، لا سيما في فترات تشكل قوى جديدة، وهو ما تشهده المنطقة، حاليًا؛ حيث قوة الولايات المتحدة، التي سبق وأن حسمت هذا الصراع مع الاتحاد السوفيتي السابق آخذة في التراجع؛ وهو ما أشعل الصراع بين ثلاثة مشاريع إقليمية: "المشروع الصهيوني اليهودي"، و"المشروع الفارسي الشيعي"، و"المشروع التركي الإسلامي".
وبالنظر إلى هذه المشاريع الإقليمية، نجد أنه لا يوجد بينها أي مشروع عربي، وذلك على الرغم من أنها تتصارع داخل "الحلبة العربية"، فالمشاريع العربية كلها لـ"الاستهلاك المحلي" ولا تتعدى أهدافها حدودها الجغرافية الآخذة في الانكماش بفعل الاحتلال العسكري والتدخلات الخارجية وغيرها.
وما دامت هذه المشاريع الإقليمية ليست بعربية فإن نجاحها سيتوقف على أمر من اثنين: إما الاعتماد على قوة خارجية تمنحه صفة "الوكالة"، وإما الاعتماد على رابطة قوية تجمع بينه وبين الدول العربية وتقوم على المصالح والتهديدات المشتركة.
فبالنسبة للمشروع الصهيوني، ونظرًا لأنه لا تجمعه بالدول العربية أي مصالح مشتركة، بل هو في حد ذاته يمثل أكبر تهديد لها؛ فقد اعتمدت "إسرائيل" على القوى الخارجية، حيث اعتمدت في بادئ الأمر على بريطانيا عندما كانت القوة العظمى ونجحت في الحصول على "وعد بلفور"، وبعدما تحولت دفة القيادة العالمية إلى الولايات المتحدة بادرت بتأسيس أقوى لوبي أمريكي، أما المشروع الفارسي فهو يقوم على أساس طائفي شيعي، وبالتالي له مصالح مشتركة مع الشيعية في الدول العربية، ولكنهم أقلية ولا يمكن الاعتماد عليهم وحدهم لنجاح المشروع الفارسي؛ ولذا لجأت إيران إلى المزاوجة بين الأمرين: المصالح المشتركة مع الشيعة ومحاولة الحصول على "الوكالة" الأمريكية في المنطقة، وذلك من خلال استعراض قوتها ونفوذها بالمنطقة.
ومن الملاحظ أن كلا المشروعين الصهيوني والفارسي إنما يهدفا إلى إسقاط الأنظمة العربية، حيث تهدف "إسرائيل" إلى إقامة دولة من الفرات إلى النيل، فيما تسعى إيران إلى إقامة أمبراطورية فارسية؛ وهو الأمر الذي جعل المصالح "الإسرائيلية" الإيرانية تتقاطع، حيث كشفت العديد من التقارير، خلال الآونة الأخيرة، عن تعاون إستراتيجي بين "إسرائيل" وإيران، كان آخرها المخطط، الذي كشفه تقرير الصحافي الأمريكي، "واين مادسن"، الذي نشر على موقع "أون لاين جورنال" (7/3)، حول ترحيل اليهود الأكراد من "إسرائيل" وإيران للعراق، استنادًا إلى ادعاءات توراتية بأنها جزء من "إسرائيل الكبرى".
وفي المقابل نجد المشروع التركي يقوم على أساس المصالح والتهديدات المشتركة، التي تربط تركيا العثمانية بالدول العربية، وهو المشروع، الذي تبناه حزب "العدالة والتنمية" ذي الجذور الإسلامية، وأعلن عنه رئيس الوزراء التركي، رجب طيب أردوجان في افتتاح القمة العربية الأخيرة بمدينة سرت الليبية، عندما دعا إلى "تحالف عربي تركي إسلامي يرد على محاولات المساس بمقدسات الأمة الإسلامية ويبني مستقبلاً مزهرًا للمسلمين"، مؤكدًا على أن "مصير إسطنبول لا يختلف عن مصير القاهرة وسرت ومن دون شك القدس"، وأن "عقيدتنا (كمسلمين) لا تجعلنا (كأتراك وعرب) أصدقاء فقط، بل أخوة وأشقاء فقد دونا معًا التاريخ الغني لهذه المنطقة ويجب أن لا يشك أحد أننا سندون معًا المستقبل المشرق"، ولم يفت أردوجان التأكيد على أن "القدس هي قرة عين جميع العالم الإسلامي وهي القبلة الأولى"، بل والتأكيد على أن إعلان "القدس عاصمة لإسرائيل" هو درب من "الجنون"، ذلك فضلاً عن مساعي تركيا لإلغاء التأشيرات بينها وبين الدول العربية، وهو الأمر الذي نجحت بالفعل في إتمامه مع سوريا والأردن وليبيا حتى الآن.
المواجهة الحقيقة:
ويبدو مما سبق أن الصراع بين هذه المشاريع الإقليمية الثلاثة إنما هو في حقيقة الأمر صراع بين المشروع التركي من جهة وكلاً من المشروعين الصهيوني والفارسي من جهة أخرى، حيث أن الصراع بين إيران و"إسرائيل" زائف يقتصر فقط على المواجهات الكلامية والتصريحات الإعلامية، فيما التعاون الوثيق بينهما على أشده، وقد تأكد زيف هذا الصراع الإيراني "الإسرائيلي" بعدما وقعت أول مواجهة حقيقية بين تركيا و"إسرائيل" في أعقاب حرب غزة الأخيرة؛ فمبقارنة بسيط بين مواقف كل من أنقرة وطهران من "تل أبيب" على أرض الواقع يتضح الفرق بين المواجهات الحقيقية والمواجهات الخداعية.
وعلى الرغم من حدة المواجهات، التي وقعت بين تركيا و"إسرائيل"، ألا أنها لن تكون حاسمة في تحديد مستقبل المنطقة ما لم تحسم أولاً المواجهة بين المشروع التركي والمشروع الإيراني؛ وذلك لأن بقاء المشروع الصهيوني مرتبط بخلو المنطقة من المشاريع السياسية الوحدوية، ولذا كان إخراج مصر من دائرة الصراع المباشر مع "إسرائيل" عبر كامب ديفيد هدف إستراتيجي لبث الفرقة بين العرب ووأد المشروع السياسي العربي، ولخلق فراغ عربي يمنح "إسرائيل" القدرة على التنفس، ولو أن هذا الفراغ تم ملئه بمشروع حقيقي؛ لوجدت القوى الغربية الداعمة للمشروع الصهيوني مصالحها مع هذا المشروع وليس مع "إسرائيل".
وبالتالي فالمواجهة الحقيقية إنما هي بين "المشروع التركي الإسلامي" و"المشروع الفارسي الشيعي"، هذه المواجهة قد بدأت بالفعل شرارتها الأولى في يوم 13/3/ 2010 بفندق "انكا الكبير" في اسطنبول، حيث عقد الشيعة الأتراك الإثني عشرية مؤتمرًا لهم، وطالبوا بنشر معتقداتهم في وسائل الإعلام وتدريسها في المدارس والجامعات، وأعلن زعيم "الطائفة الجعفرية"، صلاح الدين أوزجوندوز، مجموعة من المطالب الشيعية دون أن يفوته التذكير بمطالب العلويين والأقليات الأخرى في تركيا، مكررًا بذلك ذات السيناريو، الذي اتبعته إيران في لبنان والعراق والخليج واليمن والسودان وموريتانيا والمغرب.
فإيران تراهن في تنفيذ مشروعها الفارسي على الأقليات الشيعية، غير أنها تتبع أسلوبًا متدرجًا يبدأ بالدول الصغيرة كالإمارت والكويت والبحرين ولبنان، والتي تسمح للأقلية الشيعية بالظهور السريع والمؤثر، الذي ينعكس إيجابًا على إيران ويمنحها المزيد من النفوذ والقوة، التي تمكنها من استهداف الدول الأكبر حجمًا بالمنطقة وهو ما حدث عندما حاولت إيران اختراق مصر عبر "حزب الله" والسعودية عبر "الحوثيين"، والآن تركيا عبر الأقليات الشيعية والعلوية.
غير أن هذه المواجهة التركية الإيرانية لم تظهر إلى العلن بعد؛ فكلا الطرفين يتعامل مع الآخر بذكاء وحذر شديدين، حيث عارض أردوجان، مؤخرًا، فرض أي عقوبات على إيران بسبب برنامجها النووي في ظل امتلاك "إسرائيل" لترسانة نووية، فيما أكد نجاد خلال استقباله جميل جيجيك نائب أردوجان عن ارتياحه لتطور وتقدم تركيا، وأن إيران تعتبر ازدهار تركيا تقدمًا وتطورًا لها، ولكن هذا الحذر لا ينفي حقيقة المواجهة بينهما.