البراءة من المشركين ودماء المعارضين
عصام زيـدان
من يتتبع خيوط السياسة الإيرانية يجد أن قادة البلاد يقودون الداخل بصورة قمعية باطشة، لا تسمح بقليل من الحريات السياسية أو حتى المذهبية، وفي ذات الوقت يحيكون المؤامرات لدول الجوار الإقليمي بصورة تخطت حدود السرية أو التقية.
في الوهلة الأولى يقفز إلى الواجهة دعوة الحليفين، المرشد الأعلى للجمهورية على خامنئي والرئيس أحمدي نجاد بالبراءة من المشركين في موسم الحج المقبل من خلال مظاهرات واحتجاجات وهيجانات يقوم بها الحجيج الإيراني، في تلك البقاع المقدسة، معتبرين ذلك حقا للشيعة، مهددين في الوقت ذاته من يتعرض لتلك "التظاهرات البريئة" بما خفي من عظائم الأمور.
وتأتي هذه الدعوة، وما تبعها من تهديد، متسقة مع التوجهات الشيعة التي تربط بين الدماء التي تلطخ البيت الحرام وظهور المهدي، وهو ما كشفه فيلم سينمائي شيعي يدعو أبناء الطائفة لتلطيخ الكعبة بدماء الحجيج لكي يظهر المهدي المنتظر، صدر قبيل دعوة نجاد.
فقد تحدث الفيلم السينمائي الشيعي عن علامات ظهور المهدي المنتظر، مشيرا إلى أن ظهوره مرتبط بعلامتين كبيرتين الأولى تحققت وهي سقوط العراق وتدميره، والثانية اقتربت وتتمثل في حدوث فوضى عارمة في مكة المكرمة في موسم الحج ووقوع اضطرابات خطيرة وإراقة الدماء حتى تتلطخ أستار الكعبة بها.
ويؤكد الفيلم على أن تلطيخ الكعبة بالدماء هي المؤشر الأخير على ظهور المهدي ومعه مجموعة من 313 شيعي يقودون الشيعة لسيادة العالم وحكمه.
هذه الدعوة الإيرانية لإسالة الدماء في البيت الحرام وإثارة التظاهرات، من يتتبع، سيجد على النقيض منها قبضة حديدية تقمع التظاهرات السياسية التي نددت بالتزوير الذي قاد الرئيس نجاد إلى سدة الرئاسة لفترة جديدة، فيما أضفت السلطة مسوحها الشرعية على تلك التظاهرات التي خرجت بمناسبة مرور 30 عاما على اقتحام السفارة الأمريكية.
فقد أعلنت الشرطة أن التجمعات المناهضة للولايات المتحدة أمام السفارة الأمريكية هي فقط المشروعة، وأي تجمعات أو تجمهرات أخرى ستكون غير مشروعة وستتصدى لها الشرطة بقوة، وحذرت أنصار المعارضة من التظاهر وترديد شعارات معادية للسلطات.
وبعدما تحدت المعارضة قرار السلطة استخدمت الشرطة الغاز المسيل للدموع وفتحت النار لتفريق آلاف المتظاهرين من أنصار المعارض الإصلاحي مير حسين موسوي، بوسط طهران بعد ترديدهم شعارات منددة بالرئيس نجاد، وترديدهم أيضا شعار "الموت للديكتاتور"، وسمحت السلطات لوسائل الإعلام بتغطية المسيرة التي نظمتها الحكومة، بينما لم تسمح لها بتغطية احتجاجات المعارضة.
فإيران "خامنئي ـ نجاد" ترى في التظاهرات السياسة الداخلية سبيلا لإثارة الفوضى والقلاقل وخروجا على شرعية النظام الذي تتهمه المعارضة بالتزوير والتزييف،ومن ثم تقمعها بالقوة المسلحة، وتسمح داخليا فقط لبوق واحد يمجد أعمال الثورة ويعيد ماضيها إلى واجهة الأحداث مجددا.
وما بين الدعوة للتظاهر أيدولوجيا وعقديا للبراءة من المشركين التي من أجلها قد تسال الدماء في البيت الحرام وما بين قمع المتظاهرين المعارضين سياسيا يمكن قراءة المواقف الإيرانية التي ترى في الخارج كلئا مستباحا يمكنها أن تفعل به ما تشاء في الوقت الذي تشاء دون حساب أو عقاب، بينما تطلق اليد الحديدية الباطشة لقمع الداخل ووضعه في أطر حديدية لا تسمح له بالتنفس أو حتى التعبير عن الرأي.
ويظن قادة الثورة ومرشديها وحماتها الجدد أن هذه الثنائية "الثورية ـ القمعية" سوف تحفظ عليهم مكتسبات الثورة في الداخل وتسمح في الوقت ذاته بتصديرها للخارج كما أراد مفجر الثورة الأول الخوميني أول من ابتدع تظاهرات البراءة.
وهذه الثنائية في حقيقتها محفوفة بمخاطر جمة قد تقوض الثورة داخليا وخارجيا، ولا يجنى حماتها حينها إلا حصاد الهشيم، فلا شك أن الدول الخارجية لا ترتضى بانتهاكات لأمنها القومي وحدودها، ولن تلزم الصمت دائما حيال التجاوزات الإيرانية التي تتخذ من الرافعة الطائفية سبيلا للتدخل في شئون دول الجوار تمهيدا لتفجيرها من داخلها، كما يحدث في لبنان واليمن وغيرها من الدول تمكنت طهران من زرع عصابتها فيها مستغلة الهشاشة السياسية وفقد المناعة الأمنية والتعددية المذهبية في هذا الدول.
فدول الخارج، وفي مقدمتها الرياض وصنعاء، باتت على يقين بحجم المؤامرات التي تحيكها إيران ومحاولتها الدءوبة لهز الأوضاع الداخلية في هذا البلد من خلال الحوثيين على الحدود اليمينة السعودية، أو من خلال الطوائف الشيعية الداخلية، أو بالدعوة الصريحة لتظاهرات الفتنة في موسم الحج المقبل بعد أيام معدودة.
إيران إذن بمغامراتها الخارجية تعرض أمنها وأوضاعها الداخلية وثورتها لضربات مماثلة لضرباتها الخارجية، خاصة وأن أوضاعها الداخلية ليست محصنة بالصورة التي تجعلها بمنأى عن هذه الضربات الثأرية، حيث بات الداخل يشكل عبئا على الثورة لا ظهيرا ولا داعما لها.
فجموع الإصلاحيين الذين علت أصواتهم عقب انتخابات الرئاسة الأخيرة يرون في الثورة سياجا من نار يقوض محاولاتهم للخروج من أسر الملالي، وقيادة إيران بوجه جديد، وقد يلقون دعما خارجيا إقليميا وعالميا يدعم توجهاتهم التي هزت وما زالت بحر الحياة السياسية الإيرانية الذي ظل منذ الثورة عام 1979 يسير في اتجاه واحد، فاتت تظاهرات الاصطلاحيين الأخيرة لتضع حدا لهذا السكون بسيرها في اتجاه معاكس للتيار السائد الراكد.
والطوائف الأخرى وفي مقدمتها العرب السنة قد يشكلون شوكة أخرى في حلق الثورة الإيرانية، وورقة للدول الإقليمية يمكنها استغلالها بصورة تقلب الطاولة على النظام الإيراني من داخله، خاصة مع استعداد هذه الطائفة للانتفاض في وجه النظام القمعي بعدما عانت من الاضطهاد والتهميش والإقصاء منذ قيام الثورة وحتى الآن.
وقد تأتي حادثة مصرع العشرات من الحرس الثوري وبعض قادته في هجوم غامض نسب إلى جماعة جند الله السنية كدليل على ما يمكن أن تقوم به هذا الطائفة إن هي انتفضت أو وجدت دعما خارجيا يقف ظهيرا لها في مواجهة البطش السلطوي الإيراني.
بقي أن نقول أن نظام "خامنئي ـ نجاد" يلعب لعبة ثنائية خطيرة الأبعاد بإثارة عداوات دول الجوار معولا على بعده الطائفي الشيعي، معتقدا انه في مأمن من تدخلات هذه الدول، وفي ذات الوقت يمارس قمعا شديدا على السياسيين المعارضين داخليا والطواف والعرقيات الأخرى ويدفعهم جميعا إلى أحضان خارجية ترى مصلحتها في استقطابهم واستعمالهم في مصالح مشتركة تتمثل في وقف المدى الثوري وتغيير مجرى السياسية الإيرانية.