بوزيدي يحيى – كاتب جزائري
كشفت الحركات الاحتجاجية الثورية في المنطقة العربية، والواقع الجديد الذي أحدثته عن حراك منظم للمتشيعين في بعض الدول العربية، وهذا الحراك والنشاط يدلل على أننا لسنا أمام حالات فردية متناثرة ومعزولة هنا وهناك، وإنما أمام حراك - بغض النظر عن الجدل حول حجمه- منظم يوجد داخله شكل من أشكال النسق الاجتماعي -على الأقل- من خلال الرموز والأتباع.
ومن جهة أخرى فإن اتجاه المتشيعين إلى تشكيل هيئات سياسية واجتماعية والتعبير عن أنفسهم كمكوّن "أقلوي" ضمن مجتمعاتهم كما في حالة تونس ومصر([1])، إلى جانب مواقفهم السياسية التي تَسبح في فلك السياسة الإيرانية إذا ما ربطت بالحديث المتواتر في هذه الدول وغيرها عن دور فاعل للسفارات الإيرانية في العملية، وتوجيه قياداتها، فإن هذا يشي بوجود استراتيجية من طرف هذه القوى لنشر التشيع.
وقد برزت الكثير من الفعاليات المناهضة للتشيع في هذه الدول، ودعوات لوضع استراتيجيات لمجابهة المد الشيعي، والسؤال الذي يطرح في الحالة الجزائرية يتمثل في وجود استراتيجية لنشر التشيع في الجزائر من عدمها؟ وإذا كانت موجودة فهل هناك عمل في الاتجاه المعاكس يرتقي إلى مستوى حجم التهديد أم لا؟
ملامح استراتيجية نشر التشيع في الجزائر
لا يختلف التشيع في الجزائر من حيث آليات انتشاره عن الدول العربية الأخرى، باعتبار أن الجهة التي تقف وراءه واحدة، وأهم آلية للانتشار من خلال الجهود الفردية في الوسط الاجتماعي للمتشيعين من أقارب وأصدقاء وغير ذلك، وهذا المستوى لا يعبر عن استراتيجية لنشر التشيع وإنما يعكس مجرد همّ دعوي يحمله كل فرد لمعتقده، يتضاعف في الحالة التي يكون فيها متبنيا لمعتقد يختلف عمّا هو سائد في مجتمعه حيث يتحمس لمعتقداته الجديدة ويسعى لنشرها.
هذا المستوى من النشاط يدخل ضمن النشاط الروتيني للمتشيعين وهو ما يتوقف عنده المقللون من خطورة الظاهرة، غير أن التكتل في هياكل مختلفة في تونس ومصر كما سبق الإشارة لم يأتِ من فراغ وإنما هو مرحلة تالية للتواصل بين المتشيعين في وقت سابق. وهو ما لا تختلف عنه الساحة الجزائرية أيضا، حيث نجد حلقة تواصل بين المتشيعين في مختلف الولايات الجزائرية، إذ يلتقون بشكل دوري في مناسبة عاشوراء، أو من خلال شبكة الإنترنيت التي تشكل فضاء للتواصل والتكتل بشكل أسرع وأكبر، ومنتديات شيعة الجزائر كانت أقدم فضاء للتواصل بين المتشيعين، ولا شك أنهم يواكبون التطور من خلال مواقع التواصل الاجتماعي ويستغلونها في نشاطهم، إذ تتواجد الكثير من المجموعات لشيعة الجزائر، بعضها مفتوحة وبعضها مغلقة.
هذا الانتقال من المستوى الفردي إلى المستوى الجماعي المحلي ثم المستوى الجهوي وممكن القول حتى الوطني للنشاط الشيعي الذي لم يجد الزمان المناسب كما في تونس ومصر حتى يتأطر في هياكل اجتماعية وسياسية مشابهة - وإن كانت هناك بعض المحاولات لتأسيس جمعيات في العاصمة ومدن مختلفة-، كل هذا يؤشر على وجود مَن يخطط للعملية ويوجهها، ولا يستبعد أن تكون هذه الجهة هي السفارة الإيرانية أو على الأقل ترتبط معها بعلاقة مباشرة أو غير مباشرة.
والمقصود بالجهة هنا "الرموز المحلية المتشيعة" والتي مضى على تحولها الديني بين العقدين والثلاثة، والتي أصبحت مترابطة فيما بينها، واستطاعت أن تنسج علاقات مع إيران والمرجعيات الشيعية بشكل خاص في قم حيث يدرس هناك الكثير من المتشيعين، قدرت عددهم جريدة الشروق في سنة 2010 بخمسين طالبا وهو رقم مرجّح للارتفاع، هذا إذا لم يكن أكبر خاصة عند الأخذ بعين الاعتبار وجود حوزات أخرى في لبنان وسوريا وغيرهما من الدول([2]).
دور السفارة الإيرانية
طبعا إيران تحاول دائما نفي علاقتها بنشر التشيع في الجزائر أو غيرها من الدول السنية([3])، حيث يتهم المتابعون للموضوع المراكز الثقافية التابعة للسفارات الإيرانية بالقيام بدور فعال في هذا الإطار.
لا بد من الإشارة بداية إلى أنه انطلاقا من دستور الجمهورية الإسلامية وما قرره حول طبيعة النظام الإيراني إضافة إلى الخلفية الأيديولوجية للنخبة الحاكمة في إيران وهي نخبة دينية شيعية، فإنه يتجلى بكل وضوح تبنيها لنشر القيم الدينية الشيعية بالخارج، ولا شك أن النشاط الثقافي الذي تقوم به كل السفارات الإيرانية كما هو متعارف عليه في الأعراف الدبلوماسية ذو أبعاد دينية تعكس طبيعة أو ثقافة المجتمع كما يتصورها النظام الحاكم، ويستحيل أن يكون نشاط هذه المراكز الثقافية خارج الإطار الشيعي ونشر معتقداته.
والوقائع والدلائل تبين أن السفارات الإيرانية لا تقف موقف المتفرج والمنتظر من التشيع، وإنما تعمل على إعداد الخطط والاستراتيجيات للتغلغل أكثر ونشره خدمة للهدف الأسمى الذي وجدت الجمهورية الإسلامية لأجله وهو تهيئة الظروف لظهور المهدي من الناحية الأيديولوجية، أو توظيف المتشيعين لما يخدم مصلحة النظام الإيراني من الناحية السياسية.
وكان تقرير لموقع (ميدل إيست أون لاين) تحدث عن وجود ما يسمى بوحدة "كتامة"، مهمتها إعداد خطط تحت إشراف مكتب المرشد العام لنشر التشيع الإثني عشري الجعفري في المغرب العربي. وتتضمن هذه الخطط الدعم المعنوي والمادي لشبكات تشييع منتشرة في المغرب العربي وتكثيف النشاط التبشيري عبر أوروبا حيث تستهدف الجاليات المغاربية في فرنسا وبريطانيا وألمانيا([4]). وأشار التقرير أيضا إلى أن البحرين تعد مركز نشاط تبشيري للتشيع؛ إذ يتم منها إرسال مواد كثيرة عبر البريد لدول المغرب العربي، ويتم الطبع والتصميم وإنشاء المواقع الإلكترونية الموجهة للمغرب العربي بتمويل يأتي عبر أحد آيات المجلس العلمائي في المنامة وهو عيسى قاسم، والذي تشير التحقيقات الجزائرية إلى أنه يتسلم الأموال المخصصة لنشاط "كتامة" في البحرين من طهران([5]).
كما توفرت معلومات مهمة عن استخدام إيران لجمعية شيعية كويتية تتستر وراء مكتبة "العرفان" تستعمل وحدة "كتامة" هذه المكتبة لترويج المذهب الشيعي في الجزائر والمغرب([6]).
صدى هذا النشاط الشيعي التبشيري تجلى بردود الأفعال المغاربية في مواجهته بداية بالمملكة المغربية التي قطعت علاقاتها الدبلوماسية مع طهران بسبب هذه النشاطات، وفي تونس اتهمت الرابطة التونسية لمناهضة المد الشيعي المركز الثقافي الإيراني التابع لسفارة إيران بنشر المذهب الشيعي في تونس وطالبت الحكومة التي تقودها حركة النهضة الإسلامية بإغلاقه فورا وأوضحت أن هذا المركز يعمل بالاشتراك مع الرابطة التونسية للتسامح على نشر التشيع في تونس ولفتت إلى أن هذه الجمعية "في ظاهرها منظمة ثقافية وفي باطنها عقائدية مندسة في المجتمع المدني (التونسي)، ذات ولاء لدولة إيران وأهدافها معادية لهوية تونس (الدولة) السنية المالكية"([7]).
وفي ليبيا حذر مفتيها صادق الغرياني من النشاط الإيراني لنشر التشيع حيث كشف عن متابعة لتحركات وأنشطة شيعية لأشخاص إيرانيين دخلوا ليبيا تحت عدة مزاعم، بينما كان هدفهم الرئيسي هو نشر المذهب الشيعي بين الليبيين السنة، مستغلين حاجة الناس، واضطراب الأمن، وإعادة ترتيب الأوضاع الليبية بعد الفراغ الذي أحدثه غياب ما سمي باللجان الشعبية التي كانت تتحكم في كل شيء في الداخل الليبي([8]).
أما في السياق الجزائري فهناك مؤشرات تعكس ملامح لاستراتيجية في نشر التشيع يستحيل أن تأتي من فراغ، ولاشك من وجود توجيه مباشر أو غير مباشر من طرف ما، وهذا الطرف يقبع في طهران أو قم، وفي الحالتين لا بد من المرور على السفارة الإيرانية، ولعل أهم المؤشرات ما يلي:
1- الاختراق:
هو سلوك قديم جديد من طرف إيران، أبرز وأخطر أشكاله تلك التي عرضها الأستاذ أنور مالك في كتابه (أسرار الشيعة والإرهاب في الجزائر)، حيث كشف عن اختراقات عديدة للجماعات المسلحة خلال التسعينيات بواسطة متشيعين لهم علاقة مباشرة ووطيدة مع النظام الإيراني وحزب الله([9])، كما كانت هناك محاولات للمتشيعين لاختراق بعض الأحزاب الإسلامية والتنظيمات المجتمعية مثل: الكشافة الإسلامية حيث كُشف عن قيام ثلاثة أفواج كشفية في ولاية باتنة بنشر التشيع هي: الرجاء، والمستقبل، والفلاح، وقامت المحافظة بتجميدها([10]).
وعلى إثر الفضيحة صرّح قائد الكشافة الإسلامية نور الدين بن براهم عن إرسال لجنة تحقيق في الموضوع، وأكد على اتخاذ إجراءات وتدابير وقائية صارمة لحماية شباب الكشافة من المد الفكري الخارجي، واعترف في نفس الوقت بغياب المتابعة سابقا لطبيعة نشاط الأفواج الكشفية، وحاول إيجاد تبريرات لها([11])، ليدق تقرير لجنة التحقيق ناقوس الخطر بشأن تواجد التوجه الفكري الشيعي بعد حادثة باتنة، وبأنه منتشر بين عائلات وليس وسط تلاميذ ومرتادي الأفواج الكشفية فقط، ودعا إلى تفعيل منظومة دفاع اجتماعية وقيمية مشتركة لحماية الهوية الوطنية([12]).
كما يعمل المتشيعون على إنشاء جمعيات ثقافية أو خيرية في الظاهر كالدروس الخصوصية أو تحفيظ القرآن، ولكنها في الباطن لنشر التشيع آخرها محاولة تأسيس جمعية في الجزائر العاصمة تحت اسم (حسن الاستقبال)، ثم غيروا الاسم إلى جمعية النور([13])، ونفس السلوك يتكرر في كل المدن خاصة الكبرى منها. نشاط المتشيعين ضمن هذه الأطر سيكون مطية أو وسيلة للوصول إلى مراكز حساسة في الدولة، والخطورة تكمن في عدم القدرة على اكتشاف المتشيعين لممارستهم التقية، وقد يكون المتشيعون الجزائريون أكثر تقية من غيرهم لحساسية المجتمع الجزائري وطبيعة النظام السياسي.
2- زرع الخلايا:
هناك إجماع بين الباحثين والمتابعين لموضوع التشيع أن بدايته كانت في الستينيات والسبعينيات من خلال الأساتذة المستقدمين من العراق وسوريا وغيرها، وإن كان نشاط هؤلاء في هذه المرحلة نشاطا دعويا فرديا، إلا أنه بعد نجاح الثورة الإيرانية يرجح حدوث نوع من التنسيق خاصة مع دخول إيرانيين ولبنانيين على الخط عقب الثورة مهمتهم تصدير فكر الخميني، حيث كان لهم نشاط قوي في الجامعات الجزائرية بين الطلبة.
كما أشارت التقارير أيضا إلى وجود خلايا شيعية في دمشق وتحديدا في مقام السيدة زينب للتنسيق بين المتشيعين، وقد أثيرت قبل سنوات قضية رجل الأعمال اللبناني "صلاح عز الدين"، المرتبط بحِزب الله، والذي صرَّح للقضاء اللبناني عن خسارته لمبلغ قيمته 200 مليون دولار في نشاطات تجاريَّة بالجزائر. والذي كان من نتائج فضيحة إفلاسه فتح الأمن الجزائري تحقيقا حول خلية للحزب في الجزائر([14])، وبكل تأكيد فالحديث عن حزب الله هو في النهاية حديث عن إيران كون الحزب لا يَعدُ أن يكون فرعا من فروع الحرس الثوري الإيراني. ومن المعلوم الدور الكبير لمؤسسة الحرس الثوري في النظام الإيراني ونشاطها الخارجي وسعيها لتأسيس فروع وخلايا حيثما تتاح لها الفرصة والإمكانيات.
وفي هذا السياق أشارت التقارير إلى محاولات لتأسيس (حزب الله المغاربي) ليضم متشيعين من كل الدول المغاربية، ويرأسه المتشيع تيجاني السماوي من تونس([15]). وبغضّ النظر عن وجود هذا الفرع لحزب الله من عدمه فإن نشاطات كل المتشيعين لا تختلف في النهاية من حيث المقاصد عن دور ومهام حزب الله. وعملية الاختراق التي أشرنا إليها سابقا هي مرحلة من مراحل زرع الخلايا.
3- التوظيف:
تعمل إيران جاهدة على توظيف المتشيعين لتحقيق مشروعها في الدول العربية، وأفضل وسيلة لتمريره وتجاوز العقبات التي تحول دون ذلك جعل أصوات عربية في الواجهة للدفاع عنها سياسيا وأيضا لنشر التشيع، وهناك الكثير من الأسماء المتشيعة أو ما يطلق عليهم بالمستبصرين، لهم حضور قوي في الإعلام الشيعي عامة، والإيراني خاصة، ولهؤلاء برامج في قنوات إيرانية، وطريق هؤلاء في رحلة تشيعهم حتى استقرار المقام بهم في قُم أو بيروت لا شك أنه مرّ أيضا في مرحلة من المراحل عبر السفارة الإيرانية.
ومن الأمثلة على ذلك: عبد الباقي قرنة، المقدم في فضائية الكوثر، ويحيى أبو زكريا الذي عمل في فضائيات إيرانية عديدة، وهو حاليا يعمل إلى جانب المتشيع غسان بن جدو في قناة الميادين التي سخّرت لإجهاض الثورة السورية، وأصبح يحيى أبو زكريا ضيفا دائما على قنوات النظام السوري يمارس التشبيح الإعلامي. وأيضا الكاتب الصادق سلايمية الذي نشر العديد من المقالات في جرائد جزائرية مختلفة من ضمنها جريدة (البصائر) لسان حال جمعية العلماء المسلمين الجزائريين، وكانت تدور كلها حول الطعن في الصحابة والانتقاص من السنة وإعلاء شأن الشيعة، وانبرى الكثير من الفضلاء للرد عليه وتفنيد ما اجترحه من أباطيل، من بينهم الدكتور مختار حمحامي، ونور الدين المالكي، وحاليا تدور كتاباته في نقد الحركة الإسلامية، وحتى التي يتناول فيها القضايا الدولية فإنها تتماشى مع السياسة الإيرانية.
والجدير بالذكر هنا أن هذا الكاتب كان عضوا بارزا في حركة الإصلاح الوطني، وهي حزب إسلامي، واتهم بقضية أخلاقية لما كان يرأسها عبد الله جاب الله الذي كانت تربطه به علاقات جيدة، كما شارك في مؤتمر الصحوة الإسلامية في طهران في سبتمبر 2011 وألقى كلمة هناك، وعلى هامشه شارك في برنامج على قناة الكوثر مارس فيه كغيره من المتشيعين مهام الطابور الخامس في الدعاية لإيران، وهو الملتقى الذي حضره بالمناسبة أبو جرة سلطاني، زعيم حركة مجتمع السلم السابق، والسؤال الذي يطرح: لماذا اختيار سلايمية دون غيره؟ ومن اختاره غير السفارة الإيرانية؟
وقد بدأت تبرز بعض الأسماء الدينية المتشيعة مثل فضيل الجزائري. وعموما فإن المتشيعين الذين يدرسون في قم وغيرها من المراكز الدينية هم مشاريع دعاة (استبصار) على القنوات الإيرانية والشيعية، وهذا سلوك يحمل رسالة خطيرة للمجتمعات العربية والمغاربية خاصة.
4- التسويغ:
محاولة إيجاد مسوغات لوجود التشيع تاريخيا من خلال الحديث عن دولة الأدارسة كأول دولة لآل البيت، أو الدولة الفاطمية، أو اللعب على الوتر العرقي بالحديث عن أن أصل البربر شيعي، ما يعني أصالة التشيع في شمال إفريقيا. أو العزف على وتر الأشراف وآل البيت الذين هاجروا إلى هنا بسبب المآسي التي لحقت بهم من طرف السلطة الأموية السنية ما يعني بمفهوم المخالفة أن أشراف المغرب يخونون أجدادهم.
وأيضا من خلال الأضرحة وزيارتها والتي تعتبر أيضا أحد أهم المداخل للتشيع باعتبارها غطاء لممارسة طقوسهم وأيضا لكسب الطرق الصوفية، على غرار ضريح سيدي عبيد وضريح موسى البهلول([16])، وأهم ضريح هو ضريح خالد بن سنان العبسي المتواجد بمدينة سيدي خالد بولاية بسكرة وكان مكان احتفالهم بعاشوراء، وسبب اختياره وجود ضريح أحد الأولياء وهو عبد الرحمن بن خليفة الذي ينحدر نسبه لآل البيت([17]).
مثل هذه مبررات لديهم على قِدم التشيع في البلاد ومسوغ لنشره وانتشاره، وليس بالضرورة أن يكون المسار أحاديا فقد يجتمع مدخل أو مدخلان وربما جميعها، ويلقن المتشيعون كل هذه الأفكار لطمأنتهم لمعتقدهم الجديد وتثبيتهم عليه.
إرهاصات الاستراتيجية الموازية
على عكس العقود السابقة التي كان لا يلقى فيها بال لكل الأصوات والدعوات المحذرة من خطر التشيع، حدث تحول في قراءة هذه الظاهرة يأتي في مقدمتها موقف وزارة الشؤون الدينية التي كانت تنفي من قبل أي خطر شيعي وأصبحت الآن تعتبره تهديدا للهوية الجزائرية، وإن كان هذا الموقف يحمل في طياته متناقضات عديدة بداية بعدم وجود مبررات تفسر التحول المفاجئ في الموقف خاصة وأن الرجل الأول في الوزارة كان لا يقلل من هذا الخطر فحسب وإنما ينفيه، مرورا باتهام اللاجئين السوريين بنشر التشيع مع عدم وجود أي رابط منطقي بين الأمرين، وانتهاء بالزج بالسلفية إلى جانب التشيع كتهديد للمرجعية الدينية الوطنية، رغم أن الوزير يعلم أن هذا الاتجاه موجود في مساجد الوطن، وهو مكون اجتماعي قد تكون عليه بعض المؤاخذات كغيره من مكونات المجتمع لكنه في الأخير مكون طبيعي.
ولكن مع كل هذا فإن الاعتراف الرسمي بالتشيع كخطر على المرجعية الوطنية بداية في الطريق الصحيح تحتاج إلى ترجمة عملية لها، خاصة وأنه إذا سلمنا جدلا بأن التشيع - مثله مثل السلفية- تهديد، فإن الوزارة اتخذت ضدها بعض الإجراءات في هذا الإطار والتي وصفتها الصحافة بـ (الوصايا العشر في رمضان) في حين لم تقم بأي خطوات لمواجهة خطر التشيع!
وبإمكان الوزارة أن تقوم بإجراءات عديدة ضد التشيع كتوجيه أئمة المساجد لتخصيص خطبة جمعة عن الشيعة والتحذير منهم خاصة بمناسبة عاشوراء، أو أن تصدر وتوزع كتيبات حول الشيعة أيضا، كما بإمكانها أن ترسل أئمة من أصحاب الكفاءات العالية جدا في الخطابة إلى المناطق التي تشهد نشاطا تبشيريا شيعيا وتحديدا حيث يتواجد بعض رموزهم، حتى لا يبقى الشباب المستهدف مأخوذا بهؤلاء في ظل عدم وجود من يقابلهم من الرموز الدينية المكافئة. ولا شك أن الوزارة كمؤسسة يفترض أنها تملك من الإمكانيات والعقول ما هو أعرف وأكثر تقديرا للمخاطر وكيفية مواجهتها.
من جهتها فإن الحركة الإسلامية أصبحت هي الأخرى تعي بعض الشيء خطورة الشيعة، وإن كانت لم تجعل من خطر التشيع أحد محاور نضالها الديني والسياسي رغم أنه ينافسها في أهم معاقلها وهي الكشافة الإسلامية، وحتى داخل الاتحاد العام الطلابي الحر وإن بشكل أقل، والمؤسف أنها لا زالت تنظر للأمر من زاوية حزبية ضيقة، فبينما سارعت إلى إصدار العديد من البيانات الرافضة للانقلاب العسكري في مصر ونظمت وقفات احتجاجية أمام السفارة المصرية ومقر الأمم المتحدة إلا أنها لم تقم بخطوات مماثلة في الحالة السورية.
بل المؤسف أن رئيسها استقبل - قبل فترة- السفيرَ الإيراني في الجزائر، وأورد موقع الحركة أنهما ناقشا القضايا الدولية، وهنا نتساءل عن الذي قاله معاليه لسعادته حول سوريا؟!، وكان سبق لنا تفصيل تطور موقف الحركة من الأحداث الأخيرة وتمنينا منها أن تقوم بأقل الواجب في هذا الإطار، وهو أقل بكثير مما تقوم به تجاه مصر مع أن الأخير جيد بكل تأكيد([18]).
ويبقى الاتجاه السلفي في مقدمة المحذرين والمواجهين للتشيع، ومن خلال المتابعة فإن نشاط هذا الاتجاه في مواجهة الظاهرة رصدناه فيما يلي:
1- النشاط العلمي الروتيني إن صح التعبير للسلفيين واهتمامهم بالعقيدة الصحيحة ونشرها، ومن ذلك عقيدة أهل السنة والجماعة في الصحابة وآل البيت، والشُّبه التي يثيرها الشيعة في هذا الإطار، وعقيدة أهل السنة في المهدي المنتظر، والفَرق بينه وبين المهدي المنتظر عند الشيعة، وغيرها من المواضيع العقدية التي تفصّلها كتب العقيدة وبشكل خاص كتاب شرح العقيدة الواسطية للشيخ ابن العثيمين رحمه الله الذي يقرأه ويتدارسه جل السلفيين.
2- في الدورات العلمية التي ينظمها السلفيون في بعض الأحياء الجامعية يكون هذا الموضوع حاضرا، فمثلا إحدى الدورات التي تسنّى لي حضورها كانت هناك محاضرة تحت عنوان (عقيدة أهل السنة والجماعة في الصحابة)، كما أن الدعاة السلفيين في نشاطهم العلمي أيضا يتطرقون في سياق حديثهم إلى خطر التشيع وينبّهون ويحذرون منه.
3- إصدار عدد خاص من مجلة الإصلاح السلفية حول الشيعة، وقام السلفيون بتوزيعه إضافة إلى بيان للشيخ ربيع المدخلي يحذر من خطر التشيع، في ولاية عين تموشنت وهو النشاط المضاد الموجه بشكل مباشر لمحاربة التشيع في هذه المدينة التي يتواجد بها أحد أهم رموزهم الدينية([19]).
لكن هذا النشاط على أهميته لا يرتقي إلى مستوى الاستراتيجية لمواجهة هذا الخطر، فأولا نجد هذه النشاطات لا تستهدف المتشيعين بشكل مباشر كما لو أنه يسلم ويقرّ بتشيعهم، بل وأكثر من ذلك فإننا نجد المتشيع ناشط في نشر معتقداته وضلالاته رغم هشاشتها وتناقضاتها، وفي المقابل يقف السلفي موقف المتوجس والمتخوف من مواجهته بسبب الخشية من مجالسة أهل البدع، كما أن غياب التوجيه الشرعي الواضح في كيفية التعامل مع المتشيعين يربك حركة السلفيين.
وهنا أضرب مثلا واقعيا عن غياب الاستراتيجية المتكاملة والشاملة لهذا الأمر حيث أنني طرحت على ثلاثة مشايخ سلفيين إشكالية خلاصتها: هل يجوز لشخص قبول هدية من أضحية جاره المتشيع؟
فحصلت منهم على ثلاث إجابات، أحدهم قال: يجوز، والثاني قال: لا يقبلها منه، وسكت، والثالث قال: لا يقبلها منه وأضاف بأن يفعل ذلك بأسلوب حسن ويوضح له بأنه لا يقبلها منه لأنه متشيع مع شكره على ذلك لدعوته لعله يرجع عن تشيعه، قياسا على الجار الذي يكون عمله حراما ويهدي جاره طعاما فيرفض هديته ويوضح له أن عمله حرام. وهذه الإجابة الأخيرة أجد فيها نوعا من الاحتواء الإيجابي للمتشيعين وهذا ما يحتاجه الكثير من السلفيين.
ومن ناحية أخرى فإن العمل الذي استهدف مواجهة الظاهرة بشكل مباشر يتمثل في إصدار عدد خاص من مجلة الإصلاح حول الشيعة وتوزيعه في مدينة عين تموشنت فقط، وهذه الحملة إضافة إلى أنها تكاد تكون الوحيدة ومعزولة فإنها جاءت جد متأخرة بعد قرابة الثلاثة عقود من الانتشار المتصاعد للظاهرة، وما يلفت الانتباه أيضا أنها جاءت بعد قرابة الخمسة أشهر من بيان للشيخ ربيع المدخلي حذر فيه من خطر التشيع في الجزائر والتخاذل في محاربته([20])، في حين يفترض أن يكون عمل السلفيين أكبر وأقدم كونهم الأقرب والأعرف بالمجتمع ولا ينتظرون حتى تصدر تحذيرات من الشيخ ربيع، هذا مع العلم أن التنبيهات والتحذيرات كانت أقدم من هذا بكثير.
كما أن الشيخ فركوس أفتى بعدم جواز مناظرة الشيعة في الفضائيات ووجوب محاربتهم في غير ذلك، برغم النتائج الكبيرة الإيجابية لهذه المناظرات والتي اضطرت الشيعة للإفتاء بحرمة مشاهدة هذه المناظرات والقنوات!
الخلاصة
المخاوف التي تطرح حول ظاهرة التشيع ليس من كونها حالات فردية، وإنما من وجود الكثير من الأمارات والعلامات التي تعكس وجود تخطيط منظم لنشر التشيع، والخطورة ليست في الأمد القريب ولكن على المستوى البعيد. وما يساهم في عدم الاستشعار بها هو التباعد الجغرافي بين الجزائر وإيران من جهة وتشابه المواقف السياسية إلى حد كبير من التحولات الجارية في المنطقة بين النظامين السياسيين التي تغطي على طبيعة نشاط المتشيعين، لأن ما يحركه هو توافقه مع إيران أكثر منه مع الجزائر.
ولكن السابقة التاريخية خلال الأزمة الجزائرية في حقبة التسعينيات من القرن الماضي وما تم تداوله عن دور للحرس الثوري في تدريب عناصر إرهابية وتقلد متشيعين لمراكز قيادية في تلك الجماعات مؤشر على ما هو أسوأ من المتشيعين إذا ما استمروا في نشاطهم، خاصة في ظل ما يرصد من تعدد لأوجه نشاطهم. من هنا تأتي أهمية تنبيه كل الأطراف لتحمل مسؤولياتها والنظر للموضوع من زاوية أكثر شمولية، واستدراك الأخطاء وسد الثغرات والفراغات التي تسلل منها التشيع والعمل على تحصين المجتمع منه.
ولعل إثارة هذا الموضوع والنقاش الجاري حوله إعلاميا يشكل إرهاصات أولية لاستراتيجية مضادة للتشيع، بداية من مواقف وزارة الشؤون الدينية وإدراجه ضمن المخاطر المهددة للمرجعية الوطنية، وتنبه الكشافة الإسلامية للنشاط الشيعي التبشيري وسعيها لاتخاذ إجراءات وقائية منه، وتفطن الحركة الإسلامية لحقيقة الشيعة بفضل الثورة السورية، فضلا عن النشاط السلفي في محاربة الظاهرة على احتشامه.
ولكن هذه التطورات مجتمعة تحتاج لتجميعها وتوجيهها في سياق منظم أو استراتيجي يوازي استراتيجية نشر التشيع، وهذا الدور منوط بالمؤسسات الأكاديمية والعلمية التي على جميع الفاعلين الالتفات إليها والإصغاء لها بل ودعمها وهذا أقل الواجب من الجميع تجاه الدين والوطن.
المصدر : الراصد
([1]) ظهرت بعد ثورة 25 يناير في مصر العديد من الحسينيات الشيعية، وسعت بعض القيادات لتأسيس حزب ناطق باسمها هو حزب التحرير، وأسس المتشيعة في تونس عدة جمعيات منها جمعية "أهل البيت الثقافية" التي يرأسها عماد الدّين الحمروني، وجمعية "المودة الشيعية" ويرأسها عبد الحفيظ البناني وجمعيّة الرابطة التونسيّة للتسامح ويرأسها صلاح الدين المصري، وكانت هناك محاولة لتأسيس حزب سياسي تحت مسمى "حزب الله التونسي"، وبعد رفض السلطات التونسية الطلب غير اسمه إلى حزب الأمة. كما أسسوا جريدة ناطقة باسمهم وهي“الصحوة التونسية”، وكانت قد ظهرت أيضا ثلاث جمعيات شيعية في المملكة المغربية وهي: الغدير، البصائر، التواصل.
([2]) 50 طالبا جزائريا يتشيعون ويعتكفون في قم الإيرانية، جريدة الشروق، 10/05/2010، على الرابط: http://www.echoroukonline.com/ara/?news=51845
([3]) بعد نشر جريدة الشروق مقالات الأستاذ أنور مالك عن علاقة إيران بالجماعات المسلحة ردت السفارة الإيرانية بتكذيب ما ورد من معلومات، وكما جرت العادة اعتبرت ذلك يصب ضد وحدة الأمة الإسلامية.
([4]) عبد العزيز الخميس، كتامة ذراع التشييع الإيراني في المغرب العربي، ميدل إيست أونلاين، 08/09/2011، على الرابط: http://www.middle-east-online.com/?id=117096
([5]) المرجع نفسه.
([6]) المرجع نفسه.
([7]) نوميديا نيوز، 21/08/2012، على الرابط:
www.numidianews.com/ar/article~35948.html?_featured=7dd701e074e9850f9d6d1b52332b0dee
([8]) نشاط شيعي مكثف في ليبيا، مركز التأصيل للدراسات والبحوث، 01/06/2012، على الرابط:
http://taseel.com/display/pub/default.aspx?id=1886&mot=1
([9]) لتفاصيل أكثر حول هذا الموضوع انظر: أنور مالك، أسرار الشيعة والإرهاب في الجزائر، ط1، الجزائر: الشروق للإعلام والنشر، 2011.
([10]) تجميد نشاط أفواج كشفية تورطت في نشر التشيع، جريدة الشروق، 2013/02/02، على الرابط:
http://www.echoroukonline.com/ara/articles/155737.html
([11]) طوارئ لمواجهة زحف المدّ الشيعي داخل الكشافة، جريدة الشروق، 2013/02/06، على الرابط:
http://www.echoroukonline.com/ara/articles/156130.html
([12]) الكشافة الإسلامية تحذّر من المدّ الشيعي، جريدة الشروق، 2013/02/08، على الرابط:
http://www.echoroukonline.com/ara/articles/156319.html
([13]) نور الدين المالكي، برنامج ساعة مغاربية على قناة وصال، تاريخ بث الحلقة، 19/7/2013.
([14]) بوزيدي يحيى، خلايا حزب الله تهويل إعلامي أم تهديد حقيقي، موقع الألوكة، 06/04/2010، على الرابط: http://www.alukah.net/culture/0/19939/
([15]) أنور مالك، أسرار الشيعة والإرهاب في الجزائر، ط1، الجزائر: الشروق للإعلام والنشر، 2011، ص 126.
([16]) المرجع نفسه، ص 133.
([17]) المرجع نفسه، ص 142.
([18]) بوزيدي يحيى، إخوان الجزائر واعترافات القرضاوي، مجلة الراصد، العدد 123، بتاريخ 21/06/2013، على الرابط:
http://alrased.org/main/articles.aspx?selected_article_no=6296
([19]) التيار السلفي يشن حربا على معتنقي المذهب الشيعي بالجزائر، جريدة الشروق، 09/12/2011، على الرابط:
ttp://www.echoroukonline.com/ara/index.php?news=88460
([20]) ربيع المدخلي: أيها الجزائريون سكوتكم عن التشيّع من أكبر المنكرات، جريدة الشروق،2011/05/25 ، على الرابط:
http://www.echoroukonline.com/ara/?news=75951