أهل السنة.. نبض الماضي وجمود الحاضر

بواسطة ربيع الحافظ قراءة 559
أهل السنة.. نبض الماضي وجمود الحاضر
أهل السنة.. نبض الماضي وجمود الحاضر

أهل السنة.. نبض الماضي وجمود الحاضر

ربيع الحافظ - معهد المشرق العربي

على إثر الأزمة السياسية المبكرة(*) التي واجهتها دولة الحضارة العربية الإسلامية، التي أخبر عن ملامحها الرسول صلى الله عليه وسلم، وامتزج فيها الصدق بالشطط الفكري، برز مسمى أهل السنة والجماعة كعنوان لمفاهيم عقدية ورؤى سياسية شخّصت الأزمة وانطبقت على ملامحها.

العنوان الذي أطلقه الصحابي الجليل عبد الله بن عباس رضي الله عنه من وسط ميدان الأزمة وغمرتها لحل أزمة سياسية، جاءت ولادته سياسية من اللحظة الأولى. العنوان تنامى بشكل متسارع، من لافتة ميدانية إلى اسم لمدرسة واضحة المعالم، ثم إلى تعريف للطيف السياسي الأوسط والأكبر في الأمة، الذي أنقذ الدولة من أزمة سياسية حادة، وأقال عثرة كبرى عن طريق انطلاقتها.

رفعت الدولة الخارجة من الأزمة راية الطيف فوق مؤسساتها، لتتحول الراية إلى شعار للوسطية السياسية والفقهية والعقدية التي اختطتها الدولة لنفسها، ومكنتها من لعب دور "الكبير" الذي يتسع ويجتمع عليه الجميع. وسطية الدولة امتدت إلى علاقاتها الأممية، وكان أمرًا طبيعيًا أن تتحول دولة الحضارة العربية الإسلامية إلى ملاذ للأقليات المضطهدة لدى الأمم الأخرى، فكان تجسيدًا لحقوق الإنسان قبل أن تولد وتدور مفرداتها على ألسنة المعاصرين.

المدرسة وأصحابها الذين تصدوا للأزمة، تحولوا إلى خلية نحل، يشيّدون صرح دولتهم، يستحدثون الفنون، ويقيمون المؤسسات، ويقتبسون التجارب، ويؤطرون المفاهيم قطعًا للطريق أمام أزمات المستقبل.

كان هناك إبداع وابتكار وتطوير عند كل أزمة جديدة، وكان افتضاح مؤامرة تزوير مصدر التشريع ممثلة بالحديث الشريف، بداية عهد المؤسسات في الدولة، فأعلنت حالة الطوارئ، وأقيمت نقاط التفتيش الثقافية، ودققت الهويات الشخصية [ما كنا نسأل عن الإسناد، فلما ظهرت الفتنة قلنا: سموا لنا رجالكم.. التابعي الجليل ابن سيرين]، وجرى مسح المجتمع، وشهد العالم ولادة أول قاعدة معلومات للأحوال الشخصية، والتحقيق في أمر كل زاعم لنقل الحديث. عرفت القاعدة باسم "الجرح والتعديل".

ثم شهد العالم ولادة علم آخر هو "طبقات الرجال"، عُدّ من روائع العلوم، وهو يدون سير أعلام الرجال كاملة من المهد إلى اللحد، مرورًا بالحالة العلمية والاجتماعية والمعيشية، وهو فن انفرد به أهل السنة بين المذاهب، وانفردت به حضارتهم العربية الإسلامية بين الحضارات.

وبعد أن اتسعت رقعة الدولة وترامت أطرافها، وشقت إدارة شئونها بالطرق التقليدية، اقتبست نظام الدواوين من المدنيات المجاورة، الروم والفرس.

 تسارعت التطورات، ومع تمدد الفارق الزمني بين الدولة وحقبة "عمل أهل المدينة" التي كانت مصدرًا للفقه الميداني على الشاكلة النبوية، أنشئت مؤسسة "أصول الفقه" التي وضعت قواعد الأحكام الفقهية، ونقلت الأجواء الفقهية "المدنية" إلى القرون اللاحقة بالصوت والصورة.

استمر الرواد في بناء مقومات دولتهم، فوضع علم البلاغة ليصون اللغة العربية التي هي مادة الإسلام، وكثرت رحلات طلب العلم والاستكشاف عبر القارات.

لعل أدق وصف لتلك الصروح، هو أنها المقاطع المتصلة التي كونت السياج الأمني الدائري الخارجي لأنظمة الدولة الواقي لها، وقشرتها الخارجية الصلبة لباطنها الرخو.

بكلمات قليلة: مناخ مفعم بالحياة، ورؤية ثاقبة.

انطلق ذلك الزخم في الحقبة الراشدة من دولة الحضارة العربية الإسلامية، وامتد طوال الحقبة الأموية، وحيزًا من الحقبة العباسية، ووصل ذروته في أواسط القرن الثالث الهجري.

يمكن القول: لقد شهدت تلك الحقبة تماهي مدرسة أهل السنة مع النظام السياسي للدولة، الذي أوجدته هي وأوجدها. أجواء التماهي هذه شكلت نقلة نفسية عريضة من بيئة الانطلاق المكية وظروف الأقلية والحرص والحذر والتأهب، إلى حقبة التمكن والاستقرار السياسي والاسترخاء، التي دانت لهم فيها شعوب الأرض، ونطقت بلسانهم، وتتلمذت في معاهدهم، وهو ما يمكن إدراجه تحت مقومات شخصية الأغلبية والتمكن، التي التصقت بالشخصية السنية وباتت حقيقة تاريخية ثابتة.

مناخ الحقبة الجديدة مثّل جوًا طبيعيًا لتآكل تدريجي لمقومات الشخصية المبكرة، ومع دخول دولة الحضارة العربية الإسلامية قرنها الرابع، كان الفتور قد نال من روح التنافس، والاسترخاء من التأهب.

لم تعد الأجواء خلية نحل، ودخل أهل السنة بشكل فعلي "أيديولوجية التواكل"، الفردي والجماعي، على الدولة ومؤسساتها، وهو طور لا يختلف فيه أهل السنة عن غيرهم من الأغلبيات، ما دام نسيجهم الفكري هو مادة الدولة بشكل عام، لتصبح هذه السمة ملازمة للشخصية السنية، ويظهر أثرها السلبي على الأداء السياسي فيما بعد، وتحديدًا بعد أن أبدلت الدولة نسيجها.

السمة الأخرى، هي في التكوين الفكري للأغلبية، فنجد مفهوم أهل السنة لرسالة الإسلام منصبًا على أصل الرسالة، الذي هو العلاقة بين الإنسان وخالقه، التي من أجلها خلق، ثم على نظام الحياة الذي أتت به الرسالة، واللذان يقتضيان وجود نظام سياسي يصون منظومة الرسالة ويوسع رقعتها ويذود عنها. 

 أي أن النظام السياسي خادم للمنظومة، وسيلة لا غاية، وما فعله أهل السنة المؤسسون في صدر دولتهم كان ممارسة سياسية لتصويب مسار عقدي وفقهي منحرف، والعودة بالمجتمع إلى الطيف الأوسط.

على هذا الأساس حددت الأولويات الفكرية في هذه المدرسة، وكان انشغال المؤسسة العلمية هو في أصل الرسالة، وهي الحالة الطبيعية التي عليها الحضارات في حقب الاستقرار، التي تتفوق فيها المؤسسات العلمية حجمًا وإنفاقًا على ما سواها، وتستقطب الطاقات والعقول، وتضمر فيها المؤسسات الأمنية. لكن هذه النسب تبقى عرضة للتغيير، وقد تنقلب في أوقات الخطر.

هذا المفهوم يوجد مقلوبًا أساسًا عند الأقليات، وفي هذه الأمة نراه مجسدًا عند الأقليات الباطنية (الشيعة)، حيث تقويض النظام السياسي للدولة هو الأصل، والمذهب هو احتجاج سياسي، ألحق به على عجالة نظام عقدي وآخر فقهي يسبغان عليه الصبغة الدينية، وينقلانه إلى الحياة اليومية للإنسان البسيط، حيث تتداخل السياسة بطقوس الاستغاثة والأدعية التي يمارسها الإنسان الشيعي البسيط، وتبقى روح الثأر والاستنفار النفسي قائمة تجاه محيط الأغلبية، فهما (أي العقيدة والفقه) وسيلتان لغاية.

 العجالة في تأسيس المذهب تظهر بجلاء في التناقضات الكثيرة التي يحملها النظامان الفقهي والعقدي، ويصبح من الطبيعي أن تتصدر الغاية (الاحتجاج السياسي) اهتمامات المذهب الأخرى.

هذا الفارق في الأداء والاستنفار الفكري والسياسي بين الأغلبية والأقليات، كانت قد سدت مسده دولة الحضارة العربية الإسلامية بالنسبة لأهل السنة. لكن تلك الدولة زالت، وبزوالها ارتدت المهام السياسية التي كانت تحملها - بتخصصاتها وتعقيداتها - دفعة واحدة على المؤسسة الدينية المثقلة أصلاً بالأزمات، مسببة اختلالاً في معادلة الحكم في الدولة، واختلالاً خطيرًا في الأداء السياسي. 

التداعيات الكارثية لزوال الدولة - التي نشهدها اليوم - كانت قد حدّت منها أو أرجأتها الحقبة الانتقالية الهشة التي شكلتها الدولة المدنية المعاصرة، إلى اللحظة التي سقطت فيها هذه الدولة - كما في العراق - ودخول المجتمع حقبة دولة الطوائف التي تلقي بظلالها الكثيفة على المنطقة.

يمكن القول: إن الشخصية السنية والدولة مكونان لسبيكة فاعلة ثنائية المعدن، انفصامها لا يعني تفريق خصائصها بالتساوي على المعدنين، وإنما ردهما عناصر أولية خاملة.

هذه الشخصية لا يمكن أن تبدع أو تنافس في أجواء الشللية والطائفية والكانتونات أو الفيدراليات التي تزدهر فيها الأقليات.

المسار الذي سلكه المؤسسون الأوائل، والشخصية الوسطية التي أسبغوها على أنفسهم وعلى نظامهم السياسي كانت أسباب حياة لدولة ثم حضارة، ولم يكن مصادفة أن أَخرجت هذه المدرسة - رغمًا عن نظريات الاجتماع - من عقم الفسيفسائيات العرقية حضارة متعددة الأعراق، هي على الجملة من أعظم ما قام على وجه الأرض، ومن الهشاشة الاجتماعية لمجتمع الأقليات سبيكة متماسكة فاعلة.

الجمع بين التقدم العلمي والتماسك السياسي والحذر الأمني الذي سارت عليه دولة الحضارة العربية الإسلامية، هو خلاصة ما توصلت إليه أمم القرن الواحد والعشرين وتنكب عليه ولكن بصيغ مختلفة، بدءًا برصد الهوية الثقافية والسياسية للفرد بطرق غاية في الدهاء، وانتهاءً بتتبع هواياته العامة، وحفظها بتقنية رقمية تلاحق صاحبها أينما حل وارتحل.

مازالت مؤسسات المؤسسون الأوائل تُدرس خارج إطار الأسباب الأيديولوجية التي دفعت باتجاهها، وبعيدًا كل البعد عن الأجواء النابضة التي نفذتها، ومازالت - هذه المؤسسات - عند الشاب المسلم البسيط وسيلة قربى إلى الله - وهي إن شاء الله كذلك - يغوص في فنونها، وهو أمر يعني المتخصصين، عوضًا عن أن يوجه هذا الشاب نحو دراسات عليا تضع تلك الصروح في قوالب معاصرة لخدمة ذات الغايات التي تتكرر اليوم.

أهل السنة اليوم أمام حقبة جديدة، فلا الدولة التاريخية عادت موجودة وحامية لهم، ولا الشللية الطائفية آوية لهم، ولا أجواؤها مناخًا لإبداعاتهم، ولا تراخي الأغلبية الموروثة يخدم واقعهم.

واهم من يظن أن بمقدور أهل السنة العيش بأجندات الغير، فهم وبخلاف الغير أمام مسئولية مزدوجة، خاصة وعامة، فهم وعاء الفسيفساء الكبير، وفي تعافيهم السياسي تعافٍ للأقليات التي عاشت في كنفهم قرونًا طويلة ومنجاة لهم وللجميع، وفي سقمهم السياسي، التشظي، وسيناريوهات الشللية والطائفية وحماماتها الدموية، والواقع شاهد على ذلك.

أما على الصعيد العالمي، فأهل السنة أمام مسئولية أممية، وهذا العالم لن يعرف الاستقرار والفراغ  السياسي يضرب سدس سكانه الذين يعيشون على رقعة جغرافية اسمها العالم الإسلامي.

أهل السنة اليوم جسد من دون رأس، يتعاملون مع تركتهم الحضارية الضخمة التي أدخلتهم نادي الأمم، كأدوات فقهية أو أكاديمية ليس إلا، خارج مناخها الأيديولوجي، فضلاً عن أن يضيفوا إليها، ولا عجب بعد ذلك ألا يستحثهم مناخهم الراهن، بكل محفزاته، إلى نفرة كنفرتهم الأولى، وجولة جديدة من الإعمار السياسي.

النخب الثقافية والعلمية والسياسية لأهل السنة مدعوة أمام التاريخ للنزول من أبراجها، وتبوء دور يليق بقدراتها الفكرية، يتناسب مع طبيعة الأزمة، يصوب المفاهيم، ويعدل البنية الفكرية بما يلائم الواقع جديد.

في البداية انتفضت الأمة لمواجهة خصم مشتط لكنه صدوق، واليوم تواجه خصمًا كذوبًا وإن صدق (الصفويون الجدد)، ولا يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها.

 

 

 

(*)  أزمة الخوارج في تكفير فاعل الكبيرة، والانطلاق منها لتغيير النظام السياسي



 

 



مقالات ذات صلة