إجحاف الإجراءات القانونية لإقامة الفلسطينيين في العراق
الاحتلال لا يأتِ بخير لأهل البلد المحتل وهذه من المسلمات ، وهذا الأمر بالطبع ينعكس على جميع الجاليات والمقيمين في ذلك البلد .
ولكن أن تقوم حكومة عراقية بمختلف أجهزتها ووزاراتها ومؤسساتها تدعي الإسلام والعروبة وأن مواقفها من القضية الفلسطينية ثابتة ولا تغيير فيها ؛ بإذلال وإهانة الفلسطيني الذي نشأ وتربى وترعرع في العراق منذ أكثر من خمسين عاما ، والتضييق عليه بمختلف مناحي الحياة ، لأنه الحلقة الأضعف في مقاييس العدد والعدة التي تسود المجتمع العراقي بعد الاحتلال .
ولو سلطنا الضوء ( بعيدا عن الخطف والقتل والاعتقال العشوائي ومختلف الإهانات اليومية التي يتعرض لها الفلسطيني في العراق ) على أكبر مشكلة وأعظم معضلة وأعقد حالة في معاناة كل لاجئ فلسطيني في العراق ألا وهي الاضطراب في الوضع القانوني ، والتخبط في التعامل مع الحالة الفلسطينية في ظل الأمواج المتلاطمة والمعترك السياسي في الظاهر المبني على اختلافات طائفية وعرقية ومصلحية .
من المفترض أن لا يرتبط الوجود الفلسطيني ( الذي جاء قسرا وقهرا إلى العراق ) بأي حكومة سلبا أو إيجابا ، ولكن الأزمات السياسية والصراعات الطائفية والإقليمية وكثرة الانقلابات وتعدد الحكومات واختلاف في الوجهات منذ الخمسينيات ؛ انعكس على فلسطينيي العراق كلٌ بحسب الأجندة المعلنة له وكيفية استغلال واستثمار القضية الفلسطينية لصالحه ولو إعلاميا .
فبعد احتلال العراق عام 2003 عمت الفوضى في البلاد بكل معانيها ، وأكل القوي الضعيف حتى كأننا بغابة مليئة بالوحوش والمحتل بطبيعة الحال مع من يخدم مصالحه في المنطقة ، وقلة عدد الفلسطينيين في العراق وعدم وجود جهة ذات سلطة تنفيذية أو حتى صلاحيات أخرى للوقوف والتعاطف معهم ، كل ذلك أدى لزيادة المعاناة .
بعد سقوط بغداد والنظام السابق جاءت لجنة تابعة لمفوضية اللاجئين الدولية وأجرت إحصائيات دقيقة للعوائل الفلسطينية ومنحتهم بطاقات بيضاء صغيرة لأجل المراجعة عليها ، وبعد عام تقريبا تم تسليم هذه البطاقات إلى مديرية الإقامة التابعة لوزارة الداخلية وإعطاء الفلسطيني إقامة لمدة ستة أشهر في حالة غريبة ومستهجنة لدى كل الفلسطينيين في العراق ، لأن أي إنسان يولد في أي بلد إما يُعطى إقامة دائمة أو يحمل جنسية ذلك البلد ولا يطالَب بتجديد إقامته كل مدة ؟!!! وكانت الإجراءات في حينها نوعا ما ميسرة رغم الاستهجان ؟!
وبعد أشهر بدأت حالات التضييق والإذلال والإهانة للفلسطيني في معاملات إثبات الإقامة ، وكأن المسألة مقصودة ولا علاقة لها بأمن العراق من الإرهابيين كما يزعمون !!
فبعد أن كانت الإقامة تعطى ( على وثيقة السفر العراقية التي أصدرتها الحكومة العراقية في ظل النظام السابق ) لمدة ستة أشهر أصبحت لمدة ثلاثة أشهر ثم شهر ثم لكل شهرين !! مع زيادة في الطلبات ودفع للغرامات التي أصبحت من باب الابتزاز والاستغلال للفلسطيني ، حتى أنّ وصل الغرامة يذهب به لشهداء الشرطة ، وكأنهم يقولون أنكم المسؤولون عن قتلهم ؟!! ناهيك عن حالة الذل والقهر التي تمارس من قبل موظفي الإقامة ، ولكي تتعرفوا على حجم المأساة لابد من بيان تفصيلي لما يجري للفلسطيني أثناء هذه العملية .
فالفلسطيني صاحب العائلة الذي قد ولد هو وأبناءه في العراق يجب عليه أن يراجع مديرية الإقامة كل شهرين ويأخذ معه زوجته وأولاده الكبار والصغار الطلاب وغيرهم الموظفين ومن عداهم ، المريض والمعاق حتى الطفل الرضيع بل حتى الشيخ الكبير الذي لا يقوى على الحركة ، ويحضروا معهم المستمسكات التالية :
- كتاب من وزارة الهجرة والمهجرين لإثبات الإقامة منذ عام 1948 وهذا يحتاج أسبوعين لاستحصاله .
- كتاب تأييد من المجلس البلدي التابع للمنطقة التي يسكن فيها ، ويحتاج مستمسكات أخرى للحصول على هذا الكتاب ويستغرق يومين أو يوم ناهيك عن والإهانة التي يتعرضون لها من قبل الموظف الذي يعطي هذا الكتاب .
- كتاب تأييد من المدارس مصدق من وزارة التربية إلى مديرية الإقامة بالنسبة للطلاب .
- كتاب تأييد من الدائرة بالنسبة للموظفين في دوائر الدولة .
- صورة من وثيقة السفر .
- صورة من هوية الإقامة .
- ثلاث صور شخصية لكل فرد حتى الأطفال .
وبعد إكمال جميع المتطلبات يذهب الفلسطيني مع عائلته في الصباح الباكر إلى مديرية الإقامة ويقف بالطابور الكبير لكي يأخذ ما يسمى بالختم الأحمر ، وتعتمد على الموظف المتواجد في هذه الغرفة وفي الغالب تتم العرقلة والتأخير لكي يضطر الفلسطيني من دفع مبلغ معين أو كارت موبايل لكي ينتهي من هذا الختم ، وهذا طبعا بعد أن يتم ملئ استمارة وطلب بتجديد الإقامة ، وفي كثير من الأحيان يكون هنالك عراقيل غير مبررة لمجرد التأخير واللعب بأعصاب المواطنين .
والذي ينتهي من هذا الختم سيء الصيت بعد ساعتين أو ثلاث يكون بألف خير ؟!!!
والقصص والمآسي في ذلك كثيرة ولكن على سبيل المثال لا الحصر ، يذكر أحدهم أنه في طابور الختم الأحمر وزوجته بجواره وعندما وصل إلى الموظف قال له : أين الأطفال ؟ أجابه بأنهم طلاب وفي المدارس ، فقال له : اذهب وأحضرهم إلى المديرية . وفي اليوم التالي جلب أطفاله الثلاثة وزوجته ووقف في الطابور ، ثم بعد الانتهاء ذهب للشباك الآخر ووقف بطابور أكبر من الأول وسرعان ما وصل إلى الموظف فقال له انتهى الدوام تعال غدا وهذه كلمة سائغة وسهلة جدا لدى الموظفين .
وفي اليوم التالي عاد مع زوجته وأطفاله ووقف بطابور جديد ، ثم خرج في هذا الوقت مدير الإقامة فقال له : هل يجب علينا أن نحضر أطفالنا وزوجتي كل يوم ؟!! فأجابه لا ؟!! وذهب إلى الموظفين فلم يجد أحدا ، ثم يقول هذا الفلسطيني أنه لحد الآن لم يتحصل على الإقامة بسبب هؤلاء الموظفين .
وبعد الانتهاء من الختم الأحمر بعد عناء ومشقة ، يذهب الفلسطيني للشباك الثاني لكي يقدم أوراقه ويتحصل على منة من مديرية الإقامة لكي يبقى مستمرا في معاناته لشهرين آخرين في العراق ، وهنا تبدأ مأساة جديدة حيث يسلم الفلسطيني أوراقه للموظف بعد طابور لأكثر من ساعة وينتظر لكي ينادي على اسمه ويستخرج له ثغرة أو يفتعل ذلك الموظف لعرقلة المعاملة أو لكي يضطر لدفع مبلغ معين أو كارت موبايل حتى تنتهي هذه المرحلة ، ومن المضحك المبكي أن أحدهم قال للموظف ذات يوم : عندما ذهبت قديما للولايات المتحدة لزيارة أحد أقربائي أعطوني ستة أشهر وأنا مولود في العراق وتعطوني شهرين ، ما هذا التناقض والإجحاف ؟!! وآخر أحرج الموظف يوما وقال له : في أي سنة تعدادك في العراق ؟!! فأجابه سنة 1957 ، فقال له الفلسطيني : أنا تعدادي منذ سنة 1948 فحار جوابا الموظف ، وقصص وغرائب وعجائب كثيرة جدا ، ولكن لا حياة لمن تنادي .
وإذا كان فلسطيني متزوج من عراقية كعدد غير قليل ، فكأنه ارتكب جريمة يعاقب عليها القانون ، غير الشتائم الإهانات التي يتلقاها ، حتى أن أحدهم قيل لزوجته : لماذا تزوجتي هذا الفلسطيني النجس وغيرها من الشتائم ؟!!! فأجابته : لم أجد أفضل منه ؟!!
ثم بعد ساعات طويلة أو قد لا ينادى على صاحب المعاملة في نفس اليوم ، يقال : أين فلان ابن فلان ؟!! فيأتي ، فيقال له : عليك غرامة ، عن كل شخص بالغ ( 10000 دينار عراقي ) أي ما يعادل ( سبع دولارات ) وهذه بسبب وجوده في العراق فوق المدة المقررة وهي شهرين فيدفع غرامة تذهب لعوائل شهداء الشرطة ؟!!!!!!! وكثير من العوائل الفلسطينية لم تذهب لحد الآن لعمل إجراءات الإقامة بسبب عدم قدرتها على دفع هذه الغرامات التي قد تصل لستين أو سبعين دولار ولا تملكها كثير من العوائل .
وبعد ذلك يذهب ليقف طابور جديد عند شباك دفع الغرامات ، وبعد عناء ومشقة يواجه الموظف ولا يمكن له تأشير معاملته وأخذ الغرامة إلا بعد أن يدفع مبلغ إضافي ( كرشوة ) ، وقد وصل حال هذا الموظف للجهات العليا المسؤولة فلم يتخذوا بحقه أي إجراء لأنه يدفع مبالغ طائلة لكي يبقى في هذا المكان ، وكذلك بقية الموظفين فإن قسم فلسطين يعتبر من الأقسام التي فيها دخل جيد جدا ، لأن معظم المعاملات التي يتم إنجازها هي من خلال المعارف ودفع الأموال والمحسوبيات المصلحية وهكذا ، وتكون على حساب المسكين والفقير الضعيف الذي لا حول له ولا قوة . لأن هذا النوع من التعامل لا يوجد في بقية الأقسام إلا الشيء القليل .
ما ذكرناه نزر يسير عن المعاناة الحقيقية والمأساة المضنية لإجراءات الإقامة الجائرة والتي يقصد منها بالدرجة الأساسية إذلال وإهانة الفلسطيني الذي له أصول وجذور في العراق ، لأنه كلما ذهب وفد ووساطة إلى وزارة الداخلية وشكوا إليهم الأحوال وأخبروهم بمقترحات ووسائل تخفف عن كاهل الفلسطيني وتضع حد لكل التجاوزات يزداد الأمر سوءا وكأنهم تأتيهم تعليمات بالتشديد عليه وتعقيد الإجراءات وهذا أمر ملموس من كل الفلسطينيين ؟!!! وبالتالي يظهر الموقف الواضح والجلي من القضية الفلسطينية لأن الفلسطيني في العراق جزء من هذه القضية ، وهو ضيف قديم على أهل العراق وليس له دخل بأي تكتل أو حكومة أو فئة معينة ، وليس الخبر كالمعاينة بطبيعة الحال .
فلماذا كل هذا الإجحاف والتجني ؟!! وماذا يُراد من الفلسطيني جراء ذلك ؟!! وما هي الأهداف والدوافع والمخططات التي تكاد به ؟!! وغيرها من الأسئلة التي تطرح نفسها وتستحوذ على أذهان ومخيلة كثير من الفلسطينيين مستهجنين ما يحصل لهم .
ثم هنالك قضية مهمة وهي الاضطراب الحقيقي في التعامل مع الوضع القانوني للفلسطيني ، فكل وزارة لها قوانين وأحكام تختلف عن الأخرى ، بل كل موظف ضمن وزارة الداخلية له صلاحيات حسب انطباعه وتوجهه ، وما أدل على ذلك من تصريح وزيرة الهجرة والمهجرين بضرورة ترحيل جميع الفلسطينيين !! فأتاها رد قوي وعنيف من قبل وزارة الخارجية بأن هذا تصريح غير مسؤول لما فيه من التبعات ، فلا يوجد شيء واضح وملموس ضمن قوانين ثابتة في مديرية الإقامة ، فبعض الأوقات تظهر قائمة باعتبار هؤلاء لاجئين سياسيين ، وبعدها يوجد إعلان لمراجعة أسماء معينة لأحد مراكز الشرطة ومن ضمنهم نساء ، وفي بعض الأوقات يطالب البعض بإحضار كفيل عراقي ، وتارة يقولون سنصدر لكم هويات ثم تلغى الفكرة ثم تعاد ثم تتوقف ، ثم يخبر البعض بوجود وثائق جديدة سيتم إصدارها في وقت قريب ، وهل تعلمون بوجود ما يقارب 2000 فلسطيني صدر بحقهم أمر الإبعاد ، لكن لا يعرفون ما مدى المردودات السلبية لو أرادوا تطبيق ذلك الأمر ، وأشياء كثيرة خفية وبعضها معلن يشيب لها الولدان ، حتى أصبح الفلسطيني لا يميز بين القرار الحكومي والتصرفات الشخصية وكل حسب الحزب أو التكتل الذي ينتمي إليه .
ففي الحقيقة أصبح الفلسطيني كالطفل الضائع التائه الذي لا يستطيع الوصول لبيته ، لما هو فيه من الحيرة والغموض لما يجري بحقه ، فعمليا الفلسطيني لا يعرف نفسه أهو لاجئ أم وافد أم مهجر أم لاجئ سياسي أم مقيم أم بدون ؟!!! والأخير هو الأقرب للواقع ، بل حتى باعتبار السلطة الفلسطينية فإنها لا تعتبر الفلسطيني في العراق فلسطيني من الدرجة الأولى ، والواقع يدل على ذلك .