د. محمد بن إبراهيم السعيدي
25-8-2014
في ليلة من عام ١٤٠٢ كنت في بلدة تربة الواقعة في الجنوب الشرقي من مدينة الطائف وكانت يومها تلتقط البث التلفزيوني بصعوبة شديدة عبر هوائيات ذاهبة في الأجواء، إلا أن رداءة الصورة والصوت آنذاك لم تحل بيننا وبين الألم الشديد لمشهد الفدائيين الفلسطينيين وهم يُحَمَّلون على شاحنات تنقلهم إلى الميناء حيث السفن المعدة لتأمين إجلائهم إلى مقرهم الجديد البعيد في تونس. كان ذهاب الفدائيين الفلسطينيين عن لبنان مطلباً لجميع الفرقاء ، الدولةِ اللبنانية والكيانِ الصهيوني وحركةِ أمل الشيعية وحزبِ الكتائب وغيرِهم ، وبعضهم كالجيش اللبناني لم يصرح بهذه الرغبة لأسباب سياسية إلا أن الكل ساد عندهم انطباع بأن رحيل المقاتلين الفلسطينيين سينتج عنه انتهاء الحرب الأهلية اللبنانية لكن لبنان لم تزدد بعد رحيلهم إلا ألما وفرقة وخوفا .
وأذكر أنني نظمت قصيدة يتناسب مستواها الفني مع مبلغي من العمر وقتها أُعبِّرُ فيها عن ألمي لهذا الإجلاء الظالم ، قلت في مطلعها هل ستهنا لبنان بالعيش يوما بعد إخراجكم على الرغم ظلما. وجاءت الأيام والليال بجواب السؤال الذي استهللتُ به تلك القصيدة فلم تنته الحرب اللبنانية برحيل المقاومة الفلسطينية ، ولم تكتف إسرائيل بهذا الثمن لتترك لبنان في حالها ، والكل يعرف جيداً بقية قصة لبنان مع الصهاينة وعملائهم حتى يومنا هذا.
ولن يغيب عن البال أن رحيل المقاومة الفلسطينية آن ذاك كان بتكالب صهيوني شيعي وتواطؤ ماروني ، وذلك بالرغم من أن الفلسطينيين لم يكونوا يقومون من لبنان بعمليات ذات بال ضد الصهاينة ولم يتسببوا بأي إزعاج لحركة أمل الشيعية ، ومع ذلك فقد بدأت من هناك قصة التأمر الشيعي -أمل والجيش السوري النصيري - ضد السنة ممثلين في سكان المخيمات الفلسطينية.
نعم :عَرَفَ العقلاءُ منذ ذلك الوقت أن تلك كانت بداية المؤامرة ولعله لا زال يَعْلَقُ في ذاكرة البعض حصارُ ومذبحةُ تلِ الزعتر وعين الحلوة وبعدها مذابح مخيمات الفلسطينيين في صبرا وشاتيلا وبرج البراجنة والتي نَفَّذ جميعَها حركةُ أمل واللواء السادس من الجيش اللبناني ذي الغالبية الشيعية ثم تُوِّج ذلك في عام ١٤٠٢ بالاجتياح الصهيوني الشاروني للبنان والذي لم يقاومه شيعة الجنوب، متجهاً إلى بيروت الغربية حيث تم حصارها وقصفها بما فيها من لبنانيين سنة وفلسطينيين ، وكان القصف مُرَوِّعاً بكل ما تعنيه الكلمة فقد قُصِفَت بيروت السنية لمدة ثلاثة أيام بما يقارب ٢١٤ قذيفة في الدقيقة براً وجواً وبحراً، وتوقفت المأساة قليلاً بجلاء منظمة التحرير الفلسطينية بكامل قواتها من لبنان بعد مطالبات حثيثة من الشيعة والدروز يساندهم الجيش الأسدي الذي كان يقطن في لبنان بقوة قوامها ثلاثين ألفاً ، لم تنطلق من جنوده حينها رصاصة واحدة ضد الصهاينة ، بحجة أن سوريا دخلت لبنان لإنهاء الحرب الأهلية لا لقتال إسرائيل كما يسمونها.
المهم أن الفلسطينيين قُتٍلوا في الحرب الأهلية اللبنانية وأُجْلِيَتْ قُواتهم بأيدي اليهود وشيعة لبنان وموارنتها ودروزها وفي حماية ورعاية الجيش الأسدي النصيري ، وهم اليوم يُقتلون في الحرب الأهلية السورية فها هو الجيش الأسدي حاصر مخيم اليرموك مع يقينه أن ليس لهم في هذه الثورة ناقة ولا جمل ، ولكنه الحلف الباطني اليهودي ، وكأنما قيل له من حلقائه :بما أنك ستقتل شعبك فخذ هؤلاء الفلسطينيين على طريقك .
نعود إلى لبنان فبالرغم من إجلائهم للمقاومة الفلسطينية وقتلهم لسكان المخيمات لم تنته مآسي لبنان حتى اليوم ، وقد زعموا ذلك الحين أن مأساة لبنان مرهونٌ بقاؤها أو اضمحلالها ببقاء الفلسطينيين أو اضمحلالهم.
من أقصى الشمال العربي، لبنان ، إلى أقصى الجنوب العربي ، اليمن ، ومن عام ١٤٠٢ إلى عام ١٤٣٥ لم يتغير من القصة سوى الشخوص والزمان والمكان أما التجربة أو ما يسميه الروائيون الحبكة فالقضية واحدة.
ولو عرضنا القصتين على ناقد روائي أو كاتب سينمائي [سينارست] لأضافا لنا من عناصر الاختلاف ما يسميه النقاد بالجو الروائي ، فالقصة الأولى في لبنان تُمَثِّلُ بداية تنفيذ المخطط الشيعي الصفوي بكل ما تحمله البدايات العسكرية للمشاريع العنصرية الطائفية من عنف وقلق وتخبط ونفاق .
أما القصة الثانية في اليمن فتُصَوِّرُ المشروع الشيعي الصفوي بعد اتضاح رؤيته وتحقيقه العديد من النجاحات واستغنائه عن المواربة في كثير من قضاياه وليس في كلِّها. على شاحنات شبيهة بالشاحنات التي أقلت المقاومين الفلسطينيين ركب سكانُ دمَّاج ، لكن ذلك لم يكن بعد اجتياح مخيماتهم وإقامة المذابح فيهم ، بل بعد صمودهم التاريخي أمام الغدر الرافضي والتواطؤ الحكومي اليمني والعجز القبائلي والتشتت السني وضياع الحيلة من الجار السعودي.
وقف أهل دماج لم ينخدعوا بأي كذبة رافضية ولم يفتت في أعضادهم كلُّ الضعف الذي رأوه ممن يُفْتَرَض فيهم مساندتهم ، إلا أن الحصار والتجويع والقتل والخذلان عِلَلٌ إذا تضافرت قد يكون الصبر عليها ضرباً من الهلكة ، آثر معه الشيخ الحجوري قائدُ دمَّاج أن ينزل على حُكمٍ جائر من رجلٍ كان الأصل فيه أن يكون مُتَولياً لحمايته وهو رئيس اليمن ، إلا أن هذا الرئيس في حقيقة أمره مرؤوسٌ ليس له أمرٌ على جيشه ولا شيوخ قبائله بل ليس له كلمة مسموعة عند وزرائه ، لذلك لم يَعْدِل في الرعية ولم يظلم بالسوية ، بل حكم بما عرفه الناس من وسائل الإعلام وأنزل أهل دماج على ما يعجزُ عن الوفاء به من الوعود فلم يحصلوا منه على حكم عادل ولا وعد صادق ، ومن عَجِزَ عن العدلِ في الحكم فأولى أن لا يصدق في الوعد، فصدقُ الوعد وصفٌ لا يستطيعه الضعيف العاجز .
شَبَهٌ كبير يبدو لي بين المخيمات الفلسطينية التي عاث فيها شيعة لبنان قتلاً وحرقاً وبين مدرسة دماج وقريتها . فسكان المخيمات آنذاك لم يكونوا يُشكلون خطراًعسكرياً على الصهاينة والشيعة والمارونيين . وكذلك طلاب دمَّاج لم يكونوا يُشَكِّلون خطراً عسكرياً على الحوثيين ولا على الأحزاب السياسية ولا على المشروع الأمريكي هناك. لكن وجود الفلسطينيين وفدائييهم في لبنان يمثِّلُ روحاً نابضة لفكرة العودة التي تحتاج إزالتها من قلوب الفلسطينيين وأذهانهم إلى استئصال أّلِيم ليُزرع في مكانها من صدورهم اليأس والقنوط والاستسلام الخانع للمجهول .
وبقاء دماج كجزيرة سلفية في بحرٍ حوثي سيبقى روحاً نابضة لفكرةِ مفارقةِ البدعة والعودةِ إلى الإسلام الصحيح ، وهي الفكرة الأعظم خطراً على المشروع الحوثي الصفوي الذي لا أجدني قادراً على الشك في كونه مستضلاً بالقبعة الأمريكية. وكما خَدَعَ السياسيون أنفسهم قبل ثلاثة عقود بأن حرب لبنان ستنتهي بذهاب المقاومة الفلسطينية ، خدع السياسيون أنفسهم بأن الاضطراب في اليمن سينتهي بإيقاع الظلم على أهل دماج ، وهيهات هيهات ، فالبغي مرتعه وخيم .
فمعاناة اليمن من الحوثيين لم تنته بدماج ، بل لنقل إنها بدأت على الحقيقة عندها ، وإن لم تبدأ بها كما بدأت في لبنان عند خروج المقاومة الفلسطينية ولم تبدأ بها . وليس العجيب أن يُخَادِعَ السياسيون أنفسهم فهذا الأمر كثيرٌ جداً فيهم ، لكن العجيب أن يُصَدِّقوا هم كِذبتهم على أنفسهم ويعملوا بموجبها وهم يعرفون متى كذبوها ولماذا فعلوا ذلك.
فكذبتهم هذه كان يُرَادُ منها أن تُنْسِيَ الجميعَ فشلَهم وفضيحتهم وانتكاستهم في ذلك المشهد الذي سبق التفاتَ الحوثيين إلى دماج وهو مشهدٌ غريب جداً ، وإن لم يستغربه أحدٌ في حينه ، بل شجعوه وفرحوا به ، أعني التحالف الإصلاحي ( الإخوان المسلمون في اليمن) الاشتراكي الحوثي ، لإسقاط الرئيس علي عبد الله صالح ، ضمن الثورة التي قالوا عنها آنذاك إنها شعبية ، وحقيقتها غير ذلك بكثير ، هذا الحلف الذي لا أستطيع أن أصفه بأقل من كونه غبياً كان أسخفَ ما وصل إليه الفكر السياسي اليمني في تاريخه المعاصر.
فعلي عبد الله صالح وإن لم يكن صالحاً ولا مُصْلِحَاً ، إلا أن التوازنات السياسية اليمنية حينها لم تكن مؤذِنَة بثورةٍ تحمل أدنى مؤهلات النجاح ، لأن أجنحة الحلف التي تعاضدت في حمل الثورة لم يكن أحدها على استعداد أن يُسَلِّم للآخر فيما لو أُطيح بالرئيس صالح بالطريقة نفسها التي أطيح فيها بمبارك في مصر ، ولم يكن أحدٌ على استعداد أن يُسَلِّم البلد للعسكر كما حصل في مصر ، بل إن العسكر في اليمن ليست لديه القدرة ليُدير البلاد فيما لو سقط الرئيس كما كان من المجلس العسكري المصري ، وليس ذلك لقصور في ذوات القيادات العسكرية اليمنية لكن الشأن في اختلاف ظروف البلدين اختلافاً كليا ، ومع هذا الاختلاف الكلي ، ومع يقيني بعلم الجميع به ، إلا أنهم تناسوه وأصروا على التحالف في ثورةٍ يعلم الجميع أو لا يعلمون أنه لن يستفيد منها إلا طرفٌ واحد وهو الحوثي .
فهو الطرف الذي كان قبلها منبوذاً شعبياً ، مُحَرَّجاً عليه دينيا ، مُحَارَبَاً بل مهزوماً عسكرياً في كل الحروب التي خاضها مع الدولة ومع الأحزاب السياسية ، وكان يُعَدُّ من العيبِ بل العارِ مجالسةُ قياداته وممثليه والتحاورُ معهم ، وكان الصحفيون الذين يعملون لحسابه مكشوفين فاقدي الصِّدقية عند الجميع ، وكان أتباع الحوثي قبل التحالف معه في الثورة يُوَصَّفُون قانوناً بأنهم مجرمون خارجون على نظام الدولة ، مغتصبون لبلاد الناس وأملاكهم ، مُخْرِجُون للعباد من أراضيهم ، لم يكن أحدٌ من المواطنين يُنَازِعُ في كون هذه الصفات متحققةً في الحوثيين مُصحِّحة للقول بقتالهم وأنه الوسيلة الأجدى لكف أذاهم . لكن التحالف معهم في الثورة ، قَلَبَ كُلَّ المعاني التي قيلت فيهم إلى ضدها ، فهم جزء من الأمة ومُكَوِّنٌ أصيل من مكوناتها ، وهم دُعاة للتغيير ، وشُركاء في العمل الاجتماعي والشعبي والسياسي ، وأصحاب شعار حقيقي . تَغَيَّرت تلك المعاني إلى ضدها مع أن الحوثي لم يُغيِّر شيئاً مما بدَّلَه على الأرض ، فعُتَيَّاه هي عُتَيَّاه فكراً وإعلاماً وواقعاً على الأرض .
هذا الحِلْف هو الذي كسر الحاجز بين الناس وبين الحوثيين ، فمن بعده نشط الحوثي في استقطاب الشباب والإعلاميين والسياسيين وشيوخ القبائل ، ولسان حال كلٍ منهم يقول : ومن أين يأتيني الملام في الانضمام إلى حليفٍ في الثورة وشريك في السياسة .
من هُنا التفت الحوثي إلى أبعد التوجهات الدينية في اليمن عن الانخداع بشعاره وأشدها قولاً في بطلان معتقده ، وأقواها عبارة في تحريم التحالف معه وهي المدرسة السلفية في دماج ، فأراد ضربها ليضرب المنارة العقدية التي تبعث عداوته في النفوس كلما خبت ، وتُذَكِّرُ بألوان خديعته كلما انطلت.
وقد تحقق الحُوثي من خلال غزوِه الآثم لدماج من أمرين مهمين له: أولهما: صِدْقُ حلفائه في الثورة معه ، فقد بلغ من صدقهم أن أعطوه مالم يطلبه منهم ، فلم ينبس الإصلاحيون ببنت شفة إدانة للحوثيين وجرائمهم في دماج ، فضلاً عن أن يقاتلوا دفاعاً عن أهل دماج ، بل حتى قيادات الجيش اليمني المتعاطفة مع الإصلاحيين لم تُحَدِّث نفسها بالقيام بواجبها العملي فضلاً عن الديني في الوقوف في وجه المجرم وفرض سيطرتها على الأرض.
الآخر : أن انتهاكاته في دماج لا تعني المنظمات الحقوقية العالمية في شئ ولا تُشكِّل لدى الأمم المتحدة عائقاً يحول بينها وبين مجاملته ودعمه المعنوي ، وأن الطلاب البريطانيين والروس والفرنسيين الموجودين في مدرسة دماج لا يهمون بلدانهم في شئ وربما اعتبرت بلدانهم الحوثي صاحب فضلٍ عليها لو تخلص منهم بالقتل .
بل قد بلغ حجم التواطؤ الإخواني معه أن قناة الجزيرة القطرية التي تُحْسَبُ داعمةً للمواقف الإخوانية بشكل عام ظلت ما يزيد عن الشهر لا تتحدث عن هذه الأزمة مطلقاً ، وحينما تحدثت كان ضيفها للحديث عن الأزمة من أسمته الناطق الرسمي باسم الحوثيين محمد عبد السلام ، ولا جرم فقناة الجزيرة من قبل وفي أثناء الحرب السادسة والتي تسبب بها العدوان الحوثي على أراضي المملكة العربية السعودية كانت بمثابة قناة حوثية لا تتورع حتى عن نشر الأكاذيب كدعوى استخدام السعودية للقنابل الفسفورية .
أما قناة العربية فقد كانت عنايتها بالحدث أقل بكثير من حجمه ، مع أنها قامت بتغطية ميدانية لجزء من نشاطات القبائل اليمنية ضد الحوثي في برنامج صناعة الموت .
وهذه الجولة الحوثية ضد دماج بالرغم من فشلها وهزيمة الحوثي فيها هزيمةً منكرة كما يعلم الجميع ومما يؤسف له أن الحصار انتهى بترتيب سعودي وليس يمنياً محضاً، إلا أن هذه الهزيمة اخْتَبَرت للحوثي نقاط قوته التي اكتسبها بعد الثورة على علي عبد الله صالح ، والمتمثلة فيما يلي :
١- انكسار الحاجز بعد الثورة بين الحوثي وبين القيادات اليمنية قاطبة ، فهو لم يعد مجرماً ولم يعد من يتعامل معه متعاملاً مع مجرم ، فهاهم أقطاب الثورة من الإصلاحيين وبعض الأحزاب السلفية والاشتركيين والوطنيين يعتبرونه شريكاً في ثورتهم وفي الحوار المشترك ولا يقضون أمراً دونه.
٢- أن جميع القوى المنافسه له ليس لها رؤية ولا استراتيجية مستقبلية وليست في وارد تحديد حسم الموقف منه .
٣- كل القوى المنافسة له تخشى من بعضها ، ومنها من هي على استعداد للتحالف معه ضد بعضها .
٤- القواعد الشعبية للقوى المنافسه للحوثي ليست طَيِّعة ولا سهلة الانقياد لزعاماتها .
٥- لا تحضى أيٌ من هذه القوى بدعم خارجي ، وذلك بعد أن فشلت الأحزاب السلفية والتجمعات القبلية في إقناع الجار السعودي بقُدرتها على التصدي للمشروع الحوثي ،
وهذا الفشل جاء نتيجة عوامل من أبرزها : اعتماد القوى التي تَوَاصَلَ ممثلوها مع المملكة العربية السعودية على الوشاية ببعضهم ، فلا تكاد ترى زعيماً قبلياً مثلاً إلا ويجعل جزءً من حديثه لدى اللجنة الخاصة المكلفة بالشأن اليمني منصباً على التحذير من الزعماء الآخرين ، هذا مضافاً إلى اكتشاف السعوديين لعدد من الخيانات المالية لدى بعض هؤلاء الزعماء ، كما اكتشف السعوديون من بعض هذه الزعامات محاولات للعمل المزدوج مع السعودية وخصومها ، وعدد آخر لا بأس به من هذه الزعامات لم يستطيعوا حفظ ألسنتهم حتى في مجالسهم داخل السعودية مما اكتشفت معه السلطات السعودية زيف دعاويهم .
عاملٌ آخر من عوامل فشل القوى القبلية والدينية في إقناع جارها السعودي : أن السعودية اعتمدت منهج التعامل مع الزعامات القبلية منذ عهد ما بعد الرئيس عبد الله السلال ، وكان ذلك المنهج ناجحاً في تلك الظروف والعقود الثلاثة التي تلتها ، إلا أن الشعب اليمني تغير كثيراً ولم تعد الزعامات القبلية تعني له كثيراً ، وكان على المملكة أن تدرك هذا التغير منذ الغزو العراقي للكويت ، حيث عجزت الزعامات التقليدية عن إحداث أي تغيير في الموقف اليمني لصالحها ، بل إن الشعب اليمني وقف مع الزعامات الفكرية اليمنية مؤيداً لموقف الحكومة.
٦- أن المجتمع الدولي لن يمانع في أي انتهاكات لحقوق الإنسان ما دامت ضد السلفيين .
٧- أن تنظيم القاعدة ليس عدواً للحوثيين وليس على استعداد أن يخوض أي معركة معه.
كل هذه الحقائق أصبح الحوثي على يقين منها بعد حصاره الأول لدماج ، لذلك نَفَّذَ فعلاً الرفع الجزئي لحصار دماج وهو يُعِدُّ لإعادة الكَرة مرة أخرى على هذه المدرسة بعد أن يقضي على تجمعات القبائل التي قامت ضده إثر حصاره لدماج ، ومن أبرز هذه التجمعات:
١- تجمع عاهم
٢- تجمع كتاف
٣- تجمع قبائل الجوف وقد كان تجمع كتاف هو السند الأكبر لمدرسة دماج فما أن فرغ الحوثي منه حتى التفت للمدرسة واستطاع أن يجعل دولة الثورة التي كان شريكاً في صناعتها تساهم في التفاوض بالنيابة عنه كي يخرج أهل دماج منها مُقَدِّمَةً لهم كل الضمانات والبدائل الكاذبة.
ولم يقف الإصلاحيون مع أيٍ من هذه التجمعات ، مع أن قياداتها كانت تطلب من الإصلاح الوقوف معهم ، وكذلك كبار بيوتات المشيخة القبلية.
أما الأحزاب والمؤسسات السلفية فكلها دون استثناء دعت لمناصرة هذه التجمعات ضد الحوثي وخرج منها متطوعون للمساندة في مواقف القتال ، ولكن العجز الإعلامي للسلفيين قاطبة في اليمن كان من أسباب عدم قدرتهم على الحشد البشري إضافةً إلى انعدام الإمكانات المادية .
بعد القضاء على أقوى المنابر العقدية مناوأةً للفكر الحوثي الصفوي ، وبعد انفضاض جبهة كتاف لم يعتن الحوثيون كثيراً باستئصال جبهة عاهم ، وهي أضعف الجبهات من حيث العتاد والعدة وأقربها تأثراً بمدرسة دماج في شدة مناوأة الفكر الصفوي الحوثي ، والتي يتلخص أعظم نجاحاتها في قدرتها على الحيلولة بين الحوثي وحلمه في السيطرة على ميناء ميدي على البحر الأحمر ، كما لم يعتنوا - أي : الحوثيين- بالاستمرار في المواجهات في الجوف أكثر الجبهات عتاداً وعُدة ، بل رأى الحوثيون الانشغال أكثر باستثمار مكاسبهم من الثورة والتي أبرزها كما قدمنا كسر الحاجز المعنوي بينهم وبين الناس ، فاستحدثوا عمالات وولاءات لهم من قطاعات قبلية وحزبية لم يكونوا يأملون في مثلها من قبل ، وهي التي كما يقول اليمنيون مكنتهم من تحصيل الانتصار على أكبر زعامة قبلية وهم بيت الأحمر وانتهاك حرمة قصرهم في مخالفة غير مستغربة من الحوثيين لأخلاق الحروب ومكارم المحاربين ، كما انتصروا على الجيش الذي تسبب تحالف القوى السياسية مع الحوثيين أثناء الثورة وخصوصاً الإسلامية منها وأبرزها الإصلاح ،
أقول : تسبب هذا التحالف في فقدان الجيش العقيدة القتالية ضد الحوثي.
انتصر الحوثي أيضا بعد التفاتته نحو الجنوب على حزب الإصلاح بعد أن أصبح هذا الحزب عاجزاً عن حشد القوى ضد الحوثي ، وكيف يمكنه أن ينجح في حشد الجماهير ضد الحوثي والجماهير لم تنس بعد أن الاتجاهين كانا حليفين في الثورة على الرئيس صالح ، وقبل ذلك لم تنس الجماهير مواقف الإصلاح المتخاذلة من الحوثيين ابتداء بالحرب الأولى وانتهاء بحصار دمجاج للمرة الأولى والثانية(١)فشعار الجهاد الذي رفعه حزب الإصلاح ضد الحوثي في حرب عمران لم يحرك أحداً ، لأنه ببساطة رُفِع متأخراً. استولى الحوثي على محافظة عمران وأصبح على مشارف العاصمة وهدد بدخولها قبل أكثر من شهر ، وهو يُعاود تهديدها الآن ، ولا أظن مانعاً يمنعهم من اجتياحها سوى المجتمع الدولي الذي تعبر عنه الأمم المتحدة حيث سيقع في حرج كبير لو استولى الحوثيون على العاصمة ، إذ لا يمكنه الاعتراف بسيادة جماعة متمردة في أي مكان من العالم على عاصمة الدولة ، لذلك جاء الطلب عاجلاً من الأمم المتحدة للحوثيين بمغادرة عمران .
وهذا يذكرنا بصمت الأمم المتحدة عن استيلاء سعد حداد ومِنْ بعده أنطوان لحد على جزء من جنوب لبنان ، ثم الصمت على ما يعرف بحزب الله واستيلائه على الجنوب منذ الثمانينات الميلادية حتى اليوم ، لكن المجتمع الدولي لم يسمح له بالمكوث في بيروت رغم اجتياحه لها عام ١٤٢٨ بغطاء من الكيان الصهيوني .
وقد يكرر الحوثي التجربة ويجتاح صنعاء ، ولكنه اجتياح سيكون مؤقتاً ولن يدوم طويلاً .
والسؤال الذي يُهِم اليمنيين اليوم : ما هو مستقبل الحوثي في اليمن ؟
والجواب : عن ذلك لا يستطيعه سوى اليمنيين القادرين وحدهم على تحديد مستقبلهم مع الحوثي كي نستطيع التنبؤ بمستقبله في بلادهم .
لدى اليمنيين مشكلة كبرى في التصورات هي في تقديري سبب رئيس في كثير من مشكلات اليمن السياسية والاقتصادية والتنموية ، هذي المشكلة لازمتهم وحتى الآن ، منذ وفاة الرئيس المصري جمال عبدالناصر مطلع التسعينات من القرن الهجري الماضي ، ألا وهي تصور القيادات السياسية والقبائلية والفكرية بمختلِف توجهاتها :أن الحل في كل ما يواجه اليمن يوجد في الصيدلية السعودية فقط ، و أن كل مصائب اليمن إنما هي بسبب السعودية ، لذلك لا يمكنك أن تجلس مجلساً يتحدث اليمنيون فيه عن حاضرهم ومستقبلهم إلا وتجد السعودية حاضرة في نقاشهم كسبب رئيس للفشل الماثل أو أداة منتظرة للمستقبل المأمول .
وكلٌ يتعامل مع هذا الوهم بطريقته الخاصة .
بقاء هذا التصور ماثلاً في الذهنية اليمنية أوقف عجلة التفكير في الإمكانات الذاتية والمقدرات اليمنية بشكل جعل اليمنيين بين شخصياتٍ اعتبارية ومؤسسات رسمية عاجزين عن التفكير بالمستقبل بشكل مُثمر لأن أي تفكير من هذا النوع يجب أن يضع السعودية أمامه عائقاً وحلاً في الوقت نفسه ، دون أن يكون لديهم أي حقيقة علمية ناشئة عن دراسة وسبر واستقراء لحقيقة وضع السعودية بالنسبة لحاضر اليمن ومستقبله .
بل إن هذا التصور الخاطئ كون جواً مناسباً لترويج الأكاذيب وزرع الأحقاد يستفيد منه مشايخ القبائل والسياسيون والمسؤولون اليمنيون الذين ما فتئوا يعلقون على مشجب السعودية كل مآسي فشلهم أو فسادهم .
ظاهرة الحوثيين في اليمن كانت ثمرة زراعة إيرانية وتعاطٍ انتهازيٍ ابتزازيٍ من صانع القرار اليمني ،لم يغب عن التغافل الحزبي لاسيما الإسلامي الذي كان يفتش في هذه الظاهرة عمَّا يمكن أن يستفيد منه ، ولم يكن للسعودية أي دور في صناعتها ، ومع ذلك كانت السعودية هي الجهة الاولى التي تَوَجه نحوها كلُ من سكتوا عن التمدد الحوثي أو أعانوا عليه يُطالبونها بالمساعدة في القضاء عليه ، بحجة أنها هي المستهدفة من صناعته .
وهي حجة صحيحة فالدعم الإيراني غير المحدود لهذه الجماعة لم يكن ليكون لولا أن اليمن تقع جنوب المملكة العربية السعودية ، وتريد إيران من هذه الجماعة أن تصنع في السعودية ما يصنعه ما يُعرف بحزب الله في لبنان ، لكن هذه الحجة ذاتها هي أحدى الحسابات التي جعلت اليمن مُمَثَّلَة في رئيسها السابق وكثير من مشايخ القبائل والأحزاب اليمنية تتراخى في صنع التدابير الواقية من التمدد الحوثي ، اعتماداً على الجار السعودي من بعضهم ، ونكاية في هذا الجار وابتزازاً له لدى البعض الآخر .
وحتى الحروب الستة التي خاضها الجيش اليمني ضد الحوثيين كانت تنتهي إلى حدٍ يضمن للحكومة بقاء قدرتها على استخدام الحوثيين ورقةً ضغط تلعب بها داخلياً ، لمواجهة الإخوان المسلمين والسلفيين والاشتراكيين والقبائليين ، وخارجياً لابتزاز الجار السعودي والضغط عليه.
وكذلك الأحزاب السياسية اليمنية استغلت حروب الجيش ضد الحوثيين لتشويه سمعة الحكومة بوصفها دولة تحارب شعبها ، ولم تقف هذه الأحزاب موقف المُعَضِّد للجيش.
حتى التجمع اليمني للإصلاح والذي يزعم أنصاره أنه شارك في الحروب الخمسة الأول يُفَنٍّدُ كثيرٌ من اليمنيين دعاواهم ويذكرون أن إعلام الإصلاح يستغل اسم الجنرال علي محسن الأحمر واشتهار تعاطفه مع الإصلاح في نسبة تلك الحروب إليهم ، ويقولون إن الحقيقة غير ذلك .
وكذلك الكثير من مشايخ القبائل اليمنيين حاولوا استغلال الحوثي فرصة للإثراء الشخصي حيث تقاطروا على المؤسسات السعودية يطلبون منهم الدعم ، وكلٌ منهم يزعم أنه هو هو وأنه وحده من يستطيع إيقاف الحوثي عند حده ، ومما يؤسف له أن دعاوى عدد من هؤلاء المشايخ قُوبلت في السعودية بالتصديق وتم تقديم مبالغ مالية لهم ، لكن سرعان ما اكتشف السعوديون أن عدداً من هؤلاء المشايخ احتجنوا المال لأنفسهم دون ان يصنعوا به شيئا ، والإشكال الأكبر أن هؤلاء الخونة أثَّرُوا سلباً على غيرهم من المخلصين مما ادى إلى توقف المسؤول السعودي عن دعم الكل تقريباً ، وكل ذلك بسبب أعمال الوشاية التي يقوم بها اليمنيون ضد بعضهم في السعودية مما شكك المسؤول السعودي في الجميع وأقنعه أن اليمنيين يصعب حالياً التعامل معهم .
وأنا مع هذا أتصور أن السعودية غير معذورة في تقصيرها في فهم الجانب اليمني فهما جديداً يتم من خلاله تحديد الجهات التي ينبغي دعمها ووضع آلية لمحاسبة تلك الجهات، لكن ينبغي أن لا يقع في خلد اليمنيين أبداً أن دولة أخرى يجب أن تكون مسؤولة عمَّا يدور داخل بلادهم حتى ولو كانت بحجم السعودية .
المهم من كل ذلك : أن الحوثيين لم يكونوا ليكونوا كما هم الآن لولا الحبال اليمنية الكثيرة التي مُدَّت لهم من جميع الأطراف بمقاصد شتى ، ولن يستطيع اليمن أن ينقذ نفسه من وبال الحوثيين مالم يقطع هذه الحبال .
أما إذا استمرت الأطراف اليمنية في تقاذف التهم فيما بينها وفي النهاية إلقاؤها في الملعب السعودي فسوف تخسر كل شئ ، وفي نهاية المطاف سيكون إعلان الحوثي لمملكته حقيقة لا خيالاً .
اليوم نجد القُوَى اليمنية تتهم السعودية بدعم الحوثي وتُشيع ذلك بشكل كبير جداً ، وحين تبحث في أسانيدهم لهذه التهمة لا تجد أقوال مرسلة دون زمام أو خطام ، ومع أن إشاعة هذه التهمة ضارة على المدى البعيد بالقوى اليمنية التي تتعمد إشاعتها إلا أنها تجد فيها ملجأً تتخذه عذراً أمام هزيمتها المرة أمام الحوثيين ، لكن هل سينفعها هذا الاعتذار حين ينجح الحوثي في تكوين مملكته .
هذه الأيام تدور رحى حرب ضروس بين قبائل الجوف والجيش من جهة وبين الحوثيين من جهة أخرى ، ويمكن أن يكون في هذه الحرب القضاء المبرم على الحوثيين لو تم دعم الجوف من قِبَل سائر وحدات الجيش وقبائل اليمن الأخرى ، لكن المتتبع للأخبار لا يجد إلا اليسير مما يثلج الصدر من أنباء كهذه. كما يحشد الحوثيون خيامهم على تخوم صنعاء وبدلا من أن تصلح الحكومة علاقاتها مع سائر القوى اليمنية وتبادلها تلك القوى هذا الإصلاح بالمثل للوقوف صفاً واحداً ضد هذا التمرد الغاشم ، بدلاً من ذلك تقدم الحكومة للحوثيين التنازلات وترسل الوفود والوساطات وكأنما حكومة اليمن في صعدة وليست في صنعاء.
أنتهي من هذا المقال بت لقول : إن القضاء على الحوثي ككيان عسكري يجب أن يكون أولوية عاجلة لدى اليمنيين ، وأي انتظار لدعم سعودي أو خليجي للقضاء على الحوثي قبل إنشاء صف واحد ضد هذا الكيان لن يكون في صالح اليمن .
المصدر : المصريون