جهاد بشير
تنساق العديد من الصحف والآراء والتحليلات الراصدة للأحداث؛ وراء موجة يُراد لها أن ترتفع أكثر في المشهد العراقي؛ وهي ذات غايات متعددة الأوجه والصفات، وللإرادات التي تتحكم بسريانها مقاصد متنوعة على صعد سياسية وأمنية واقتصادية.. والحديث هنا يتعلق بالصراع التنافسي بين حليفين تجمعهما مصالح وأرضيات مشتركة، أو بمعنى آخر: بين شريكين يتبادلان الخدمات خلف واجهات الصراع؛ أحدهما دولي مُسيطر والآخر إقليمي مُتطلِّع.
ما ذهبت إليه مجلة (ناشيونال إنترست) التي تهتم بالشؤون الخارجية للولايات المتحدة؛ بأن طهران تبدو هي المنتصرة بوصفها أحد طرفي الصراع في المعركة على النفوذ في العراق مع واشنطن؛ ضرب من هذا النوع للرؤى القائمة على اعتبارات سياسية، لاسيما مع علوّ أصوات الخلاف بين الجمهوريين والديمقراطيين التي بلغت ذروتها مؤخرًا بتصريحات تصعيدية صدرت عن (نانسي بيلوسي) رئيسة مجلس النوّاب الأمريكي التي تقول فيها: إن (الكونغرس) سيمضي قدمًا في إجراءات محاكمة ترمب في المجلس تمهيدًا لعزله، لأن سياساته وتحركاته باتت تهدد الأمن القومي الأمريكي.
“مصادر مكاسب مشروعَيْ الاحتلال في العراق تقوم على الفوضى وانعدام الاستقرار”
ولا ريب أن ورقة إيران في ظل الأزمة التي تشهدها المنطقة؛ رابحة لحسم مزيد من الجولات لصالح خصوم ترمب، حينما توظَّف على أنها نتيجة للسياسات الخاطئة الأمريكية التي منحت طهران مزيدًا من النفوذ في العراق وسورية واليمن، وهيأت لها أسباب القوّة والسلطة، علاوة على اتصافها بـ(جنون العظمة) كما تقول الإنترست التي برّأت إدارة بوش الصغير من دورها في تضخيم حجم السطوة الإيرانية بعد احتلال العراق، وسلطت بقعة الضوء على إخفاقات في السياسة الخارجية لإدارة البيت الأبيض الحالية.. وتلك واحدة من الإشارات الدالة على أن ما يجري في محاولات لإقناع الرأي العام الأمريكي بأن إيران على وشك أن تتجاوز واشنطن في سباق النفوذ؛ مجرد صولة سياسية لكسب خطوة أخرى في مسار التنافس نحو الانتخابات الأمريكية المقبلة.
وجود الميليشيات الطائفية التي تمتلك في العراق علو كعب على السلطات الحكومية، ورقة أخرى في مضمار الخلافات السياسية الأمريكية، ورغم أن الشيطان لا يُشيطَن بطبيعة الحال؛ إلا أن الحديث عنها يعني بالضرورة الحديث عن إيران التي تدعمها وتتخذها وسائل ترسيخ وأدوات تنفيذ في المشهد العراقي سياسيًا وأمنيًا؛ باتجاه يُظهر طهران مصدرًا للخطر أو للقلق على أقل تقدير، يمس الولايات المتحدة ويهدد مصالحها، لتبقى المناوشات بشأنها مستمرة في مصنع إنتاج الرأي وتشييد منصات الانطلاق صوب الأهداف اللاحقة.
الواقع العراقي يكشف أن النظرية التي تُساق لإظهار خطر إيراني على أمريكا؛ محض هراء، وليس لها أثر ملموس في الميدان الذي تحمي فيه طائرات التحالف الدولي تجمعات الميليشيات الإيرانية، وتسمح لها بحرية الحركة لممارسة أنشطتها ذات الأهداف الطائفية الممهدة لإجراء تغيير ديموغرافي وسياسي واستراتيجي في الحواضن التي سبق لها أن رعت المقاومة العراقية وهيأت لها وسائل القوة والاستمرارية.. ولهذا فإن طهران لن تكون منتصرة على حساب أمريكا في صراع النفوذ، بقدر ما هي شريك مُربح وخادم مُنتج، يُشاكس بين حين وآخر لمساومة الشريك على مكاسب جديدة.
“وجود الميليشيات الطائفية التي تمتلك في العراق علو كعب على السلطات الحكومية، ورقة أخرى في مضمار الخلافات السياسية الأمريكية”
الحقيقة؛ أن دور إيران داخل لعبة واشنطن في منطقة (الشرق الأوسط) محل إجماع لدى جميع القوى الفاعلة داخل المطبخ السياسي الأمريكي، لكن الاختلاف عندها في هذا الشأن حول مديات هذا الدور ومساحات الحراك المسموح بها تبعًا لوجهة نظر كل طرف يريد أن يكون صاحب قدم السبق نحو قمة هرم الإدارة الأمريكية، ولعل في الضربات التي طالت بعض مواقع (الحشد) واستهدفت مخازن السلاح فيها؛ وسيلة لافتة للنظر لا غير في تذكير الإيرانيين بعدم جدوى اللعب خارج الإطار المتاح، ولهذا فقد أدخلت طهران إلى العراق مجددًا صواريخ وأسلحة جديدة أمام أنظار التحالف الدولي، ورغم أنف حكومة بغداد، هذا إن كانت على دراية بذلك أصلاً.
وفي الوقت الذي ما تزال الرؤية التي تُصدّر إلى العالم بكل وقاحة بأن مشروع العملية السياسية في العراق ناجح ومؤثر؛ تربض حكومة بغداد في قاع الفشل بعدما وجدت نفسها متشبثة بخيوط تُراقصها بين رغبات إيرانية وإرادات أمريكية، صيّرت من تخبطها نوافذ وأبوابًا لأزمات متجددة لن تقوى على تجاوزها مثلما أخفقت سابقاتها من قبل، باعتبار أن مصادر مكاسب مشروعَيْ الاحتلال في العراق تقوم على الفوضى وانعدام الاستقرار، فهما المنهل الوحيد الذي يمنح العملية السياسية رمقًا إضافيًا.
المصدر : جريدة البصائر
26/1/1441
25/9/2019