الفلسطينيون في قبرص ترقب .. ومصير مجهول
يكاد يكون التاسع من نيسان عام 2003 نقطة تحول سوداء في حقبة الوجود الفلسطيني في العراق ، حيث بدأت المحن وازداد الاضطراب وتكالب الأعداء ، وبدأت المؤامرات تحاك والسيناريوهات تنفذ ، فبعد أن عاش الفلسطينيون قرابة ستة عقود في غموض كبير لا يعرف عنهم إلا القليل بدأت مرحلة جديدة مؤلمة لتسجل حاضر مليء بالمحن ترتب عليه هجرة وشتات وتفرق لتنتظرهم فترة مليئة بالقلاقل والمستقبل المجهول .
خرج أكثر من نصف الفلسطينيين في العراق والعدد مرشح للزيادة في الأيام القادمة لعدم وجود بصيص أمل في التعايش داخل العراق المحتل ، في ظل تجاذبات طائفية ومصالح سياسية وفئوية يؤكل فيها الضعيف وتذهب حقوقه .
النسبة الأكبر من الفلسطينيين لجئوا إلى جزيرة قبرص بطرق مختلفة بعد عناء السفر في البر والجو والبحر وحصلت أشبه بمغامرات سندباد وقصص ألف ليلة وليلة مع بعضهم ، وأعداد أخرى وصلت بشق الأنفس ، وعوائل تركت الغالي والنفيس من أجل الوصول .. ناهيك عن الذين تحملوا لحد الآن أعباء الدين وأثقاله إلى أين الوصول يا ترى ؟! إلى بر الأمان إلى جزيرة حدودها بالكامل مياه ، فعجبا لتلك الدول التي لديها أراضي شاسعة وصحراء قاحلة ماذا سيجيبون يوم القيامة بهذه المواقف وهذا التخلي ؟!!!.
وسرعان ما تنفس الصعداء أهلنا هناك في بادئ الأمر إلا أن ذلك لم يكتمل وهذا أمر متوقع ، فبيئة جديدة وقوانين غريبة عليهم وأجواء فيها أشياء مستهجنة ، فيصبح الفلسطيني في صراع مع نفسه وما آل به حاله ، لكن أناس خرجوا من الموت المحقق ومن التعذيب والملاحقة والإبادة التي حصلت لهم في شتى المجالات ، بشكل طبيعي يرضون بذلك ويعتبرونه ربحا لهم على الأقل في المديين القريب والمتوسط وهم الآن أمام مفترق طرق وسؤال يكتنف ويراود الجميع هناك ، ما هو مصيرنا ؟!! وما الذي سيكون عليه وضعنا القانوني ؟!! وما هو شكل مستقبلنا وذريتنا ؟!! وأسئلة كثيرة من حق كل إنسان يتسائل عنها ، فيا ترى ما هي الإجابة وما الذي يخبأ لهم في الأيام القادمة ؟!.
من الطبيعي أناس يتركون ديارهم والبيئة التي كانوا يعيشون فيها " مضطرين طبعا لذلك " أن يواجهوا جوانب كثيرة من الاضطراب والتناقض والسلبيات ، ولا يقول قائل أنا في السويد أو كندا أو تشيلي أو البرازيل أو .. أو غيرها من الأماكن التي وصل إليها الفلسطيني وعليه فأنا مرتاح أو لا أواجه أي متاعب أو مشاكل فيكون في حينها غير واقعي أو منطقي ، لكن طبعا السلبيات متفاوتة ومختلفة كل بحسب المجتمعات والمعطيات التي يمر بها والقوانين .
لحد هذه اللحظة يجهل قرابة 1500 فلسطيني في جزيرة قبرص مصيرهم ووضعهم القانوني ومستقبلهم ، أضف إلى ذلك بعض الإشكالات التي بدأت تواجههم وتزداد يوما بعد يوم ، وهذا أيضا أمر طبيعي بسبب التزايد الحاصل لهم هناك والتخوف من هذا التواجد والتجمع ، لا سيما أن العالم للأسف أصبح ينظر للوجود الفلسطيني بأنه كائن غريب ومستهجن وهذا نلاحظه بشكل كبير في العديد من الدول العربية فمن باب أولى تلك الدول الأجنبية .
يحظى الفلسطيني الذي وصل إلى قبرص بمنح مادية تكفيه مئونة المعيشة والإيجار ، حيث يعطي مكتب المساعدات ( الولفر ) رواتب شهرية على شكل صكوك تصرف من البنك نهاية الشهر ، حيث يستلم رب العائلة 425 يورو ولزوجته 215 يورو والأطفال دون سن الخامسة عشر 127 يورو هذه تسمى بدل معيشة وهنالك مبلغ آخر وهو بدل الإيجار يعادل ثلث المبلغ الأول .
لكن عليهم مراجعة مكتب العمل بشكل شهري كي يتم تنسيبهم بعمل معين ، لكن تكون فرص العمل قليلة ومعظمها في المزارع وحقول الدواجن وقد تحتاج لمبيت هناك وفي الغالب تكون بعيدة عن أماكن السكن ، والذي يكون من نصيبه العمل يقطع عليه راتب ( الولفر ) ما يعرض ذلك الفلسطيني إلى ضائقة مادية لعدم كفاية ما يتقاضاه من عمله فهو يعادل تقريبا ثلث ما يتقاضاه من ( الولفر ) .
في الأيام السابقة قطعت رواتب عدد قليل من الفلسطينيين بسبب ذلك ، وقد يكون السبب بعدم مراجعة البعض لمكتب العمل لشهر أو شهرين أو يزيد ، كما أن العديد من أصحاب العمل استغلوا وضع الفلسطيني ولم يعطوه حقه أو أن ذلك الراتب يضيع ثلثه في النقل ، والبعض منهم يستغل جهل العديد من الفلسطينيين بالقوانين فيقوم بتشغيلهم 13 ساعة بدلا من 8 ساعات من غير أي أجور إضافية ، وهذا أمر متوقع لأي غريب ينتقل من دار إقامته إلى مكان جديد فيكون عرضة للاستغلال .
وكل ذلك ولا يحق لك أن تتكلم لأن الذي يتكلم ويعترض يذهب صاحب العمل إلى مكتب العمل ويقول لهم فلان لا يريد العمل فيؤدي إلى قطع راتبه ، وبدأت هذه الأيام تظهر مشكلة جديدة وهي إرسال بعض أرباب الأسر والمتزوجين وأجزاء من العائلة إلى المزارع ما يؤدي إلى قطع راتب العائلة بأكملها الذي قد يصل مع بدل الإيجار إلى أكثر من 1500 يورو لكن في تلك المزرعة لا يعطى أكثر من 600 يورو فيذهب هذا المبلغ لسد الإيجار ، وعندما يعترض الأهالي على ( الولفر ) ويقولون له هل يتم إكمال بقية المبلغ من قبلكم ، فتكون الإجابة كلا .. لأن هذا قانون نسير عليه ؟!!.
ومع فتح فرص للعمل من قبل مكتب العمل طبعا هذا تناسب مع ازدياد عدد الفلسطينيين الذين يصلون إلى قبرص ، وقد يكون نوع من التضييق عليهم للحد من الوصول أو هنالك أغراض سياسية أو مقاصد أخرى من وراء ذلك .
فهذه المشكلة تعتبر الآن من أعقد المشاكل بالإضافة إلى المصير القانوني المجهول ، حيث بدأ نوع من التوتر والإرباك لدى الفلسطينيين هناك ، أضف إلى ذلك وجود فرقة وعدم تكاتف ولا مبالاة وعدم ترتيب الأوراق وضعف في العمل لدى غالبية أهلنا هناك ما يزيد من تعقيد الأمر وتفاقم المحنة .
والعجيب في الأمر عندما يطالب الفلسطيني هناك بتحديد قوانين خاصة بهم في العمل ، يكون الرد سلبي ومبهم فلا وضع قانوني واضح ولا قوانين صريحة تخصهم كل ذلك جعل هاجسا وتخوفا مما هم فيه ، وأصبح لدى الفلسطيني هناك قلق كبير وتخوف ، مع أن الجالية هناك لم يعترضوا على مبدأ العمل لكن هنالك تفاوت وعدم توازن في تلك القضية .
وهنالك بعض النماذج والأحوال التي يمرون بها ، من ذلك يكون صاحب العمل محتاجا لعامل واحد فقط فيقوم مكتب العمل بإرسال عشرة أشخاص فيحدث إشكال لأن الكل يريد أن لا يقع الاختيار عليه ، فيسارع صاحب العمل بإرسال تقرير لمكتب العمل بأنه هؤلاء لا يريدون العمل فيصار إلى غلق ملفاتهم وقطع رواتبهم ، وفي أحيان كثيرة يتوقف هذا الأمر بشق الأنفس وصعوبة بالغة .
وعليه نقول لأهلنا هناك يفترض أن معظم أو جميع الذين وصلوا إلى جزيرة قبرص أنهم مضطرون أو مكرهون ، بمعنى أنهم خرجوا من القتل والموت المحقق وضنك العيش إلى مكان آخر للخلاص من كل ذلك ، فمن الطبيعي أن تكون البيئة الجديدة فيها ما فيها من المنغصات والسلبيات دينيا وثقافيا واجتماعيا والتي يجب أن يحرص الجميع على المحافظة عليها بغض النظر عن المكان الذي يتواجدون فيه ، وقد مر الصحابة رضوان الله عليهم بعدة هجرات بعد أن أكرهوا وخرجوا من ديارهم وتركوا الغالي والنفيس وبعض الأحيان اضطروا للذهاب لأماكن غير معتادة بسبب وجود شيء من العدل كما حصل عندما ذهبوا للحبشة .
لكن خرجوا لسبب شرعي وظل ذلك حاضرا في أذهانهم وتحملوا أعباء الهجرة والمشقة والغربة ثم عادوا هاماتهم مرفوعة بعد أن صبروا وثبتوا ليفتحوا البلاد وقلوب العباد ويصبحوا سادة الدنيا ، لذلك في مثل هذه الحالات من الغربة والهجرة والشتات لا سيما في ظل عدم الاستقرار لا ينتظر أهلنا هناك أن تفرش لهم الأرض بالورود ولا أن يتم تعاملهم كما يتمنون أو يريدون فنحن في زمن قل فيه العدل من القريب أو البعيد إلا من رحم الله وقليل ما هم !!! وفي فترات أصبح الضعيف الذي لا مطالب لحقه مهضوم الحقوق فلابد من الصبر والثبات على المبادئ لأن الله عز وجل يقول ( وإن تتولوا يستبدل قوما غيركم ثم لا يكونوا أمثالكم ) ويقول ( إن تنصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم ) فلا يكون هنالك ظفر ولا رفعة ولا ثبات على المواقف والمبادئ إلا بالصبر وامتثال أوامر الله في المنشط والمكره في السفر والإقامة في الرخاء والشدة لا سيما في دار الغربة .
فلا ننتظر حياة مليئة بالرفاهية في ظل ما كنا نعاني منه وقد نجانا الله من العديد من المخاطر والقضية لابد أن تدخل ضمن قاعدة المصالح والمفاسد ، والألم الحقيقي يكون بفقد الدين والمبادئ والقيم ، لا بنقص الراتب أو انقطاعه أو قلة العمل وضيق الرزق والله عز وجل يقول ( وفي السماء رزقكم وما توعدون ) ويقول عليه الصلاة والسلام ( لو أنكم توكلتم على الله تعالى حق توكله لرزقكم كما يرزق الطير تغدو خماصا وتروح بطانا ) ويجب أن ينتبه جميع من اضطروا للوصول وخرجوا بعد عناء ومشقة بأنهم سيتعرضون لبلاء وامتحان وفتنة من أنواع أخرى غير التي تعرضوا لها في العراق فلا يقول قائل أنا قد نجوت من القتل والميليشيات والمحتل ووصلت إلى حيث الحرية والإنسانية والأمان ؟ كلا ! فامتحان الدين والثبات عليه والمبادئ واستمرار الأواصر الاجتماعية وضيق الرزق والعمل في أماكن غير متوقعة هذا كله ابتلاء قد يفوق ما نجونا منه ، فعلى كل إنسان النظر بصدق لما ينفعه وينفع ذريته وأن لا يفرح كثيرا بما وصل له ويبحث باستمرار على بر الأمان لدينه وعرضه وماله ونفسه ، فإن النعم تدوم بالشكر وإن الذنوب تحرم العبد الرزق ولا يمكن لطائفة حتى تبتلى ويرى الله فيها الصبر والثبات والجلد .
هنالك قضية أخيرة مهمة وهي ضرورة تكاتف الجهود والعمل الجماعي ونسيان بعض الخلافات التي تحول دون أي تقدم منشود ، والحرص على تحري الرزق الحلال وتعاون الجميع وتحمل مسؤولياتهم في كل صغيرة وكبيرة تخص وجودهم ومستقبلهم والعمل الحثيث والنظر للمصلحة العامة دون المصالح الفئوية أو الشخصية أو حتى المادية ، لأن القضية أكبر من ذلك وتحتاج لوقت وتكاتف وجهود جبارة من قبل الجميع وربنا عز وجل يقول ( ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم ) أي قوتكم .
أيمن الشعبان
باحث متخصص بشأن الفلسطينيين في العراق