الصفقة الأمريكية الإيرانية القادمة
محمد الزواوي
الكثير من المؤشرات تفيد بأن هناك صفقة أمريكية إيرانية بدت تتشكل خيوطها وتبرز معالمها في الأفق، حيث إن المرحلة الحالية تتطلب تعاونًا وثيقًا بين الإدارة الأمريكية وإيران من أجل حل المشكلات الأمنية التي تورطت فيها أمريكا في كل من العراق وأفغانستان، ويبدو أن مفاتيح تلك المشكلات بيد إيران بحكم موقعها بين الدولتين وبحكم نفوذها في العراق وبقدراتها في أفغانستان على تقديم يد العون للولايات المتحدة عن طريق توصيل المساعدات وعن طريق منع السلاح أيضًا عن فصائل المقاومة بالبلاد.
ففي حقبة ما بعد بوش تعهد الرئيس الأمريكي الجديد بانتهاج أجندة مختلفة تمامًا وبشعار من أجل التغيير، هذا التغيير الذي لا يبغيه في الداخل فقط، ولكن يريده أن يكون تغييرًا عالميًا: سواء في سياسات الولايات المتحدة أو في التوجه العام للاستفادة من القوة الأمريكية وتوظيفها بطريقة جديدة تحفظ مصالحها ولكن بأقل الخسائر، عكس الإدارة السابقة التي كبدت الولايات المتحدة والعالم خسائر فادحة في الأرواح والأموال، وانتهت بوضع العالم في أتون أزمة اقتصادية طاحنة بسبب تلك السياسات الخاطئة التي أفرزت حربين أثرتا بشكل كبير على تذبذب الأسواق العالمية فيما يتعلق بأسعار المواد الغذائية وعلى التجارة والصناعة وعلى أسعار الطاقة حول العالم.
والتغيير في السياسة الأمريكية يعتمد على التوجه متعدد الأطراف وليس التوجه الأحادي الذي انتهجه الرئيس السابق جورج بوش والذي أدى إلى تقليص دور المنظمات الدولية وجعلها غير ذات صلة، وجعل صورة الولايات المتحدة في العالم تصل إلى أسوأ حالاتها، ويريد أوباما أن يعالج تلك المشكلات التي ورثها عن إدارة سلفه بذلك التوجه المتعدد الأطراف وكذلك بمزج القوة الناعمة بالقوة الصلبة، فيما بات يعرف بالقوة الذكية، والتي تحاول الاستفادة قدر الإمكان من كافة نواحي القوة الأمريكية الدبلوماسية والعسكرية والاقتصادية.
وقد تبنى أوباما حرب أفغانستان لتكون حربه الشخصية بالرغم من أنه ورثها عن سلفه، ولكنه يواجه مشكلات جسيمة في ذلك البلد الذي يعيش في حروب مستمرة منذ أواخر سبعينيات القرن الماضي، تلك المشكلات تتمثل في مشكلات عسكرية واقتصادية يحاول أوباما أن يحلها بمساعدة دول الجوار، والتي هي باكستان وروسيا والصين والهند وإيران. ومن قراءة الأحداث يبدو أن إيران سوف تكون اللاعب الأكبر في تلك الاستراتيجية الأمريكية الجديدة؛ حيث تملك إيران العديد من الأدوات التي تمكنها من لعب دور قوي في "استقرار" أفغانستان طبقًا للرؤية الأمريكية.
فالولايات المتحدة تريد أن تقضي على حركة طالبان وعلى تنظيم القاعدة وتريد أن تصل إلى توليفة جديدة لحكم البلاد تشرك فيها كافة الأطراف الأفغانية، بعد أن واجهت حكومة كرزاي فشلاً ذريعًا في السيطرة على ما وراء العاصمة كابول، حيث باتت حركة طالبان تسيطر على مساحات واسعة من البلاد وحتى على الطرق المؤدية من وإلى كابول، كما تريد الولايات المتحدة أن تؤمن طرق وصول الإمدادات العسكرية وغير العسكرية إلى داخل أفغانستان بعد أن أصبحت باكستان المجاورة، والتي كانت مسئولة عن توصيل 75% من الإمدادات إلى أفغانستان، على شفا الانهيار هي الأخرى بسبب سيطرة حركة طالبان الباكستانية على المناطق الحدودية مع أفغانستان وعلى منطقة وادي سوات، مما بات يهدد وصول الإمدادات إلى داخل أفغانستان، وهو ما يعني "خنق" العمليات الأمريكية سواء العسكرية أو المدنية في أفغانستان.
ويبدو أن إيران تمتلك الترياق الواقي لكل المشكلات الأمريكية في ذلك البلد، فإيران لديها روابط قديمة مع الدولة الأفغانية قبل وصول حركة طالبان إلى الحكم، فهناك أقلية الهزارة الشيعية في غرب البلاد والتي ترتبط روحيًا بإيران، كما قامت إيران بشق طرق سريعة ممهدة في شرق البلاد تستطيع الوصول إلى غرب أفغانستان، وقامت إيران أيضًا بإلغاء 90% من الجمارك والتعريفات على حركة التجارة بين البلدين لتشجيع وصول المنتجات من وإلى أفغانستان، ولدى إيران أيضًا ميناء شاباهار والذي يعد أسهل طريقة لوصول الإمدادات من وإلى أفغانستان عن طريق المحيط الهندي.
فبعد أن وجه أوباما رسالة علنية إلى الشعب الإيراني فور تسلمه مهام منصبه يهنئه فيها برأس السنة الفارسية، ردت إيران بإطلاق الصحفية روكسانا صبري التي كانت متهمة بالتجسس بعد مطالبات غربية بإطلاق سراحها، وذلك في إطار تبادل رسائل الغرام بين النظامين في الولايات المتحدة وإيران، كما لم نعد نسمع شكوى جنرالات الولايات المتحدة في أفغانستان الذين كثيرًا ما كانوا يشتكون من وصول العبوات الناسفة وأجهزة التفجير الإيرانية إلى أيدي المقاتلين الأفغان بمختلف تياراتهم، بالرغم من تصاعد عمليات حركة طالبان وسيطرتها شبه الكاملة على مساحات واسعة من أراضي أفغانستان.
وتتفق الولايات المتحدة وإيران على الكثير من الأهداف داخل أفغانستان: فإيران تريد القضاء على حركة طالبان السنية التي تمثل تهديدًا مباشرًا لها، كما تريد إيران أن يستتب الأمن في أفغانستان من أجل عدم تدفق اللاجئين على أراضيها، بالإضافة إلى تحول أفغانستان إلى أكبر مركز لزراعة وتجارة المخدرات في العالم بعد زوال حكم طالبان منذ خمس سنوات، حيث أصبحت المخدرات تشق طريقها بسهولة إلى داخل إيران ومنها إلى العديد من دول العالم، كما تريد إيران أن تضاعف نفوذها داخل أفغانستان بأي وسيلة في إطار سعيها للتمدد الإقليمي وبسط سيطرتها على الشرق والغرب بعد أن زال الحاجز الغربي ـ صدام حسين ـ وزال الحاجز الشرقي ـ حركة طالبان؛ فالطريق الآن أصبح ممهدًا لتبسط إيران ذراعيها على العراق وإيران لتصبح قوة إقليمية كبرى في المنطقة لا يستطيع أن يتجاهلها أحد، بما في ذلك الولايات المتحدة ذاتها.
ولذلك تريد الولايات المتحدة أن تضيق الخناق على النظام الإيراني لدفعه لقبول صفقة تقضي بتجميد برنامجه النووي نظير زيادة نفوذه في كل من العراق وأفغانستان، فتحاول الولايات المتحدة أن تعقد صفقة أخرى مع الدب الروسي من أجل وقف تعاونه مع إيران في المجالات النووية وتطويره لمنظومة الصواريخ الإيرانية نظير تجميد منظومة الدفاع الصاروخية التي كانت تريد الولايات المتحدة تنصيبها في شرق أوروبا ـ والتي تمثل تهديدًا مباشرًا لأمن روسيا ـ إلا أن أمريكا ربطت تجميد مشروع الدرع الصاروخي بتجميد روسيا لمساعداتها لإيران في كل من المجالات النووية وفي تطوير منظومتها الصاروخية؛، وبذلك تأمن أمريكا من صواريخ إيران النووية وتأمن روسيا من منظومة الصواريخ الأمريكية وتحصل إيران على زيادة النفوذ نظير تجميد برنامجها النووي.
ونظير ذلك النفوذ الإقليمي المتزايد، فإن إيران يمكن أن تضحي ببرنامجها النووي وأن تقوم بتجميد تخصيب اليورانيوم نظير الحصول عليه مخصبًا للاستخدامات السلمية، وكذلك يمكن أن تسمح إيران للوكالة الدولية بالتفيتش الدوري على منشآتها النووية، بالرغم من أن إيران تستطيع بالرغم من ذلك أن تحتفظ بأية منشآت سرية في أي منطقة من مناطق إيران الشاسعة، والتي تتمتع بطبيعة جبلية وعرة تستطيع أن تخفي أية منشآت في أي مكان، ومن المؤكد أن لدى إيران حاليًا منشآت خفية تحت الأرض تقوم فيها بمزاولة نشاطاتها النووية.
فالغنيمة الإيرانية من عقد صفقة مع الولايات المتحدة كبيرة للغاية، أهمها هو أن تحظى إيران بالنفوذ الدولي والانتصار الدبلوماسي على الولايات المتحدة واستغلال ذلك إعلاميًا بالترويج إلى أن الولايات المتحدة هي التي سعت لخطب ود الجمهورية الإسلامية، وسوف يكون ذلك اعترافًا ضمنيًا بحجم وثقل إيران الجديد في العلاقات الدولية، وبذلك تملأ إيران فراغًا شاسعًا يمتد من سوريا إلى حدود باكستان؛ ذلك الفراغ الذي يسمح لإيران بتقوية نفوذها وتصبح تلك المنطقة منصة إطلاق للنفوذ الإيراني إلى المناطق المجاورة في المنطقة العربية وباكستان.
أما باكستان فهي الأخرى معرضة للدخول في دوامة من عدم الاستقرار في الفترة القادمة وهو ما يجعلها هدفًا محتملاً مستقبليًا لإيران، والتي تمتلك داخل باكستان أيضًا أقلية شيعية تستطيع أن تستغلها خير استغلال، بالإضافة إلى الجيوب الشيعية الأخرى الموجودة في المنطقة العربية من لبنان إلى اليمن إلى مختلف دول الخليج العربي.
ويبدو أن الولايات المتحدة تنظر في ترقب إلى الانتخابات الرئاسية الإيرانية المقبلة، والتي مهد لها أوباما بخطبته في رأس السنة الإيرانية والتي كانت تهدف إلى تحريك قطعان الليبراليين والإصلاحيين داخل إيران من أجل تقويض دعائم أحمدي نجاد وحكومته، حيث إن فوز الإصلاحيين في الانتخابات يعني تمهيد الطريق أمام عقد صفقة مع الولايات المتحدة بصورة أسهل مقارنة بوجود نجاد أو غيره من المحافظين على رأس الحكم في إيران، بالرغم من أن الحاكم الفعلي للبلاد سيظل خامنئي؛ إلا أن الرئيس يعد واجهة البلاد أمام العالم، ويستطيع أن يمد جسورًا من العلاقات المحسنة مع الولايات المتحدة وأوروبا.
والصفقة الأمريكية الإيرانية في أفغانستان سوف تعني مزيدًا من العلاقات الاقتصادية الإيرانية الأفغانية، ومزيدًا من النفوذ السياسي لإيران والتي سوف تصبح طريق الإمدادات المدنية والعسكرية إلى داخل أفغانستان، كما سيعني هذا مزيدًا من التواجد الفارسي والشيعي في مختلف جوانب الحكم الافغاني، أو على الأقل في الغرب في مناطق الهزارة والقبائل الشيعية، وحينئذ تستطيع أموال الخمس الإيرانية أن تفعل الأفاعيل للشعب الأفغاني المنكوب منذ ثلاثين عامًا، وتستطيع إيران بوجودها في أفغانستان أيضًا أن تقطع دابر الوجود السني في البلاد كما فعلت في العراق، بل ربما نشهد دورة جديدة من العنف الطائفي داخل أفغانستان يكون ضحيته رموز السنة في أفغانستان، حيث ستستطيع إيران حينئذ أن تمد الأقلية الشيعية هناك بالمال والسلاح والمساعدات، في الوقت الذي تضيق فيه الخناق على حركة المساعدات إلى السنة في أفغانستان.
قد تبدو المشكلة الأفغانية بعيدة عن الدائرة العربية وأقل تأثيرًا على تفاعلات القوة والنفوذ داخل الوطن العربي، إلا أن أفغانستان سوف تمثل ظهيرًا قويًا لإيران وسوف تمثل منطقة عازلة لها عن الولايات المتحدة سياسيًا وأمنيًا وعسكريًا، مما سيسمح لإيران بالتحرك بحرية داخل تلك الدائرة المفرغة والتي تمتد من باكستان وحتى سوريا؛ حيث إن الولايات المتحدة حاليًا في ورطة حقيقية في أفغانستان والعراق، وسوف تفعل أي شيء لحفظ ماء وجهها لكي لا تخرج منهزمة من الحربين، ويبدو أن يد "الجمهورية الإسلامية" سوف تمتد في النهاية ـ في لقطة رومانسية ـ لانتشال يد "الشيطان الأكبر" من المستنقعين الأفغاني والعراقي، لتخرجه ليس من هذا المستنقع فقط ولكن إلى خارج الحسابات الجيوسياسية لتحل محله بعد أن أنهكته الحروب وجنوحه إلى التحركات السلمية والدبلوماسية ـ حتى لو لفترة من الوقت لالتقاط الأنفاس ـ ليبدأ في غضون ذلك فصل جديد من النفوذ الإيراني في منطقة جديدة.