إيران تعرض لبنان للبيع في "بازارها"
علي حسين باكير
في مقابلة أجراها رئيس مجلس الأمن القومي الإيراني، علي لاريجاني، مع صحيفة "لوفيغارو الفرنسية" في الأسبوع الأخير من شهر مايو الفائت, احتل الملف النووي الإيراني موقع الصدارة، ثم ما لبث أن تطرق إلى الملف اللبناني في سياق غريب وبعيد نظريا عن الملف النووي الإيراني.
وقد بدا الأمر وكأنه محاولة إيرانية لدق أبوبا فرنسا واجتذاب الرئيس الفرنسي الجديد إلى بازار المساومات الإيراني، الذي يشهد حركة رائجة جدا اليوم سواء مع الولايات المتحدة الأمريكية أو مع أوروبا بشكل عام, وذلك عبر التطرق إلى الموضوع اللبناني، الذي يحظى عادة باهتمام فرنسي واضح.
العرض المثير للجدل، والذي طُرح للمرة الأولى على بساط البحث، يبدو وكأنه استدراج للدبلوماسية الفرنسية باتجاه إيران، على أمل أن يكون مقدّمة للمساومة على ملفات أخرى، إذ من المعروف أن طهران تعتمد في الأوراق المتاحة لديها على الآخرين, فهي في نهاية المطاف لا تخسر شيئا مما لديها. بمعنى آخر, مصدر القوّة الإيرانية، يكمن دائما خارج حدودها, فهي تقيم خطوط دفاع متعددة اعتمادا على:
ـ التجمعات الشيعية الموالية لها في الدول الأخرى:
ـ الجماعات والأحزاب التي تتبنى نهج الثورة الإيرانية والمنتشرة أيضا في البلدان العربية،
ـ الجمهور المتعاطف والمخترق والمقرّب لها، سواء من الجماعات الإسلامية، أو من غيرهم من جماعات اليسار.
ـ الدول التي تعدّ مسرحا للنفوذ الإيراني، وخاصة لبنان والعراق وسوريا.
وتستخدم إيران كل هذه الأوراق في أي مساومات أو مفاوضات تجري مع القوى العالمية, ولا تكترث إن ضحت بأي منها، طالما أن ذلك يأتي في سياق المصالح العليا للأمة الإيرانية، كما يحلو لنجاد أن يسميها.
العرض الجديد الذي أورده لاريجاني في سياق هذه المقابلة مع "لوفيغارو"، شكل صدمة للمراقبين الذين يعتبرون أن لبنان يحتل مكانة عالية في جدول أعمال إيران.
وقد اعتبر البعض منهم أن هذا الطرح "لا يمكن تفسيره بسهولة، كما لا يمكن تبريره أبداً، خصوصاً أنه يسيء إلى إيران نفسها، بقدر ما يسيء إلى لبنان".
على أية حال, يتضمن العرض الذي قدّمه علي لاريجاني أربعة نقاط رئيسية، وهي:
ـ تشكيل حكومة وحدة وطنية في لبنان.
ـ محاكمة المتورطين في مقتل الحريري في إطار محلي وليس دوليا.
ـ اتفاق باريس وطهران على مرشح توافقي للرئاسة اللبنانية خلال 3 أشهر فقط!!
ـ تحويل حزب الله إلى حزب سياسي، وإقناعه بدمج مقاتليه في الجيش اللبناني.
كيف يمكننا أن نقرأ هذا العرض عبر هذه النقاط؟
القراءة السطحية تقول إن إيران تحاول المساعدة في حل الأزمة اللبنانية، وذلك بالتعاون مع فرنسا, لكنّ القراءة الدقيقة لتفاصيل العناصر وتوقيت طرحها، والغرض منها، يفهم منه أن إيران تعرض لبنان للبيع في بازارها لمصالحها الخاصة.
إذ إن الغرض من طرح محاكمة المتورطين في مقتل الحريري ضمن إطار لبنان محلي خالص، يعني عمليا إعفاء القاتل ـ أي كانت الجهة التي تقف وراءه ـ من العقاب وتعطيل المحكمة, لأنه لا شيء يلزم المتّهم بالقدوم إلى لبنان أو قيام دولته بتسليمه إلى الدولة اللبنانية لمحاكمته، ولا أحد يستطيع ضمان حصول ذلك أصلا, وهذا هو الغرض الأساسي في المبدأ لجعل المحكمة ذات طابع دولي. ويبدو أن طهران تحاول كسب سوريا في هذا الجانب، وإن كان على حساب الساحة اللبنانية.
ثانيا, إن اتفاق طهران مع باريس على اختيار رئيس لبناني توافقي خلال ثلاث أشهر فقط، يعني أن طهران هي من يعقد مسألة الانتخابات الرئاسية الحالية بسبب تدخلاتها. وعرضها هذا، يعني استبعاد أي دور عربي لدعم أي مرشح أو حتى قطع الطريق على أي وساطة عربية في الملف الرئاسي اللبناني, وكأن لبنان لقيط و ليس له توجه أو عمق أو حاضن عربي، وهو ساحة نفوذ إيرانية من غير المسموح لأحد باستثناء فرنسا المشاركة به!!
ثالثا والأخطر من كل هذا, هو اعتراف إيراني صريح بأنّ حزب الله لا يتمتع باستقلالية حقيقية، وأنه يشكّل مجرد رافعة وداعم لمصالح إيران العليا في المنطقة، خاصة وأن هناك تعهدا بتحويله إلى حزب سياسي!! إذن أين ذهبت الأيديولوجية التي يقوم الحزب بالترويج لها؟!
وهنا يحق لنا أن نتساءل, ما هو الثمن الذي تريده إيران لقاء هكذا صفقة؟ هذا ما لم يحب أن يلمح إليه السيد لاريجاني في حواره.
لكن الأكيد في كل هذا, أن الموضوع لم يطرح من فراغ, وقد سبق وعرضنا في سلسلة حصرية من المقالات المفصّلة والدقيقة بالأسماء والتواريخ العرض الإيراني السابق للولايات المتحدة في العام 2003م، بالاعتراف بإسرائيل، والتنازل عن دعم الفلسطينيين وتحويل حزب الله إلى حزب سياسي، بل وحتى إعطاء ضمانات قاطعة بشأن سلمية برنامجها النووي، مقابل الاعتراف بها قوة إقليمية شرعية، وإعطائها اليد العليا في ترتيب أوراق الخليج العربي، والوصاية عليه.
هذا أنموذج ممتاز لساحة المساومات، التي تتم على حساب العرب، في الوقت الذي تدّعي فيه إيران أنها داعمة لهم، وأن لا مبرر للقلق والخوف منها ومن نفوذها المتنامي، في الوقت الذي تتعامل به بمنطق المافيات والصفقات وبنفس الأسلوب الأمريكي، الذي يتسم ببراجماتية عالية، تصل إلى حد التناقض في بعض الأحيان، وإن كانت إيران الأكثر مهارة في لعب هذا الدور.