من الخبرة الإسلامية في التعامل مع المشكلة الطائفية
بقلم أسامة شحادة
كثر الحديث مؤخراً حول المشكلة الطائفية، إثر انفضاح الممارسات الطائفية في العراق من قبل الميلشيات الشيعية، وبتواطؤ من أجهزة الدولة العراقية، وهذه الممارسات مدروسة ومخططة، وتجد من يبررها ويدافع عنها من رجال الدولة العراقية الذين يفترض فيه حماية المواطن والوطن، ولعل من هذا التواطؤ البشع، أنه لم يقدم للمحاكمة لحد الآن شخص واحد بسبب هذه الممارسات المجرمة!!
فكثرت التساؤلات عن سبب هذه الروح الطائفية؟ ولماذا الآن؟ وكيف نتعامل معها؟ ولعل السؤالين الأولين قد وجدت من يسلط الضوء عليهما، ويوضح الأبعاد العقدية والفكرية خلفها، ودور عامل الحصول على القوة والسلطة في وقوع هذه الممارسات الطائفية.
إلا أن الجواب عن الحل لهذه المشكلة، لم يسلط عليه الضوء!!
ولما كان التاريخ الإسلامي قد احتوى على خبرات قيمة في هذا المجال أحببت عرضها، للاستفادة منها، إذ إن الناس أصبحوا بين ثلاثة حلول خاطئة، وهي: الاستئصال، أو التميع والقبول بما يجرى حرصاً على الوحدة المزعومة، أو البحث عن صيغ علمانية للحل.
يمكن عرض الخبرة الإسلامية في التعامل مع المشكلة الطائفية من خلال النقاط التالية، وسيكون بحثنا مقصور على الطوائف الإسلامية دون ما سواها:
1 ـ متى عرف الإسلام هذه المشكلة:
لقد عرف الإسلام والمسلمين المشكلة الطائفية في أواخر عصر الخلفاء الراشدين، وبالتحديد في خلافة على رضي الله عنه، فقد تكوَن للخوارج كيان خاص منفصل عن الدولة الإسلامية، مع تبني منظومة فكرية متباينة لمنهج الصحابة الكرام، وعلى رأسهم الخليفة الرابع علي رضي الله عنه.
2 ـ ما هو تعريف الطائفة:
في تعريف الطائفة، نجد أن الأستاذ محمد شاكر في دراسته "وضع الأقليات في الدولة الإسلامية، والتي نشرت في التقرير الارتيادي الإستراتيجي الثالث لمجلة البيان، يعرفها بقوله: "مجموعة الأشخاص في الدولة التي ليست لها السيطرة أو التحكم أو التأثير؛ نظراً لمخالفتها للمسلمين في دينهم (الإسلام) أو عقيدتهم (عقيدة أهل السنة والجماعة)؛ وإن كانت أعدادها أكثر من غيرها، وانطلاقاً من ذلك فإنه يمكننا أن نميز هنا نوعين من الأقليات: الأقليات الدينية (أقليات الملل)، والأقليات العقدية (أقليات النِّحَل)".
أما الدكتور كمال حبيب، فيعرف الطائفة الإسلامية في كتابه "الأقليات والسياسة في الخبرة الإسلامية من بداية الدولة النبوية وحتى نهاية الدولة العثمانية" بـ: "الجماعة التي تعيش داخل المجتمع الإسلامي على سبيل الاستقرار (الدوام)، ولها حكم شرعي مختلف عن أحكام الجماعة المسلمة، أو التي فارقت الجماعة المسلمة بتأويل ديني لا يسوغ".
3 ـ منهج التعامل مع الأقليات الإسلامية:
تعد السياسة التي انتهجها الخلفية الرابع علي بن أبى طالب رضي الله عنه مع الخوارج، التطبيق العملي لمنهج الإسلام العادل والمستقيم في التعامل مع الطوائف والفرق، وهو ما سار عليه المسلمون من بعده، وقد لخص شيخ الإسلام ابن تيمية هذه السياسة في الفتاوى 13/ 32، فقال: "خرجت الخوارج على أمير المؤمنين علي بن أبي طالب وفارقوه وفارقوا جماعة المسلمين إلى مكان يقال له حروراء، فكف عنهم أمير المؤمنين وقال: لكم علينا أن لا نمنعكم حقكم من الفيء، ولا نمنعكم المساجد. إلى أن استحلوا دماء المسلمين وأموالهم فقتلوا عبد الله بن خباب، وأغاروا على سرح المسلمين؛ فعلم عليٌ أنهم الطائفة التي ذكرها رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ حيث قال: "يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم، وصيامه مع صيامهم، وقراءته مع قراءتهم، يقرؤون القرآن لا يجاوز حناجرهم، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرميّة، آيتهم فيهم رجل مخدج اليد عليها بضعة عليها شعرات"، وفي رواية: "يقتلون أهل الإسلام ويدعون أهل الأوثان" فخطب الناس وأخبرهم بما سمع من رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وقال: هم هؤلاء القوم قد سفكوا الدم الحرام، وأغاروا على سرح الناس، فقاتلهم ووجد العلامة بعد أن كاد لا يوجد فسجد لله شكرأً"، وقال الماوردي في الأحكام السلطانية، ص 63 : "فإذا اعتزلت هذه الفئة الباغية أهل العدل، وتحيزت بدار تميزت فيها عن مخالطة الجماعة، فإن لم تمتنع عن حق ولم تخرج عن طاعة؛ لم يحُاربوا ما أقاموا على الطاعة وتأدية الحقوق".
ويشرح الدكتور كمال حبيب سياسة الخليفة الرابع تجاه الخوارج، فيقول: "وقد تمثلت سياسة علي بن أبي طالب رضي الله عنه تجاههم:
أ ـ اعتبارهم جزءاً من الجماعة السياسية، لا يمنعون الصلاة في المساجد ولا الفيء في القتال. ولا يقاتلوا بداية حتى ينصبوا القتال للدولة الإسلامية وحين نصبهم القتال فإنهم يدعون ويعطون الأمان دفعاً لامتناعهم وتفريقاً لصفوفهم بدون قتال.
ب ـ أنه وبعد المعركة، فإنه يوزع الغنائم المنقولة على الجيش، وأما النساء والأطفال، فإنهم يعودون مرة أخرى إلى ذويهم، فالغرض من القتال هو كسر قوتهم وامتناعهم في مواجهة الدولة ولذا أسمتهم كتب الفقه "الطائفة الممتنعة" وهم ليسوا في حكم البغاة من المسلمين ولا في حكم الكفار الذين يسلموا أصلاً ولكنهم في منزلة بين المنزلتين بينهما حيث يقاتلون قبل الظهور عليهم كقتال الكفار وبعد الظهور عليهم يعاملون معاملة المسلمين".
4 ـ التطبيق العملي التاريخي: (أعتذر عن عدم ذكر هوامش دراسة د. حبيب لكثرتها، ويمكن مراجعة الأصل لذلك).
أ- الدولة الأموية: لقد كان الكف عن الخوارج والفرق والطوائف هو منهج الدولة الأموية، إلا من نازع الدولة سلطتها، كما بين ذلك د. حبيب في دراسته، وأورد قول المغيرة بن شعبة من انتماء بعض الرعية لرأي الشيعة، أو رأي الخوارج، "قضى الله أن لا يزالوا مختلفين وسيحكم الله بين عباده".
ولكن حين بدأت حركة الخوارج في الكوفة الامتناع على الدولة، وكان بعض أهل الكوفة يتعاطفون مع دعوتهم، قام المغيرة فخطب الناس وقال: "لقد علمتم أني لم أزل أحب لجماعتكم العافية وأكف عنكم الأذى، وخشيت أن يكون ذلك أدب سوء لسفهائكم، وقد خشيت أن لا نجد بداً من أن لا يؤخذ الحليم التقي بذنب الجاهل السفيه، فكفوا عنا سفهاءكم قبل أن يشمل البلاء عوامكم، وقد بلغنا أن رجالاً منكم يريدون أن يظهروا في المصر بالشقاق والنفاق والخلاف، وأيم الله لا يخرجون في حي من أحياء العرب إلا أهلكتهم وجعلتهم نكالاً".
ويذكر د. حبيب، أن عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه سلك مع الخوارج خطة علي بن أبي طالب رضي الله عنه والتي تمثلت في:
1ـ أنهم أرادوا الحق فأخطئوه، ومن ثم فقد آثر أن يجادلهم عسى أن يعيدهم الجدال إلى الحق. ولم تمنعه هيبة الدولة أن يستقبل اثنين منهما ليحاورهما ويرد عليهما كل شبهاتهما.
2ـ أنه أراد أن يفهم الخوارج أن نزوع الدولة إلى الحوار ليس عن ضعف، ولكنه إعذار منه إلى الله أن يقتل أحداً أو يسفك دماً، فأرسل إليهم رجلاً في ألفين.
3ـ لو أصروا على القتال ولم يرجعوا فإن الدولة لا تجد بداً من دفعهم، فإن قبلوا أن يعيشوا في الدولة بدون امتناع فلا تثريب عليهم على أن لا يفسدوا على أهل الذمة ولا يتناولوا أحداً من الملة.
ب- الدولة العباسية: أما في الدولة العباسية، فقد ظهرت المشكلة الطائفية في مستوى أعلى، وذلك أن الجماعات الشيعية قد كثرت في أطراف الدولة، وتزايد عصيانهم للدولة وعدوانهم عليها، حتى توج ذلك بنشوء دولة بني بويه الشيعية الزيدية الغالية، والتي استولت على عاصمة الخلافة العباسية، واستمر استيلائها على العاصمة أكثر من مئة عام (334- 447هـ)، حتى قضي السلاجقة على دولة بني بويه.
ج – الدولة العثمانية: واستمر هذا المنهج المتسامح مع الفرق والطوائف في الدولة العثمانية، يقول د. حبيب: "التسامح مع عناصر السكان المحلية المتعددة الثقافات، والأعراق، والقوميات بحيث لم تمارس أي قهر سياسي أو اجتماعي أو ثقافي تجاهها، ساعية لتطوير وإدماج هذه التعدد في صيغة توحيدية سياسية أعلى هي الانتماء للأمة العثمانية المسلمة.
وهذه السياسة لم تكن تعرفها العصور الوسطى ذات الطابع الكلي الذي يرفض التعدد، ولا يقبل وجود أي ثقافات مغايرة لثقافته فقد كان المبدأ السائد في العصور الوسطي في علاقات الجماعات لا مجرد نفي الآخر أو استبعاده بل تحطيمه واستئصاله، وكانت الدولة العثمانية هي التنظيم السياسي الوحيد في العصور الوسطى والحديثة الذي اعترف رسمياً بالأديان السماوية الثلاثة وأوجد بينها تعايشاً سلمياً يسوده الانسجام، وقد بلغ عدد المجموعات اللغوية والجنسية التي خضعت للحكم العثماني بين وقت وآخر أكثر من ستين مجموعة لعبت فيما بعد دورها إما في قيام دولة قومية حديثة أو إثارة كثيرة من مشاكل الأقليات التي استعصى حلها على الحكومات الحديثة على حين أن الحكم العثماني قد أوجد لها حلولاً دائمة".
أما في علاقة الدولة العثمانية بالدولة الصفوية، فيسجل د. حبيب هذه الملاحظات:
1ـ أن الدولة العثمانية لم تبادر إلى اتخاذ موقف استئصالي تجاه شيعة الأناضول ولا تجاه الدولة الصفوية، إلا بعد تعاظم الخطر الشيعي، ممثلاً في وجود دولة، كان ظهورها أقوى بكثير من مجيء الفاطميين إلى مصر، وأن هذه الدولة بدأت تمارس أعمالاً وحشية تجاه السنة المقيمين في إيران وعملت على تثوير الشيعة المقيمين بالأناضول عن طريق بث الدعاية السرية بينهم، بل حاولت تحويل السنة في الأناضول والقوقاز إلى المذهب الشيعي.
2ـ تراوح أسلوب الدولة العثمانية في التعامل مع المسألة الشيعية، بين استخدام القوة في عهد سليم الأول بغرض التخلص من المشكلة الشيعية برمتها، ولذا فقد توسع في قتل الشيعة بالأناضول كجزء من حماية الجبهة الداخلية لتحقيق الحسم في المواجهة العسكرية، وذلك بالقضاء على الدولة الصفوية قضاء نهائياً، وكانت لهجة الخطاب الحاد بين السلطان والشاه، تعكس عمق التحدي الصفوي للدولة العثمانية، كما تعكس رؤية علماء الدولة العثمانية للصفويين باعتبارهم مرتدين، ويحتمل أن تكون العقائد الصفوية في هذه المرحلة لا تزال مشبعة بالأفكار "المهرطقة"، التي لا تعبر عن صحيح الدين الإسلامي لكن قتال الشيعة في إيران وقتلهم في الأناضول بشكل واسع لم يكن بسبب ردتهم بقدر ما كان بسبب امتناعهم على الدولة وتهديدهم لأمنها إلى حد التحالف مع الكفار على الجبهة الأوروبية.
أما في عهد سليمان، فإنه قد أصبح واضحاً أن الوجود الشيعي لا يمكن القضاء عليه، وبالتالي فإن الحروب ضد إيران كانت بسبب إصرارها على استمرار الدعاية للمذهب الشيعي داخل الدولة العثمانية والمناطق السنية الأخرى في القوقاز، أي أن حروب سليمان القانوني كانت بقصد حماية المذهب السني دخل الدولة العثمانية ومناطق نفوذها الأخرى المتاخمة لإيران ولم يعمد إلى التوسع في القتل لأتباع المذهب الشيعي.
وكانت الحروب عادة تنتهي بمعاهدات تقرر الوضع القائم. أي أن آلية المعاهدات برزت في عهد سليمان كأحد آليات التعامل مع المسألة الشيعية وستبقى الحرب والحرب المضادة هي الصيغة الغالبة في العلاقات الإيرانية ـ العثمانية منذ القرن السادس عشر وحتى القرن التاسع عشر، وذلك من أجل نشر الدعاية الشيعية من قبل إيران وحماية المذهب السني من قبل الدولة العثمانية.
ثم صارت المعاهدات هي الآلية الرئيسية في تنظيم العلاقة بين الدولتين بعد ضعف إيران، حيث وصفت المعاهدات إيران بأنها دولة إسلامية، وحيث اهتمت المعاهدات بتخطيط الحدود وتنظيم حركة القبائل وتنظيم الزيارات الشيعية للأماكن المقدسة والواقعة داخل الأراضي العثمانية.
3ـ اتسم السلوك الشيعي تجاه أهل السنة في البلدان التي فتحها الشيعة بمنتهى القسوة، حيث عُمِد إلى الإكراه لفرض المذهب الشيعي، كما ارتكبت مذابح ضد النساء والأطفال ولم يُتورَّع عن إقامة محور مع العالم الغربي للقضاء على الدولة العثمانية السنية إلى حد أنه لم يكن بوسع أوروبا أن تقاتل الدولة العثمانية وحدها بدون إيران حتى بداية القرن الثامن عشر.
بينما اتسم السلوك العثماني بالتسامح، ولم يعرف عنه أي ممارسة إكراهية لأتباع المذهب الشيعي، ولكن استخدام القوة بشكل واضح في عهد سليم ضدهم كان بسبب تهديدهم للأمن القومي العثماني، بامتناعهم على الدولة وقيامهم بثورات داخلية ضدها، ثم نشر الدعاية الشيعية بإصرار بين سكان الأناضول، بشكل هدد وحدته، ويبدو ملفتاً للانتباه أن يكون الخطر الشيعي المنتسب للإسلام هو المهدد للدولة وليس غير المسلمين الذين كانوا يمثلون الأغلبية فيها، ويمثل ذلك استمرارا للظاهرة الفريدة في التاريخ الإسلامي منذ ظهور الخوارج، وهي أن الخطر على الدولة الإسلامية كان يأتي ممن ينتسبون إلى الإسلام وليس من غير المسلمين".
5 ـ الخلاصة:
لقد عاشت الطوائف والفرق في ظل الإسلام ليومنا هذا، مع مفارقتها لمنهج الأكثرية والسلطة، مما ينفي فرية الاستئصال واستهداف هذه الطوائف، وكانت تقاتل وتعاقب شعبياً ورسمياً حين تخون من تعيش بينهم، حدثت مظالم لبعض الطوائف، لكن لم يكن ذلك من مستند إسلامي صحيح، كما أن كثيرا من المسلمين تعرض لما هو أشد من ذلك.
وهكذا يتضح لنا أن المنهج الإسلامي في التعامل مع الفرق والطوائف يقوم على أصلين:
1 ـ التكفل لها بحقوقها الشرعية، لأن هذا مقتضي العدل الذي أمر الله به، من هذه الحقوق حرية الاعتقاد في ذاتها وبين أفرادها، وليس لها أن تنشر ذلك بين المسلمين.
2 ـ عليها الالتزام بالنظام والسلطة، وعدم الاعتداء على الدولة أو الأفراد، وعدم إعانة الأعداء على الدولة.