الصوفية وتدمير المجتمع الإسلامي

بواسطة محمود عبد الرؤوف القاسم قراءة 2056

الصوفية وتدمير المجتمع الإسلامي

           

 تأليف الأستاذ العلامة محمود عبد الرؤوف القاسم

 

لإبليس شركان يصيد بهما بني آدم، فيخرجهم من الهدى إلى الضلال، ومن استقامة الفطرة إلى الانحراف والانحلال، وإتباع الأهواء.

* الشرك الأول: الجنس وملحقاته:

بهذا الشرك يستطيع إبليس أن يبعد ابن آدم عن نداء الفطرة، وعن السلوك المستقيم الموجه بالغرائز السليمة (المتوازنة فيما بينها حسب الفطرة التي فطرها الله عليها)، فتنحرف فيه غرائز، وتتضخم أخرى على حساب بقية الغرائز التي تضمر بسبب هذا التضخم.

وأرسل الله سبحانه الرسل بالتعاليم الاعتقادية والفكرية والعملية التي تحفظ على الإنسان سيره المستقيم، وتعيد الغرائز إلى توازنها الفطري، وتحقق عبادة الله في الأرض. والإسلام هو الرسالة التي جاء بها كل الرسل: ((إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلامُ)) [آل عمران:19].

* الشرك الثاني: الإشراق.

قد يتغلب نداء الفطرة في الإنسان على نداء الهوى، فيسير في الطريق المستقيم ملتزماً التعاليم الإلهية، متخذاً منها المنطلقات التي توجه كل تصرفاته.

وهذا يعني أنه أفلت من الشرك الأول، وأنه سار على الصراط المستقيم. لكنه سيجد أيضاً إبليس أمامه، ينتظره على هذا الطريق: ((قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ)) [الأعراف:16]، سيجده وقد نصب له الشرك الثاني (الإشراق).

ويستغل إبليس الغرور والجهل في الإنسان ليوقعه في هذا الشرك باسم الإسلام وباسم الولاية وباسم مقام الإحسان، والقرب والمعرفة...و...إلخ.

وللوصول إلى الإشراق يوجد طريقان:

الطريق الأول: طريق شجرة الخلد وملك لا يبلى، وهي أنواع، فعند بعض الشعوب القديمة، وفي الهند خاصة، كانت شجرة الحشيش، وفي الشرق الأوسط، كانت شجرة الخشخاش (الأفيون)، وفي المكسيك كانت فطر المكسيك، وفي البيرو (أمريكا الجنوبية) كانت شجرة الكوكا، وفي ماليزيا كانت شجرة الكافا...إلى غير ذلك مما لم أقف عليه.

كانت شجرة الخلد هذه، وفي قمتها الحشيش والخشخاش، حكراً على الكهان، كما كانت تدخل قصور الملوك في أحيان كثيرة.

وكانت سراً مقدساً يتعاطاها الكهان ضمن طقوس تعبدية سرية كي يقعوا في الجذبة، حيث تشرق عليهم الأنوار الهلوسية، ويتلقون العلوم اللدنية الهذيانية، وينطقون بما يتوهمون أنه الحكمة.

وبهذه الإشراقات الباطلة، والحكمة المتوهمة، كانوا يخرجون من الإسلام، باباً بعد باب، وتدخل عليهم الوثنية من كل باب.

والطريق الثاني: طريق الرياضة والمجاهدة الصوفية، فكثيراً ما كان يتعذر الحصول على المهلس الخارجى لسبب أو لآخر، حينئذ، كان إبليس يهيئ لأوليائه البديل الناجع، وباسم الإحسان، وباسم السير إلى الله والعروج إليه، وباسم المعرفة، كان يستجرهم إلى الرياضة الصوفية التي تهيئ لهم المهلس الداخلي (الإندورفين) ورفيقه الذي توقعهم دفقاته في الجذبة، حيث تشرق عليهم الأنوار الهلوسية، ويتلقون العلوم اللدنية الهذيانية، وينطقون بما يتوهمون أنه الحكمة.

وطريق الرياضة هذه هي طريق خداعة، تخدع الإنسان أكثر من طريق شجر الهلوسة، لذلك كان اعتماد إبليس عليها أكثر من اعتماده على الشجر، وكان اسمها (الكهانة والمعرفة)، وعندما حاربها الإسلام، حولوا اسمها إلى (الصوفية)، وعندما كُفِّر من كهانها من كفر وقُتل من قتل، ظهرت الطريقة البرهانية الغزالية.

والطريقة البرهانية الغزالية، والتي هي الإشراق الممزوج بالإسلام، هي أسلوب إبليسي استعمله إبليس، ويستعمله، للإبقاء على مسيرة الإشراق الذي فتن به بني آدم كما أخرج أبويهم من الجنة.

فأصل الأديان كلها الإسلام: ((وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خلا فِيهَا نَذِيرٌ)) [فاطر:24] و((إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلامُ)) [آل عمران:19]، وعن طريق ((شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لا يَبْلَى)) [طه:120]، أو بديلها (الصوفية)، أخرج إبليس بني آدم من إسلامهم إلى مختلف الوثنيات التي عرفها التاريخ.

لقد كان، وما زال، يوحي إلى أوليائه أن يتستروا بدين الله، ليهدمه بهم من الداخل، حيث يوهمهم أن هلوساتهم الجذبية هي إشراقات إلهية، وأنها نور اليقين وعين اليقين وحق اليقين، ثم يوحي إليهم أن يضيفوا علومهم اللدنية الهلوسية إلى الدين الحق، حيث تتراكم البدع شيئاً فشيئاً، ومع الزمن يختفي الدين الحق، وتسود البدع ويعتقد الناس أنها هي هو.

ومع الزمن، وبإيحاءات الأبالسة وأهواء الكهان وولائجهم، تتشعب البدع وتأخذ طرقاً مختلفة بعيدة كلها عن الدين الحق.

وكثيراً ما يكون للفئات المسيطرة دور في تشجيع مذهب بتشجيع دعاته ودعمهم ومحاولة منع المذاهب المنافسة من التحرك المكشوف، أما التحرك المستور فلا سلطان لهم عليه.

وهكذا ظهرت كل وثنيات التاريخ، وهكذا وجدت الهندوسية والبوذية والطاوية والجينية، أما اليهودية والنصرانية فقد تدخلت فيها عوامل أخرى.

وطبعاً لم ينج المسلمون من هذا الشرك الروحاني، حيث ظهرت (وتظهر) آثاره المدمرة في أشكال متعددة، لعل أبرزها ثلاثة:

1- الاستسلام العجيب للتتار.

2- تمزيق الأمة الإسلامية إلى فرق مذهبية تحارب الإسلام باسم إسلام محرف ينتهجونه.

3- إفساد عام في العقائد والعبادات والأخلاق والسلوك وأساليب التفكير.

وفيما يلي بيان لهذه الأشكال التدميرية نذكرها بإيجاز شديد لأن تفصيلها يستوعب مجلدات، مع التذكير أن الكشوف والمشاهدات الجذبية هي دائماً موجهة بالقناعات الفكرية المسبقة، أي: بالأماني والطموحات والمعلومات المختزنة والعواطف المهيمنة.

* الاستسلام العجيب للتتر:-

في العقود الأخيرة من القرن السادس الهجري وما يليها، كانت الصوفية واسعة الانتشار جداً، وقد مر معنا في الفصول السابقة أمثلة كثيرة عن الحالة التي وصلت إليها الأمة، والتي ظهرت نبتاتها الأولى في أزمنة سابقة، حتى استوت على أيدي دعاة للصوفية (مشايخ) يقدسهم حتى غير الصوفيين، جهلاً بالصوفية، ومن هؤلاء الدعاة: الغزالي (حجة الإسلام)، والجيلاني، والرفاعي، وعدي بن مسافر، والشاذلي، والدسوقي، والبدوي... وغيرهم.

بالإضافة إلى ما مر من الأمثلة في الفصول السابقة، نورد مثالاً (على الماشي) فيه كفاية لأخذ فكرة عن الواقع.

يورد ابن العماد الحنبلي في (الشذرات) في حوادث سنة 657 هـ:

وفيها (أي: توفي في هذه السنة) الشيخ يوسف القميني الموله:

قال الذهبي في (العبر): الذي تعتقده العامة أنه ولي الله، وحجتهم الكشف والكلام على الخواطر، وهذا شيء يقع من الكاهن والراهب والمجنون الذي له قرين من الجن، وقد كثر هذا في عصرنا والله المستعان، وكان يوسف يتنجس ببوله، ويمشي حافياً، ويأوي أقميم حمام نور الدين، ولا يصلي.

وقال ابن شهبة في (تاريخ الإسلام): كان يأوي القمامين والمزابل، وغالب إقامته بإقميم حمام نور الدين بسوق القمح، وكان يلبس ثياباً طوالاً تكنس الأرض ولا يلتفت إلى أحد، والناس يعتقدون فيه الصلاح، ويحكى عنه عجائب وغرائب، ودفن بتربة المولهين بسفح قاسيون، ولم يتخلف عن جنازته إلا القليل. اهـ.

- لا تعليق، لكن ملحوظة أنه لم يتخلف عن جنازته إلا القليل، وأن هذا حدث في دمشق، التي ما خلت منذ أسلمت من دعاة للإسلام الحق، لا يخافون في الله لومة لائم، فكيف تكون الحالة في غيرها.

ثم ننتقل إلى القطاع الذي اجتاحه المغول:

هذا القطاع هو العراق وفارس، وأبرز الطرق التي كانت منتشرة فيه أواخر القرن السادس الهجري هي: الجنبلانية، الملامتية، القشيرية، الصديقية، القادرية، الرفاعية، العدوية، الكبروية، وهناك غيرها طبعاً، مع العلم أن الرفاعية ثم القادرية كانت أبرزها على الإطلاق وأوسعها انتشاراً!

وفي العقود الأولى من القرن السابع ظهرت: الجشتية، السهروردية، البابائية، البكطاشية، وبقيت الرفاعية ثم القادرية هما الأبرز والأوسع انتشاراً، وتليهما السهروردية والملامتية.

من النتائج لهذا الانتشار الصوفي، النتيجة الظاهرة الصارخة، ألا وهي الاستسلام العجيب للغزو التتري الذي كان يبيد المدن والقرى ويقتل الملايين، بينما كان المسلمون يهرعون إلى المشايخ والقبور، ويلجئون إلى الأوراد والطلاسم لاستجلاب النصر، ويستسلمون للذبح استسلام النعاج!!

لأخذ فكرة عن هذا الاستسلام العجيب نورد نبذاً من (الكامل في التاريخ) لابن الأثير، منها:

ذكر خروج التتر إلى بلاد الإسلام:

لقد بقيت عدة سنين معرضاً عن ذكر هذه الحادثة استعظاماً لها، كارهاً لذكرها، فأنا أقدم إليه رجلاً وأؤخر أخرى، فمن ذا الذي يسهل عليه أن يكتب نعي الإسلام والمسلمين، ومن الذي يهون عليه ذكر ذلك، فيا ليت أمي لم تلدني، ويا ليتني مت قبل هذا وكنت نسياً منسياً... هذا الفعل يتضمن ذكر الحادثة العظمى والمصيبة الكبرى التي عقمت الأيام والليالي عن مثلها، عمت الخلائق وخصت المسلمين، فلو قال قائل: إن العالم مذ خلق الله سبحانه وتعالى آدم إلى الآن لم يبتلوا بمثلها لكان صادقاً، فإن التواريخ لم تتضمن ما يقاربها ولا ما يدانيها... ولعل الخلق لا يرون مثل هذه الحادثة إلى أن ينقرض العالم وتفنى الدنيا([1])...

- أقول: رحم الله ابن الأثير، فلقد رأى الخلق قبل أن ينقرض العالم وتفنى الدنيا أبشع من تلك الحادثة بكثير بكثير بكثير؟ فالماركسية حتى الآن، وفي أقل من سبعين سنة، قتلت من المسلمين ما يزيد عن (100) مليون نسمة، واحتلت من أراضيهم ما يزيد عن (23) مليون كيلومتر مربع (أرقام فلكية)، وهي تزحف وتزحف، وتقتل من المسلمين في أفغانستان والحبشة وغيرها ما يزيد معدله عن (1200) قتيل يومياً عدا عن أضعافهم من المشردين وعدا عن المجازر الاستثنائية التي جرت وتجري في بلاد العرب وغيرها والتي يذهب ضحيتها عشرات الألوف ومئاتهم في أيام أو أسابيع. والفرق بين حالة المسلمين في ذلك الوقت وبين حالتهم الآن، أنهم في ذلك الوقت كانوا يعرفون أن الذين يقتلونهم هم التتر، أما الآن؟ فيرون ويسمعون ويلمسون ولا يحسون ولا يعرفون؟! وإلى الله المشتكى.

ومنها:

ذكر مسير التتر إلى أذربيجان وملكهم أردبيل وغيرها:

.. ثم إنهم ملكوا البلد عنوة في شهر رمضان سنة ثمان عشرة (بعد الستمائة)، ووضعوا السيف فلم يبقوا على صغير ولا كبير ولا امرأة حتى إنهم يشقون بطون الحبالى، ويقتلون الأجنة، وكانوا يفجرون بالمرأة ثم يقتلونها، وكان الإنسان منهم يدخل الدرب فيه الجماعة فيقتلهم واحداً بعد واحد، حتى يفرغ من الجميع، لا يمد أحد منهم إليه يداً([2])...

ومنها:

ذكر ملك التتر مراغة:

...وبلغني أن امرأة من التتر دخلت داراً وقتلت جماعة من أهلها، وهم يظنونها رجلاً، فوضعت السلاح، وإذا هي امرأة، فقتلها رجل أخذته أسيراً. وسمعت من بعض أهلها أن رجلاً من التتر دخل درباً فيه مائة رجل، فما زال يقتلهم واحداً واحداً، حتى أفناهم، ولم يمد أحد يده إليه بسوء، ووضعت الذلة على الناس، فلا يدفعون عن نفوسهم قليلاً ولا كثيراً([3])...

ومنها:

ذكر دخول التتر ديار بكر والجزيرة وما فعلوه في البلاد من الفساد:

...إن الرجل الواحد منهم كان يدخل القرية أو الدرب، وبه جمع كثير من الناس، فلا يزال يقتلهم واحداً بعد واحد، لا يتجاسر أحد يمد يده إلى ذلك الفارس، ولقد بلغني أن إنساناً منهم أخذ رجلاً، ولم يكن مع التتري ما يقتله به، فقال له ضع رأسك على الأرض ولا تبرح، فوضع رأسه، ومضى التتري أحضر سيفاً فقتله به. وحكى لي رجل قال: كنت أنا ومعي سبعة عشر رجلاً في طريق، فجاءنا فارس من التتر، وقال لنا حتى يكتف بعضنا بعضاً، فشرع أصحابي يفعلون ما أمرهم، فقلت لهم: هذا واحد، فلم لا نقتله ونهرب؟ فقالوا: نخاف! فقلت: هذا يريد قتلكم الساعة، فنحن نقتله، فلعل الله يخلصنا، فوالله ما جسر أحد أن يفعل ذلك! فأخذت سكيناً وقتلته وهربنا فنجونا، وأمثال ذلك كثير([4])...

- أقول: ما دام القتل مؤكداً، وما دام في الدفاع عن النفس إمكانية للنجاة، إذن، فلم يكن ذلك الاستسلام بسبب الخوف فقط، ولو كان الخوف وحده هو السبب لهربوا على الأقل، إن لم يدافعوا! ولو محصنا الأمور لرأينا أن السبب الأساسي هو (مقام التوكل، أو التسليم، أو عدم الاعتراض)، الذي جرتهم إليه الصوفية، وعلى رأسها الرفاعية التي كانت واسعة الانتشار، بسبب ضرب الشيش، والهجوم على النار، وأكل الحيات... ثم القادرية ثم بقية الطرق.

ومنها:

ذكر وصول طائفة من التتر إلى أربل ودقوقا:

...(يذكر حوادث مذهلة) إلى أن يقول: وعادوا (أي: التتر) سالمين، لم يذعرهم أحد، ولا وقف في وجههم فارس! وهذه مصائب وحوادث لم ير الناس من قديم الزمان وحديثه ما يقاربها! فالله سبحانه يلطف بالمسلمين ويرحمهم ويرد هذا العدو عنهم([5])...اهـ.

- هنا أذكر تقريراً لصاحب كتاب (الفكر الشيعي والنزعات الصوفية)، يقول:

...وجلا ابن تيمية حقيقة أخرى، حين قرر أن ظهور الأحمدية (الرفاعية)، وإضعافهم الوازع الديني المتصل بالفقه الإسلامي مباشرة، وتخديرهم الناس، وحملهم على الخمول والكسل والتسليم، كان أكبر أسباب ظهور التتار([6]). اهـ.

- أقول: إن دور العقيدة التي غرستها الصوفية أقوى من دور الخمول والكسل، ولنسمع شاعرهم يقول:

يا خائفين من التتر

عوذوا بقبر أبي عمر

ينجيكمو من الضرر([7])

وهذا تقرير آخر، لأبي الحسن الندوي، يقول:

كانت العقائد والتقاليد المشركة نالت رواجاً بين عامة المسلمين باختلاطهم مع غير المسلمين... وانتشار تعليمات الجهلة والضالة من الصوفية وأعمالهم، فقد وجد عدد وجيه من المسلمين في ذلك الحين يعتقدون في أئمة دينهم ومشايخهم والأولياء والصالحين منهم الاعتقادات الفاسدة... وكل ما كان يدور حول قبور الأولياء والمشايخ كان تقليداً ناجحاً للأعمال والتقاليد التي كانت تنجز في معابد غير المسلمين وقبور المقدسين عندهم، فالاستغاثة منهم والاستعانة بهم، ومد يد الطلب والضراعة إليهم، كل ذلك كان عاماً شائعاً بينهم، كما عمت عادة بناء المساجد الفخمة على قبورهم وجعلها مسجداً، وعقد المهرجانات عليها عاماً فعاماً، وقطع المسافات الطويلة للوصول إليها، وقد تفاقمت هذه العقائد السيئة وانتشرت هذه البدع والمنكرات في أواخر القرن السابع بشكل فظيع([8])... إلخ.

- أقول: كل ما كان يدور حول قبور الأولياء والمشايخ، لم يكن تقليداً ناجحاً للأعمال والتقاليد التي كانت تنجز في معابد غير المسلمين كما قال أبو الحسن! وإنما هو نتيجة طبيعية للصوفية أينما وجدت، يؤمن به كل الصوفية، لكنهم يظهرونه عندما يأخذون قسطاً كافياً من الحرية، ويكتمونه تقيَّةً عندما تتفتح عليهم أعين المسلمين اعتقاداً منهم أن هذا هو رسالة الإسلام، وقد رأينا من أقوالهم مئات النصوص التي تشير إلى هذا.

وترد هنا ملحوظة هامة، هي أن التتر عرفوا للصوفية فضلها في انتصاراتهم التدميرية وقدروها كثيراً، وأعطوها مركزاً مرموقاً، جعلها تهيمن على كل البلاد التي اجتاحها التتر، وقد جلى هذه الحقيقة أحد مشايخ الرفاعية، هو صالح بن عبد الله البطائحي، عندما قال في صراحة تامة لابن تيمية في مناظرته له في مصر سنة 705هـ / 1305م: نحن ما ينفق حالنا إلا عند التتر، وأما عند الشرع فلا.

وكان هذا التقدير الكبير للصوفية من قِبَل التتر الذين دمروا البلاد وأهلكوا العباد سبباً آخر لإقبال الناس، من أهل البلاد التي اجتاحها التتر، ومن التتر أيضاً، إقبالاً كاملاً على الصوفية وتقديس مشايخها إلى درجة التأليه، حتى عم البلاء إلا من رحم ربك.

* النتيجة:

الصوفية كانت العامل الأساسي الوحيد وراء الاستسلام العجيب لتلك المجازر التي ما عرف التاريخ مثل هولها حتى ظهور الماركسية سنة 1917م في روسيا، ثم امتدادها بعد ذلك، حيث قتلت من المسلمين وحدهم في مدة (68 عاماً) يزيد عن (100 مليون نسمة)، واحتلت من أراضيهم ما يزيد عن (23 مليون كيلو متر) مربع، وهي تزحف بإصرار وبأساليب مبنية على القوانين العلمية للقضاء على العالم الإسلامي عامة، والعربي خاصة، والمسلمون هم الذين يمهدون لها الطريق، ويزيلون من أمامها العقبات، ويعدون مقاتلة أعداء الماركسية جهاداً في سبيل الله، ولعلهم لم يشعروا بعد أن الماركسية هي اليهودية، وأنها التطبيق العملي لأسطورة الشعب المختار، وأنها تجند البشر لخدمة اليهود، ولعلهم لم يشعروا بعد أنهم مجروفون فيها بشكل أو بآخر، دون أن يشعروا كما وصفهم الرسول صلى الله عليه وسلم: {غثاء كغثاء السيل}. ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، إنا لله وإنا إليه راجعون.

ولعلهم لم يشعروا بعد أن الماركسية هي فتنة الدجال، وستبلغ قمتها بظهور المسيح الدجال، ملك اليهود، مع العلم أن أحوال الماركسية وأساليبها وغاياتها (التي لم يشعر بها المسلمون بعد) تطابق أوصاف الرسول لفتنة الدجال مطابقة تامة، وأنها لا تجري بقوى سحرية، وإنما بالدعاية الرمادية الغزيرة منذ عقودها الأولى، حيث اقتنع المسلمون بأوهام لا واقع لها، وصارت عندهم هذه الأوهام حقائق بدهية من طول ما سمعوه من دعاية موجهة وكثرتها، وأصبح المسلمون لا يرون كافراً ولا عدواً للإسلام إلا مَنْ يحارب الماركسية.

* الفرق المذهبية:

يمكن أن نميز في الفرق المذهبية عند المسلمين عدة حالات:

أ- فرق ذاتُ منشأ غير صوفي، نشأت فيها طرق صوفية، فشحنتها بالأعداد الكثيرة التي أعطتها الدفع اللازم للاستمرار.

ب- فرق صوفية المنشأ والمسير، يعتبرون أنفسهم صوفية حتى الآن، بينما هم غدوا فرقاً متميزة.

ج- فرق صوفية المنشأ، تطورت حتى نسي أهلها منشأهم الصوفي، وصاروا على دين جديد.

د- فرق لم تنشأ فيها طرق صوفية، فاضمحلت وذابت في إحدى الفرق السابقة أو رجعت إلى الإسلام.

هـ- فرق لم يكن للصوفية فيها دور ملحوظ، ورغم ذلك استمرت مسيرتها، لكنها الآن قليلة الأتباع نسبياً، ولعله لا يوجد منها غير فرقتين: الزيدية بفروعها (السليمانية، والصالحية، والجارودية..)، والإباضية، مع ملحوظة هامة هي: لو اعتبرت الزيدية الصالحية والسليمانية (فقط) مذهباً خامساً، والإباضية مذهباً سادساً، لما كان هذا الاعتبار بعيداً عن الواقع، مع اعتراض على الإباضية، لقولهم بتكفير علي بن أبي طالب.

وفيما يلي، نستعرض بإيجاز أبرز الفرق في عصرنا الحاضر، التي لعبت الصوفية دورها في وجودها أو في استمراريتها:

* الإسماعيلية:

يحتاج التوضيح الموجز إلى دور الصوفية فيها إلى صفحات كثيرة، لذلك نكتفي بإيراد بعض أقوال لبعض الباحثين:

يقول عارف تامر، وهو إسماعيلي من السلمية، في تقديمه لقصيدة عامر بن عامر:

...مما لا ريب فيه أن في القصيدة آراء إسماعيلية ظاهرة، وتعابير إسماعيلية باطنية لا تخفى على المطلعين، ولعل هذا يثبت نظريتنا القائلة بأن المدرستين، الإسماعيلية والصوفية، كانتا متلازمتين تتأثران ببعضهما البعض بالنسبة لوقائع الأزمنة والأحوال([9])...

ويقول الدكتور سيد حسين نصر:

فقد كانت هناك بعض الصلات بين التصوف والتشيع- وعلى الأخص بطابعه الإسماعيلي- كما يبدو مما ذكره إخوان الصفا عن التصوف في رسائلهم، وهم إن لم يكونوا حتماً من أصل إسماعيلي، فهم بلا ريب قد نشئوا في وسط شيعي، واقترن ذكرهم فيما بعد بالحركة الإسماعيلية([10])... اهـ.

- وأضيف: إن العقائد والشطحات عند الإسماعيلية بشكل عام، وعند الحسن بن الصباح منذ استيلائه على قلعة (آلَهْ مُوت) في نواحي قزوين سنة 483 هـ، وعند خلفائه، بشكل خاص، سواء في الأقوال أو الأفعال، وكذلك عند سنان راشد الدين الذي استولى على عدة قلاع في الشمال الغربي من الشام، في النصف الثاني من القرن السادس الهجري، وما يذكر عنه من خوارق تدل على قيامه بالرياضة الإشراقية، وتقديسهم لابن عربي وأفعاله، وتبنيهم تفاسيره الإشارية، كل هذا دليل على دور الصوفية في الإسماعيلية.

وهذه كلمة لعالم من علمائهم شهاب الدين بن نصر ذي الجوشن الديلمي المينفي (نسبة إلى المينفة في شمال غربي سورية)، تظهر فيها وحدة الوجود إلى جانب العقيدة الرئيسية عندهم، يقول:

اعلم أيها الأخ البار الرحيم الرشيد، بأن التوحيد هو صفة الموحَّد المجيد، وهو درجة العقل الفعال، وأحد الحقيقة، والمبدَع الأول، وينبوع الوجود، ومصدر العدد، فمنه إشراق أنوار الكلمة العلية، ومبتدأ الوجود، وابتداع المنزه المعبود، والواحد الفرد الصمد، الذي من جوهره وجدت الموجودات، فلزمتها صفة الأعداد والأزواج والأفراد، وإليه عودتها حين المعاد([11])...اهـ.

تبدو العقيدة الإسماعيلية في هذا النص في (العقل الفعال) وأوصافه، وتبدو وحدة الوجود في قوله: (الذي من جوهره وجدت الموجودات...وإليه عودتها حين المعاد. وشطحاتهم في الأقوال والأفعال، التي هي، بطبيعة الحال، تشبه أحوال متعاطي الحشيش، دعت أعداءهم إلى تسميتهم بـ (الحشاشين)، وانتشر الاسم.

والإسماعيلية تنقسم إلى فرقتين رئيسيتين: النزارية أو (الآغاخانية)، والمستعلية أو (البوهرة)، وكانت الشعائر الإسلامية قد ألغيت عند النزارية منذ العقود الأخيرة في الموت، قبل أن يهدمها التتر؛ لكنهم الآن عادوا إلى تطبيقها على المذهب الشافعي، وعسى أن يرتق الله سبحانه بهم بعض الفتق.

* النصيرية:-

مؤسسها أبو شعيب محمد بن نصير النميري (بالولاء)، مات حوالي سنة (270هـ)، وخلفه تلميذه محمد بن جندب، وكانت مدته قصيرة، وكانت الطائفة في زمنهما قليلة، تتألف من بعض الشيعة الذين قبلوا أقوال ابن نصير. وبعد موت محمد بن جندب بعد عام (270هـ) بقليل، خلفه أبو محمد عبد الله بن محمد الجنان الجنبلاني (مات سنة 287هـ)، وكان يقيم في فارس في بلدة (جنبلا)، ولذلك اشتهر أيضاً بـ (الفارسي)، وقد أحدث طريقة صوفية عرفت بـ(الجنبلانية)، وكانت مثل غيرها من الطرق، تجتذب المريدين المخدوعين من سنة وشيعة، وأكثرهم من السنة؛ لأن أهل السنة كانوا يشكلون الأكثرية الساحقة، وكان كل من دخل الطريقة يتحول مباشرة إلى النصيرية اتباعاً لشيخه، وبذلك ازداد أتباع المذهب النصيري ازدياداً كبيراً.

سافر الجنبلاني إلى مصر، حيث انتسب إلى طريقته الحسين بن حمدان الخصيـبي الذي صحب الجنبلاني في عودته إلى فارس، ثم خلفه في مشيخة الطريقة وفي الرئاسة الدينية للطائفة، وقد انتقل إلى حلب، وجعلها موطناً له، وانتشرت الطريقة في عهده بسرعة، وخاصة في سنجار، وانتشارها يعني انتشار المذهب النصيري، وقد ساعد على انتشار الطريقة والمذهب طول عمر الخصيـبي، الذي عاش حتى سنة (358هـ).

ونورد قولاً في هذا الموضوع لمؤرخ نصيري هو محمد أمين غالب الطويل([12])، يقول: كان السيد أبو سعيد سرور (مات سنة 426 هـ)، أكبر مؤلف بين العلويين، وهو آخر شيخ منفرد بالطريقة الجنبلانية التي استحالت بعد ذلك، وتشكل منها شعب العلويين([13])...(العلويون) اسمٌ ثانٍ للنصيرية استحدث زمن الاستعمار الفرنسي، ويسمون أيضاً (العلي إلهيون).

* اليزيدية (عبدة الشيطان):-

وهي في الأصل طريقة صوفية هي الطريقة العدوية، مؤسسها عدي بن مسافر الأموي، من نسل مروان بن الحكم، وقد تتلمذ على عبد القادر الجيلاني.

كانت بلاد سنجار بجبالها ووديانها شبه منعزلة عن العالم، فترعرعت فيها النصيرية الجنبلانية بحرية، حتى استوت، وعندما هاجر منها النصيريون إلى المناطق الشمالية الغربية من سورية عام (620هـ)، خلفهم فيها أتباع الطريقة العدوية، إذ كان مقر عدي بن مسافر هناك، وترعرعت هذه الطريقة بعيداً بعض الشيء عن أعين المسلمين وعلماء الإسلام، وأخذت حريتها الكاملة، ومن الطبيعي أن تظهر بين مشايخها الأمويين وأتباعهم ردود فعل تتناسب شدتها مع شدة غلو النصيرية في شتمهم للأمويين، وخاصة يزيد بن معاوية، وردود الفعل هذه، مضاف إليها طبيعة الصوفية الخاضعة دوماً للكشف وتوجهاته، والذي هو خاضع بدوره لأهواء الشيخ الكامنة في نفسه من جهة، ووسوسات شياطين الجن والإنس من جهة ثانية، ومضاف إليها الجهل الذي تفرضه الصوفية على أتباعها، كل هذا جعل الانحراف المقابل للتشيع يسير بسرعة حتى استوى في مدة وجيزة وظهر الزيغ والضلال في زمن شيخها حسن بن عدي بن صخر بن أبي البركات بن صخر بن مسافر، وصخر بن مسافر هذا هو أخو عدي بن مسافر الذي عمر حتى تجاوز التسعين من عمره.

مات حسن بن عدي سنة (644هـ) مقتولاً على الزندقة، وهو ابن ثلاث وخمسين سنة، ولا بد من أن يكون بعض التطور قد حدث بعده في الطريقة.

ولعل النصيرية هم الذي أطلقوا عليهم اسم (اليزيدية) للتشنيع، بينما قبلوه هم لأنهم كانوا يرون فيه شرفاً لا تشنيعاً بسبب أموية شيوخهم، وهذا يعني أن هذا الاسم يجب أن يكون قد انتشر قبل هجرة النصيرية (وهو كذلك).

ولعل مقام الورع الذي تحقق به مشايخهم، وكانوا يحثونهم عليه، هو الذي أوصلهم إلى عبادة الشيطان! فقد كانوا لشدة تحققهم بهذا المقام، يتورعون عن السب واللعن، حتى عن لعن الشيطان (بدلاً من سب الشيطان قل: لا إله إلا الله)، ثم مع مثابرتهم على التمسك بهذا المقام- ولعل عوامل أخرى تدخلت في الموضوع- صاروا يعنفون من يسب الشيطان، ومع الزمن، وزيادة الورع، تحول هذا إلى تقديس الشيطان ثم إلى عبادة له.

* الدرزية:-

تؤمن الدرزية أن الزمن يقسم إلى أكوار، وكل كور إلى أدوار، وأن الله سبحانه يتأنس (يظهر بصورة إنسان) في أول كل دور، وأنه (سبحانه وتعالى) في الدور الأخير من الكور الحالي تأنس بصورة الخليفة الفاطمي (الحاكم).

مؤسس الدرزية هو الحمزة بن علي الزوزني (اختفى سنة 411 هـ بعد اختفاء الحاكم)، ومما ينعت به: علة العلل، العقل الأول، النور الكلي، الجوهر الأزلي، فيه بدأت الأنوار، ومنه برزت الجواهر، وعنه ظهرت العناصر، ومنه تفرعت الأصول، وبه تنوعت الأجناس، أصل الوجود، قائم الزمان، هادي المستجيبين... ذو معة. وكانت دعوته بدعم مباشر من الحاكم.

ويأتي بعده في المرتبة الدينية إسماعيل بن محمد التميمي (النفس الكلية، المشيئة...ذو مصَّة)، ثم محمد بن وهب القرشي (الكلمة...)، ثم سلامة بن عبد الوهاب السامري (السابق، الجناح الأيمن..)، ثم علي بن أحمد السموقي الطائي (التالي، الجناح الأيسر..)، المعروف بلقب بهاء الدين الضيف (اختفى سنة 434هـ/ 1042م)، ومدته في الدعوة أطول من مدة الأربعة مجتمعين. وهؤلاء يدعون (الحدود الخمسة).

تظهر وحدة الوجود واضحة في أوصاف الحمزة بن علي: فيه بدأت الأنوار، ومنه برزت الجواهر، عنه ظهرت العناصر...إلخ، كما تشم منها زاخمة رائحة الكشف والرؤى الكشفية.

وتصف الدكتورة نجلاء عز الدين مؤلفة كتاب: (الدروز في التاريخ) الحاكم بقولها:

...فالحاكم كغيره من الصوفية، خبر المعراج الروحي فغاب بشهوده عن وجوده... يتكلم وكأن الله هو المتكلم، فيقول: وكما سما أناس بحبنا إلى الفناء في ذاتنا، فلولا المحبة لما فنوا ولما وصلوا إلى طريق الارتقاء إلى العالم الأقدس([14]) لو رجعنا إلى فصل لا طريقة بدون شيخ، لرأينا التشابه التام بين هذا القول وأقوال مشايخ الصوفية).

وجاء في الرسالة الثالثة عشر من رسائل الحكمة (كتاب الدروز): إن المولى سبحانه لا يدخل تحت الأسماء والصفات واللغات...هو الموجود في الحقيقة ولا غيره موجود([15]). (هذا نفس قول الصوفية).

وتقول المؤلفة أيضاً (وهي درزية): إن مذهب الدروز مسلك صوفي عرفاني...فالسالك بعد أن يكون قد ارتاض بالعمل بموجب ظاهر الشريعة وباطنها يصل إلى مرحلة يصبح عندها مهيأً لتقبل الحقيقة دون حاجة إلى شعائر ووسائط...إن ما هو أهم من ظاهر العبادات معناها الحقيقي، وهو الرياضة الروحية...فتصبح النفس مهيأة للمثول أمام خالقها، فتبلغ بنعمة المولى ولطفه مرتبة المشاهدة([16])...

وفي ترجمتها للأمير السيد جمال الدين عبد الله التنوخي، وهو يلي الحدود الخمسة في المقام (ت:884 هـ/ 1479 م)، تقول: ...فهو (أي: عبد الله التنوخي) ينبوع الخيرات ومعدن البركات...العارف بالله الرباني...سرعان ما انتشرت شهرته كولي من أولياء الله الصالحين([17])...

وتقول: إن كتابات السيد مفعمة بروح صوفية، فقد اتبع خطا الصوفية في الوصول إلى معرفة الله([18])...

ومما تورده من أقواله: ...فمتى قهرت النفس الشهوات أصبحت خاضعة لله، مراقبة لباريها، سائرة إلى معرفته، فيمن عليها الصفاء والإشراق([19])...

وفي كتاب إلى عبد القادر ريان، أحد المريدين، يقول السيد: وقاعدة السعادة في الدين والدنيا أن يستشعر العبد حضور خالقه في سره وطويته وظاهره وباطنه...وتأتي المشاهدة بعد الانصراف عن كل ما هو سوى الله([20]).. اهـ.

* النتيجة:

الصوفية وراء الدرزية، وفي الحقيقة، الدرزية الآن هي الإشراق ذاته غير ممزوج بشيء (الخلوة والرياضة حتى الوصول إلى الإشراق)، والنصوص القليلة السابقة واضحة في هذا المدلول، وهم يسمون أنفسهم (الموحدين)، ويسمون مذهبهم (مسلك التوحيد)، ويعنون بذلك نفس المعنى الصوفي، أي: وحدة الوجود. والواصلون منهم يسمون (أعرافاً)، مفردها (عَرْف)، وهو اشتقاق من (العارف)، مع العلم أن هذا (أعراف)، قلما يستعملونه الآن، ويستعملون بدله كلمة (أجاويد)، مفردها (جويِّد).

وهناك دلائل تشير إلى أن الدروز كانوا يقيمون الشعائر الإسلامية حتى زمان متأخر.

* البكطاشية:-

طريقة صوفية في الأصل، وحتى الآن يعتبرها أتباعها طريقة صوفية، رغم أنها صارت مذهباً -بل ديناً- شاذاً عن الإسلام، وقد لا يمضي وقت طويل حتى ينسى أتباعها أنهم أتباع طريقة صوفية، ويرون أنفسهم أهل مذهب خاص.

وهذه بعض معالمها كما يذكرها أحمد حامد الصراف (بغدادي) في كتابه (الشبك).

1- البكطاشية طريقة صوفية لا يتيسر الانخراط في سلكها إلا بعد مضي مدة التجربة، وهي ألف يوم ويوم.

2- البكطاشية تتهاون بأداء الفرائض كالصوم والصلاة والحج والزكاة والجهاد.

3- البكطاشي لا يتحرج في شرب الخمرة، فالخمرة شربها مباح.

4- البكطاشي يعترف عند الباب أو البير بما ارتكبه من آثام ويتلقى منه المغفرة.

5- البكطاشي يغالي في الإمام علي، ويرفعه إلى مقام الألوهية([21]). اهـ.

والبكطاشية منتشرة في تركيا وشرق أوروبا، ويقال: إن عدد أتباعها في تركيا وحدها يزيد على ثلاثة عشر مليوناً، وكذلك انتشارها في مصر في تزايد مستمر، والبكطاشي شيعي اثناعشري يسمي نفسه سنياً.

ويوم 16 آب هو عيدهم، حيث يجتمع الآلاف منهم بالألبسة الزاهية، يطوفون حول القبر المقدس في نوشهر في تركيا، ويقيمون الرقصات والأذكار الخاصة، وعلى رءوسهم قلنسوات أسطوانية ذات 12 طية، إشارة إلى الأئمة الاثني عشر، أئمة الشيعة، وحركاتهم في الرقص (الحضرة) عنيفة، ويبقى العيد ثلاثة أيام.

* المتاولة:

شيعة الهند وإيران والعراق الجنوبي وجبل عامل (الشرخ الأكبر في جسم الأمة الإسلامية):-

ما كان التتار في غزواتهم حملة عقيدة يسعون إلى نشرها، وما كان غزوهم إلا من أجل العلو أو الانتقام أو النهب) ولمجرد الغزو والفتح، وكانت عقائدهم التي يدينون بها متشعبة وثنية ساذجة تنفر منها الفطرة السليمة.

عندما تصطدم أمة، هذه حالها، بعقيدة واضحة، متلائمة مع الفطرة، مستقيمة مع المنطق، صادقة المنهج، فسرعان ما تستسلم هذه الأمة لهذه العقيدة.

وهذا ما حدث للتتار، فبعد جيل (في مكان)، أو جيلين (في مكان آخر)، أو أكثر بقليل (في مكان ثالث)، أخذ التتار يدخلون في الإسلام زرافات ووحداناً.

وبما أن الصوفية كانت واسعة الانتشار جداً، لذلك كان دعاة الإسلام بين التتار خليطاً من مسلمين صحيحي العقيدة ومن متصوفة، مما جعل دخول قسم لا بأس به من التتار إلى الإسلام على أيدي متصوفة، وخاصة من مشايخ الطريقة الرفاعية الذين كانوا يذهلونهم بالخوارق التي يجرونها أمامهم.

وهنا يجب ألا ننسى أن المتصوفة يظهرون الشريعة ويبطنون الحقيقة (حقيقتهم)، فهم عندما كانوا بخوارقهم يجتذبون التتار إلى الإسلام، كانوا يجتذبونهم إلى الشريعة الإسلامية حسب الظاهر، ثم بعد ذلك يجرونهم وراءهم في طريق التصوف.

كما يجب ألا ننسى أبداً أن إبليس ماهر في الحساب، يتقن الجمع والطرح، ويعرف أن العشرة أكثر من الواحد.

ويجب كذلك ألا ننسى أبداً أن إبليس كان يعرف أن التتار ليسوا حملة عقيدة، وأنهم باختلاطهم مع المسلمين سوف يسلمون، إن لم يكن في هذا الجيل، ففي الذي بعده.

وبذلك كان يعرف أن إدخال أعداد من التتار في الإسلام بواسطة المتصوفة لإضلال أضعاف أضعاف أضعافهم، هو عملية مربحة جداً له.

ولذلك كان وجنده يقدمون خدماتهم للمتصوفة بإجراء تلك الخوارق، وبكل تأكيد، كانوا يقدمونها بحماس، مما سبب دخول أعداد من التتار في الإسلام.

زاد بذلك افتتان الناس بالصوفية، وغدا الشيخ الصوفي إلهاً يعبد ويسجد له، وصارت تقدم له الأدعية والنذور والقرابين، ويتبرك حتى ببوله وخرئه، وصارت الطلاسم والأوراد والأحزاب والقبور هي هم المسلم، وكان الجهل هو المساعد الأكبر.

في ذلك الوقت، أي: في النصف الثاني من القرن السابع (بعد الغزو التتاري)، وما بعده، كان للتشيع فرق كثيرة (قليلة الأتباع)، يمكن توزيعها على ثلاث مجموعات هي:

أ- الغلاة: وأبرزهم النصيرية، وكانوا منتشرين في شمالي سورية وفي جيوب صغيرة في العراق وفارس، وكانوا يسمون أيضاً (العلي إلهيون).

ب- الأقل غلواً: وأبرزهم الإسماعيلية والزيدية الجارودية، وكانوا منتشرين في البحرين واليمن والشام وفي جيوب في فارس، وكانت الزيدية في فارس أكثر من الإسماعيلية، ولا يعرف لها وجود متميز في الشام.

ج- المعتدلة: وأبرزهم الزيدية الصالحية والسليمانية في فارس والعراق واليمن، وكذلك شيعة جبل عامل في جنوب لبنان، والحلة وما حولها في العراق، وفي جيوب صغيرة في فارس والشام.

والشيعة المعتدلة هؤلاء كانوا يحترمون صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم كلهم، لكنهم يفضلون علي بن أبي طالب، ويرونه أحق بالخلافة من أبي بكر وعمر وعثمان، ويشتمون الأمويين، وخاصة يزيد بن معاوية، ويرون أن الخلافة يجب أن تكون في العلويين، وأن العباسيين مغتصبون لها، وكانوا يتبعون المذاهب السنية في الفقه.

جاء القرن الثامن والتاسع، والمسلمون (ويهمنا هنا البلاد التي اجتاحها المغول) على هذه الحال، ومن البدهي أن يظهر في الشيعة متصوفة، حيث عمل مثقفوهم على الجمع بين التصوف والتشيع، ساعدتهم طبيعة الصوفية بما فيها من باطنية وادعاء النسب لآل البيت، وزعم التسلسل الذي يوصلونه إلى علي بن أبي طالب عن طريق الأئمة الاثني عشر، لكنهم كانوا يبثون عقائدهم هذه بصورة محدودة بين خواصهم وبعض غيرهم، كما ألف بعضهم كتباً في هذا الشأن، أي إنهم لم يؤسسوا طرقاً صوفية ويحاولوا تشييعها، بل اكتفوا بما كانوا يلقونه من دروس ومواعظ ومناقشات، أو بما كانوا يؤلفون من الكتب، منهم:

آل طاوُس: الذين بقيت نقابة الأشراف فيهم عشرات السنين، وكانوا يعدون أولياء ذوي كرامات أحياءً وأمواتاً، حتى لقد صار قبر السيد أحمد بن طاوُس مزاراً مشهوراً، وحتى تحرج العامة والخاصة عن الحلف به كذباً خوفاً([22]). وأهمهم.

- نقيب الأشراف رضي الدين علي بن طاوُس، توفي سنة (644هـ)، قبل دخول التتار إلى بغداد.

- وبعده نقيب الأشراف جمال الدين محمد بن طاوُس، توفي بعد سنة (672هـ) بقليل.

- وبعده غياث الدين عبد الكريم بن أحمد بن طاوُس، توفي سنة (693هـ).

ومن غير آل طاوس:

- كمال الدين ميثم بن علي بن ميثم البحراني مات سنة (679هـ).

- عز الدين، أبو الفضل عامر بن عامر البصري، من أحياء العقود الأولى من القرن الثامن، نظم قصيدة سماها (ذات الأنوار)، عدد أبياتها (507) أبيات، وعدد فصولها (12) فصلاً، نظمها سنة (705هـ)، (لنلاحظ أن 5+7=12 وهو عدد الأئمة الإثني عشرية)([23])، وقصيدته هذه التي مطلعها:

تجلى لي المحبوب في كل وجهة                  فشاهدته في كل معنى وصورة

هى التي يعزو عبد الوهاب الشعراني في طبقاته أبياتها الأوائل إلى إبراهيم الدسوقي، وتوحي هذه القصيدة بأن عامر بن عامر إسماعيلي، تصوف في الطريقة البكطاشية، فصار اثني عشرياً إسماعيلياً.

- الحسن بن يوسف بن مطهر الحلي، تلميذ نصير الدين الطوسي، صاحب كتاب منهاج الكرامة، الذي نقضه ابن تيمية في كتابه (منهاج السنة)، مات ابن المطهر سنة (727هـ)، وقد تشيع به جماعات كثيرة.

وهناك غيرهم أعداد.

هؤلاء أوجدوا هنا وهناك بؤراً شيعية جديدة أضيفت إلى القديمة، وفي هذه البؤر وجد مشايخ الطرق المتشيعون الذين جاءوا فيما بعد دعاة، كانوا عوامل، إلى جانب الشيخ، في إقناع الأتباع بالتشيع.

ثم جاءت الطرق لتكون العامل الحاسم في تشييع فارس وبعض العراق، وقبل إلقاء نظرة سريعة على أبرزها، نعود لإلقاء نظرة ثانية، وسريعة أيضاً، على مدى سيطرة الصوفية على المجتمعات في ذلك الوقت:

مما يقرره أبو الحسن الندوي ناقلاً، يقول:

وآخرون قد جعلوا الميت بمنزلة الإله والشيخ الحي المتعلق به كالنبي، فمن الميت يطلب قضاء الحاجات وكشف الكربات، وأما الحي فالحلال ما حلله والحرام ما حرمه...

فطائفة من هؤلاء يصلون إلى الميت، ويدعو أحدهم الميت، فيقول: اغفر لي وارحمني، ونحو ذلك، ويسجد لقبره، ومنهم من يستقبل القبر، ويصلي إليه مستدبراً الكعبة، ويقول: القبر قبلة الخاصة، والكعبة قبلة العامة، وهذا يقوله من هو أكثر الناس عبادة وزهداً...وآخر من أعيان الشيوخ المتبوعين أصحاب الصدق والاجتهاد في العبادة والزهد، يأمر المريد أول ما يتوب أن يذهب إلى قبر الشيخ، فيعكف عليه عكوف أهل التماثيل، وجمهور هؤلاء المشركين بالقبور يجدون عند عبادة القبور من الرقة والخشوع والدعاء وحضور القلب ما لا يجد أحدهم في مساجد الله تعالى...

حتى إن طائفة من أصحاب الكبائر الذي لا يتحاشون فيما يفعلونه من القبائح، كان إذا رأى قبة الميت أو الهلال الذي على رأس القبة، خشي من فعل الفواحش، ويقول أحدهم لصاحبه. ويحك هذا هلال القبة، فيخشون المدفون تحت الهلال، ولا يخشون الذي خلق السماوات والأرض...

ويحلف أحدهم اليمين الغموس كاذباً، ولا يجترئ أن يحلف بشيخه اليمين الغموس كاذباً، ومنهم من يقول: كل رزق لا يرزقه إياه شيخه لا يريده...

وهؤلاء يجعلون الرسل والمشايخ يدبرون العالم بالخلق والرزق وقضاء الحاجات وكشف الكربات...ومن هؤلاء من يظن أن القبر إذا كان في مدينة أو قرية فإنهم ببركته يرزقون وينصرون، وأنه يندفع عنهم الأعداء والبلاء بسببه([24])...

ثم يقول أبو الحسن الندوي معلقاً ومبيناً:

وكانت النتيجة الحتمية لهذا الإجلال والتعظيم أن تتزايد أهمية المشاهد بإزاء المساجد...فقد انتشرت هذه المشاهد والمزارات في كل ركن من أركان العالم الإسلامي، ووجدت آلاف مؤلفة من القبور المزورة، وتصدى الأمراء والسلاطين لوقف الممتلكات والأراضي الواسعة عليها، وأقيمت عمارات ضخمة وقباب فخمة في أمكنة هذه القبور ومشاهد المشايخ، كما وجدت أمة بأسرها من العاكفين والكناسين والخدم لهذه القبور، ونالت الرحلة إليها كل إعجاب، حتى بدأت تصل قوافل الحجاج إليها من مسافات بعيدة...

إلى أن يقول:

وفي القرنين السابع والثامن، دخلت هذه المشاهد والضرائح في حياة المسلمين الدينية، ونالت عندهم من القبول والمركزية ما جعلها تنافس بيت الله وتتحداه([25])...إلخ.

وهذا تقرير آخر لابن بطوطة (الرحالة) عن تربة أبي إسحاق، إبراهيم بن شهريار الكازروني في كازرون([26])، يقول:

...ومن عادتهم أن يطعموا الوارد كائناً من كان، من الهريسة المصنوعة من اللحم والسمن، وتؤكل بالرقاق، ولا يتركوا الوارد عليهم للسفر حتى يقيم في الضيافة ثلاثة، ويعرض على الشيخ الذي بالزاوية حوائجه، ويذكرها الشيخ للفقراء والملازمين للزاوية وهم يزيدون على مائة...

وهذا الشيخ أبو إسحاق معظم عند أهل الهند، ومن في الصين، ومن عادة الركاب في بحر الصين أنهم إذا تغير عليهم الهواء وخافوا اللصوص نذروا لأبي إسحاق نذراً، أو كتب كل منهم على نفسه ما نذره...وما من مركب يأتي من الصين أو الهند إلا وفيه آلاف من الدنانير، فيأتي الوكلاء من جهة خادم الزاوية فيقبضون ذلك...اهـ.

- أقول: في هذه النصوص كفاية وفوق الكفاية بكثير، لنعرف مدى سيطرة الصوفية، ومدى تأثير المشايخ على العقول، والكتاب كله براهين من أقوالهم على عقائدهم هذه التي يؤمنون بها كلهم ويكتمها الكمل منهم، ويظهرون الشريعة.

وهذه ملحة إضافية من أناشيدهم على لسان شيوخهم:

وأنا صرخت في العرش حتى ضج

وأنا حملت على علي حتى هج

وأنا البحار السبعة من هيبتي ترتج

في هذا المحيط، أخذت الطرق الصوفية تعمل عملها، والبارزة من هذه الطرق هي:

الصفوية:

التي لعبت في هذا المضمار دورين: دورا تأسيسياً في مراحلها الأولى، ثم الدور الحاسم في مراحلها الأخيرة.

مؤسسها هو صفي الدين إسحاق بن أمين الدين جبرائيل الأردبيلي، والظاهر أنه تركي الأصل؛ لكنه مع ذلك من سلالة الحسن أو الحسين (الشك من ابنه)، ولد صفي الدين سنة (650هـ)، ومات سنة (735هـ) على الأرجح، أخذ الطريقة (لعلها القادرية) عن الشيخ إبراهيم الزاهد الكيلاني المتوفى سنة (700هـ) في كيلان، ثم أسس طريقته التي انتشرت في أردبيل وقزوين وما حولهما، وتسربت إلى غيرها من البلدان القريبة.

كان أتباعها يتحولون إلى شيعة (معتدلة) بسبب تشيع شيوخهم ونسبهم العلوي (المدعى)، ودعوتهم إياهم إلى التشيع؛ لأن المريد يجب أن يكون بين يدي شيخه كالميت بين يدي الغاسل، وكان أتباعه قبل الشروع بالحضرة يسجدون له، ثم يتابعون حضرتهم، وهي من الجالسة الصائتة، وقد أخذت الطريقة النعمتللاهية هذا التقليد عن الصفوية([27]).

السنية السعدية: مؤسسها سعد الدين محمد بن المؤيد...بن حمويه، مات في خراسان سنة (650هـ-1252م)، لقبوه بـ (يسعى العجم)، شيعي من تلاميذ ابن عربي (الشيخ الأكبر)، أسس طريقته في دمشق، ثم انتقل إلى خراسان لينشرها هناك. و(يسعى العجم) هذا هو خاتم الأولياء، الذي هو معاد النبي، ومغرب جميع الأنوار المنتشرة في العلويات والسفليات...وهو مظهر قيام الساعة، يعني: قيام نفس الولاية التي تعم الإلهية، وكان (يسعى العجم) هذا يمثل العلم الإلهي المتسلسل من آدم إلى محمد ومندمجاً على ثمرة (تعليم الأسماء وعلم البيان)([28])...

ويسعى العجم هذا نزلت عليه سكينة الله فصار بها حياً باقياً خالداً دائماً في هذه الدار، وأعطاه السلام مفاتيح الغيب...وهكذا صار (يسعى العجم) إنساناً إلهياً لا يختلف عن الله حتى في الخلود([29])..اهـ.

- أقول: ما على القارئ إلا أن يتخيل رجلاً هذه صفاته التي يؤمن بها أتباعه وغيرهم، وهو شيعي يدعوهم إلى التشيع! فهل يمكن أن يوجد في هؤلاء الأتباع من لا يستجيب له؟ وهكذا انتشر التشيع في شرقي إيران، وإن كان انتشاراً محدوداً؛ لأن انتشار الطريقة السنية السعدية لم يكن واسعاً مثل الصفوية مثلاً، ويجب ألا ننسى أن شيخ يسعى العجم، الذي هو محيي الدين بن عربي، كان شيعياً أيضاً([30])، ويجعله الإسماعيلية من أئمتهم.

الحروفية: مؤسسها فضل الله بن عبد الرحمن الحسيني الاستراباذي، شيعي كان يتنقل بين مدن فارس، قتله ميران شاه بن تيمورلنك سنة (804هـ)، له ثلاثة كتب مقدسة: الجاردان نامة، أي: كتاب الخلود، ومحبة نامة، وعرش نامة، والأخيران شعر.

كان الجاردان نامة يدرس سراً، ولخليفته الثاني (علي الأعلى) شرح عليه.

في سنة (786هـ-1384م)، أعلن فضل الله مهديته (مهدي السنة طبعاً) بين أخصائه، وتلقى البيعة سراً([31])...وكانت دعوته مبنية على أنه خليفة الله كآدم وعيسى ومحمد، اجتمعت فيه مُثُل الصوفية والشيعة لإنقاذ العالم بالدم، فكان مهدياً وختماً للأولياء ونبياً وإلهاً في وقت واحد([32]).

وبدهي أن يتبع الأتباع شيخهم بالتشيع، لأن المريد يجب أن يكون بين يدي الشيخ كالميت بين يدي الغاسل. وطبعاً، كان الجهل أكبر مساعد.

ومما يجدر ذكره أن علم الحروف، رغم كونه من مستلزمات الكهانة أو (الصوفية؛ لا فرق) في جميع حالاتها، إلا أنه كان مقتصراً على الشيوخ والعارفين، حتى جاءت الحروفية فعممته، وصار علم الحروف (السحر) حرفة ووسيلة لتسخير الطبيعة، بقطع النظر عن كون المستخدم لها براً أو فاجراً، وانشغل الصوفية (وغيرهم) به لرسم الهياكل والطلاسم([33])...والمحبة والقبول والشفاء من الأمراض وغيرها...

ورغم أن الطريقة الحروفية اندثرت باندماجها في البكطاشية فيما بعد؛ إلا أنها تركت أثرها الحروفي في كل الطرق، وبالتالي في الأمة جمعاء، إلا من رحم ربك، وهكذا صار علم الحروف (السحر) من المظاهر البارزة في ثقافة الأمة جمعاء، إلى جانب القبوريات وخوارق المشايخ وتغريبة بني هلال وقصة سيف بن ذي يزن، وكذلك ظهر أثرها بعد زمن في الشيخية، ثم في البابية والبهائية.

الهمدانية:

مؤسسها علي بن الشهاب الهمداني، شيعي فارسي تخرج بالكبروية، وكاد أكثر مريديه من السنة الذين تشيعوا اتباعاً لشيخهم، وكان الجهل أكبر مساعد، مات علي الهمداني سنة (786هـ)، وسار خلفاؤه على نهجه بتشييع أتباعهم على النفس الطويل، وفي الهمدانية تخرج نور بخش.

في هذه العقود -أي: النصف الثاني من القرن الثامن- ظهر أيضاً كتاب من الشيعة المتصوفة دعوا إلى الجمع بين التصوف والتشيع، لعل أشهرهم: بهاء الدين، حيدر بن علي العبيدي الآملي، مات بعد سنة (794هـ)، له كتاب كان مشهوراً، اسمه (جامع الأسرار ومنبع الأنوار في أن عقائد الصوفية موافقة لمذهب الإمامية الإثني عشرية)، وله كتاب في التصوف اسمه: (نص النصوص في شرح الفصوص)، أي: شرح (فصوص الحكم لابن عربي. وبهاء الدين هذا من أتباع الطريقة الأكبرية العربية الحاتمية([34]).

- ومن الظواهر البارزة في هذه العقود، تيمورلنك والحركة التيمورلنكية، ننقل جملة موجزة عنه من (الفكر الشيعي والنزعات الصوفية):

... فقد بدأ تيمور علاقاته الشخصية بالصوفية...اتصل في مطلع شبابه في (كش) بالشيخ شمس الدين الفاخوري، وفي خراسان بالشيخ أبي بكر الخوافي (ت: 838 هـ)، ولما ارتفع نجم تيمور غلب عليه السيد محمد بركة (ت: 804)، ولهذا روي عنه أنه كان يقول: جميع ما نلته بدعوة الشيخ شمس الدين الفاخوري، وهمة الشيخ زين الدين الخوافي والسيد محمد بركة. يضاف إلى هذا أن تيمور كان يزور الصوفية ويكرمهم أينما حل، ويزور قبور شيوخهم، حتى إنه لما فتح العراق، قصد إلى واسط، ليزور قبر السيد أحمد الرفاعي. وفي مقابل هذا كان الصوفية يدعون لتيمور ويؤيدونه، وبخاصة أنه لبس الخرقة منهم، فصار بذلك واحداً منهم، واعتبرت أعماله كرامات صوفية، وصار مظهر تجليات الحق الجمالية والجلالية، ووصفت أعماله كلها بصدورها عن الإلهام الإلهي والهاتف السماوي وأنباء الغيب([35]).... اهـ.

كان تيمورلنك سني المذهب، نشأ في مجتمع سني على مذهب أبي حنيفة، وقد قاده تصوفه إلى التفاعل الكامل مع الطريقة الصفوية الشيعية، فعندما اتصل بشيخها صدر الدين موسى (ت: 794 هـ) ابن صفي الدين وخليفته، أقطعه مدينة أردبيل وما حولها، فصار صدر الدين الحاكم الفعلي لأردبيل، بالإضافة إلى سلطته الصوفية المؤلهة، كما وهب ابنه وخليفته (علاء الدين علي) الأسرى الذين وقعوا في قبضته في حروبه في بلاد الروم([36]) سنة (804هـ-1401-1402م)، فسموا (الصوفية الرومللو). بينما نرى تيمورلنك هذا يجتهد في محاربة أهل السنة، وعندما ينتصر عليهم يعاملهم بقسوة بالغة، وخاصة دمشق التي أبادها إبادة كاملة، بحجة أن أهلها شاركوا في مقتل علي والحسين رضي الله عنهما، وأنهم من أتباع الأمويين.

يقول كامل مصطفى الشيبي:

جمع تيمورلنك بين العاطفة الشيعية والفقه السني.

ويقول: كان من الطبيعي أن تظهر في عهد تيمور حركات شيعية غالية، وذلك لغلبة التصوف وارتفاع شأن العلويين([37]).

ويحسن أن نذكر هنا أن (خدابندة) خليفة قازان، تشيع وأعلن التشيع في جميع مملكته، لكن ذلك لم يجد شيئاً لندرة دعاة الشيعة في بلاده آنذاك؛ ولأن العقيدة لا يمكن أن تفرض بمرسوم يصدر عن الحاكم؛ ولأن هذا الإعلان دفع دعاة السنة إلى النشاط في الدفاع عن الإسلام، مات خدابندة (716هـ-1316م).

وفي القرن التاسع الهجري ظهرت الطرق التي كان لها الدور الحاسم والنهائي في تحويل الفرس إلى شيعة، هذه الطرق هي: النوربخشية، المشعشعية، النعمتللاهية، ثم الصفوية في دورها الثاني.

قبل إلقاء نظرة سريعة على هذه الطرق، لا بأس من قراءة تضاف إلى ما سبق لبعض ما يقوله الباحثون في وصف الظروف التي كانت تعيشها المجتمعات المسلمة في فارس وغيرها، يقول (الشيبي):

...لقد كانت روح اليأس والشعور بالضعف تملأ المجتمع الإسلامي في هذه الفترة إلى حد أن السلاطين الذين كان بيدهم زمام الأمور، جعلوا وسيلتهم إلى تحقيق مطامعهم اللجوء إلى الطلاسم والأدعية على طريقة البوني([38]). وكان من انتشار هذا الميل بين الناس أن انتصار (شاهرخ) على قرا يوسف في سنة (828هـ-1420م) نسب إلى تلاوة القراء لسورة الفتح اثني عشر ألف مرة، ومن هنا جعل المصنفون يتجهون إلى هذا النوع من المعرفة، ويسجلون ما مر بهم من حوادث مماثلة، ليجعلوا من هذا التصرف علماً قائماً بذاته، ومن أمثال ذلك ما فعله (الغياثي) المعاصر لابن فلاح من تعليل قتل (بير بودان) سنة (870هـ-1466م) بكونه من تأثير القران الثاني بالسرطان، وقتل (جهانشاه) هازم (بير بودان) سنة 872هـ تحقيقاً لنبوءة القرآن في قوله: ((غُلِبَتِ الرُّومُ)) [الروم:2]، باعتبار هذه السنة تقابل قيمة ((بِضْعِ سِنِينَ)) [الروم:4]([39])القرآنية الواردة في هذه السورة، وهزيمة جهانشاه على يد حسن بك بقول عبد الرحمن البسطامي (من الحروفيين): إذا زاد الجيم في الطغيان فمعه ميم ابن عثمان. وقد قرنت الأحداث التي تمت على يد المشعشعين بقرانات مثل هذه أيضاً...ومن هنا كان في إمكان الإنسان أن يستكنه المستقبل عن طريق التعمق في دراسة أسرار القرآن والاجتهاد في تنمية قوة الكشف النفسية، مع معين من العلم بالأعداد والحروف وتجمعات النجوم ودلالاتها. وكان من الطبيعي في ظروف مثل هذه أن ترتفع مكانة الكرامات الصوفية التي تطورت إلى مسائل عملية تذهل الناس وتستأثر باهتمامهم، وبذلك سمت مكانة الصوفي الاجتماعية...اهـ.

- إذن، ففي مثل هذه الأرضية الاجتماعية، كان باستطاعة الشيخ الصوفي أن يحرك أتباعه كما يريد، وأن يجعلهم يعتقدون ما يريد، وأن يقدموا له أموالهم وأرواحهم وأبناءهم ونساءهم رخيصة لا يبتغون في ذلك شيئاً إلا رضا الشيخ على أنه رضا الله.

لكن، رغم كل هذه التطورات، بقيت نسبة السنة أكثر من نسبة الشيعة في فارس، حتى جاءت الطرق التي كانت الحاسمة في الموضوع. وهي:

النوربخشية:

مؤسسها واهب الأنوار (نور بخش)، مات سنة (869هـ*، شيعي كان يعلن أن همه هو الجمع بين التصوف والتشيع([40])، أخبره كشفه أنه المهدي المنتظر (لم تكن خرافة محمد بن الحسن العسكري قد انتشرت بعد)([41])، وساعده في ذلك اسمه (محمد بن عبد الله)، وسمى ابنه (القاسم)، فصار: (أبا القاسم محمد بن عبد الله)، كما عرف عن طريق الكشف أنه من سلالة فاطمة الزهراء، انتشرت طريقته انتشاراً واسعاً بسبب الخوارق التي كانت تجري على يديه، وبسبب مهديته وعلويته، وبسبب الظروف الاجتماعية المؤاتية، وكان أكثر أتباعه من السنة الذين تشيعوا انقياداً وراء شيخهم، إذ المريد يجب أن يكون بين يدي شيخه كالميت بين يدي الغاسل، وكان الجهل أكبر مساعد، وقد انتشرت النوربخشية في أواسط إيران وجنوبها وبعض شمالها. ولقد حاول نور بخش الانقضاض على الملك، حيث بدأ حركته (826هـ-1423م) في كوه تيري من قلاع ختلان، وكان أنصاره يلقبونه ألقاباً كثيرة، منها: الإمام والخليفه على كافة المسلمين([42])، لكنه فشل، بسبب انشقاق قسم من أتباعه، وانضمامهم إلى الطريقة الهمدانية، وشيخها آنذاك (عبد الله المشهدي)، خصم نور بخش، وهنا يظهر دور الهمدانية بالتشييع على النفس الطويل.

وبعد أن استولى الصفويون على ملك إيران بمدة، هرب شيخ النوربخشية آنذاك (طاهر بن رضا الإسماعيلي القزويني) ومعه جمع من أتباعه إلى الهند، حيث نشر هناك في ولاية (أحمد نكر) الطريقة والتشيع، وكذلك في كشمير، بجهود مير شمس العراقي، الذي يقال: إنه أدخل (34) ألفاً من الهنادكة في النوربخشية (الشيعية طبعاً)([43]).

المشعشعية:

ظروفها تشبه ظروف النوربخشية، فقد كان مؤسسها محمد بن فلاح شيعياً، أخبره الكشف أنه من آل البيت، وأنه المهدي المنتظر (مهدي السنة طبعاً)، وكان معاصراً لنور بخش، كثر أتباعه بسبب مهديته ونسبه (المدَّعى)، وخوارقه (التشعشع)، وكان أكثر أتباعه في الأصل من السنة الذين تحولوا إلى شيعة اتباعاً لشيخهم، حتى استطاع أن يؤسس بهم دولة في خوزستان، عاصمتها (الحويزة)، عرفت بالدولة المشعشعية.

يقول المؤرخون لهذه الحركة:

"...يبدو أنهم (المشعشعين) كانوا في حروبهم واقعين تحت تأثير قوة شيخهم المغناطيسية، فلم يكونوا يشعرون بما حولهم، بل كانوا يقدمون على خوض المعارك في حال من الذهول والغيبة عن الحس([44]).

ويقولون: وينبغي أن نتذكر أن حركة المشعشعين قامت في بدئها على التصوف، حتى وصف محمد بن فلاح بأنه كان جامعاً بين المعقول والمنقول، وصوفياً صاحب رياضة ومكاشفة وتصوف، وأنه انتقل من التصوف إلى التشيع فشكله بأشكال شيعية([45]).

- أقول: لقد كان شيعياً قبل تصوفه، تشيع على يد أستاذه وأبي زوجته الشيخ أحمد بن فهد الحلي، وقد تخاصما فيما بعد، وذهب محمد بن فلاح إلى القبائل التي كانت تسكن قرب واسط، وأفتى ابن فهد بقتله، وأرسل رسولاً إلى أمير القبائل التي كان ابن فلاح بينها، يطلب إليه القبض عليه، فلم ينقذ ابن فلاح إلا قسمه بأنه سني صوفي، وبأن ابن فهد وأتباعه شيعة ومن أعدائه([46]).

إن هذه الحادثة تظهر أن التشيع في جنوب العراق والغرب الأوسط من إيران كان حتى ذلك الوقت مستهجناً، وكانت الأكثرية الساحقة من السنة.

بعد هذه الحادثة انتقل ابن فلاح إلى خوزستان، وهناك أسس طريقته الصوفية وشيَّع أتباعه، ثم أعلن مهديته (840هـ)، وجمع أموالاً كثيرة من قطع الطرق على الحجاج وغيرهم، ثم أعلن نفسه ملكاً، وبقيت مملكته حتى اجتاحها الصفيون.

النعمتللاهية: مؤسسها نعمة الله الولي، من إحدى قرى حلب، سني حنفي المذهب، تخرج بالطريقة الشاذلية، انتقل إلى فارس، وهناك أسس طريقته، حيث تأثر بجو التشيع الزاحف، فصار شيعياً، وهنا أعيد القول أيضاً، بأن هذا التشيع الزاحف كان من التشيع المعتدل، أي إنهم كانوا يرون أن الخلافة يجب أن تكون في البيت العلوي، وكانوا يشتمون الأمويين، وكانوا يحترمون صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم ما عدا معاوية، وينتهجون المذاهب السنية في الفقه، هكذا كان تشيع المتشيعين في إيران في ذلك الوقت، وتحول نعمة الله إلى التشيع يعني أنه صار يرى الخلافة محصورة في آل البيت العلوي، وصار يشتم الأمويين، وبقي يسمي نفسه سنياً، أي: إن الفرق بينه وبين المتشيعة في ذلك الوقت في إيران، كان هو الاسم فقط، أما المضمون فكان واحداً.

ومثل غيره من الأولياء أخبره الكشف أنه من سلالة علي بن أبي طالب، وأن أئمة الشيعة هم أجداده، وأسس طريقته وهي (جالسة صائتة)، حيث كان المريدون قبل الشروع في الذكر يسجدون له، ثم يضعون اليد اليمنى على الركبة اليسرى، واليد اليسرى على الركبة اليمنى، ويرددون (لا إله إلا الله)، مائلين بأجسامهم من اليسار إلى اليمين مع الناي والدف.

وهؤلاء المريدون الذين يسجدون لشيخهم (وكل الصوفية كذلك وإن أخفوها تقية)، تحولوا إلى عقيدة شيخهم، أي: صاروا شيعة يسمون أنفسهم سنة، وطبعاً أمر هذا الاسم هين في مثل تلك الظروف.

وهكذا جاءت النعمتللاهية لتشيع من شرد على الطرق التي كانت تعلن التشيع، لقد شيعت أتباعها وشيعت عواطفهم وأبقت اسم السنة عليهم.

- لم ينتصف القرن التاسع حتى كان الفرس قد دخلوا في التشيع عن طريق الصوفية، وإن كان بعضهم ما زال يسمي نفسه سنياً، وكانوا كلهم- إلا النادر- من الشيعة المعتدلة، الذين كانوا يحترمون صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويتبعون المذاهب السنية، حتى جاءت الصفوية في مرحلتها الثانية التي كانت حاسمة في هذا الموضوع.

الصفوية في مرحلتها الثانية: توسعت كثيراً، وزاد أتباعها بازدياد الإقبال عليها، ودعم موقف تيمورلنك وجماعته التقديسي لها ولشيوخها (ويجب أن ننتبه هنا إلى أن موقف تيمورلنك كان امتداداً للقناعات الفكرية المنتشرة في مجتمعه، وأنه، بصفته حاكماً، كان نتيجة، أو انبثاقاً لها)، وفي العقود الأخيرة من القرن التاسع، في زمن شيخها حيدر بن جنيد بن إبراهيم بن علي بن صدر الدين موسى بن صفي الدين (توفي سنة 893 هـ) بلغت قمة قوتها، حتى استطاع إسماعيل بن حيدر وهو في الرابعة عشرة من عمره أن يؤلف جيشاً من أتباع أبيه يسيطر به على إيران كلها، ثم أعلن نفسه ملكاً على إيران سنة (905هـ).

ولنستمع في ذلك إلى محمد جواد مغنية، يقول: ...هو إسماعيل بن حيدر بن جنيد بن صفي الدين الذي ينتهي نسبه إلى الإمام موسى الكاظم عليه السلام، وهو أول ملوك الصفوية ومؤسس دولتهم، وكان آباؤه وأجداده من العرفاء وشيوخ الصوفية، فلقبوا بلقب (سلطان)، وما إن أتم إسماعيل العام الرابع عشر من عمره حتى ألف جيشاً من أتباع أبيه ومريديه، وقاده بنفسه للغزو والفتح، وكانت إيران يومذاك موزعة الأطراف بين العديد من الملوك والأمراء ورؤساء القبائل..."([47]). اهـ.

ويقول كامل مصطفى الشيبي:

...وسنرى أن فقهاء الشيعة في إيران كانوا من القلة بحيث اضطر الصفويون إلى استقدام فقهاء الشام ليساعدوا في نشر التشيع في بلادهم، وتنظيم الدولة على أساس منه...([48]). اهـ.

- نقول: في الواقع كان التشيع قد عم كل إيران، ولكنه كان تشيعاً معتدلاً ينتهج المذاهب الفقهية السنية، فاستقدم الصفويون فقهاء الشيعة من الشام، وكانوا نصيريين، ولعل فيهم فقهاء من شيعة جبل عامل (المتاولة)، إذ الفقه الشيعي كان محصوراً يبن هؤلاء وبين الإسماعيلية، على اختلاف بينهما في الأصول والفروع، ولعل متاولة جبل عامل كانوا قد دخلوا في الغلو قبل ذلك.

جاء فقهاء الشيعة الشاميون إلى فارس، ليفقهوا الشيعة بفقه الشيعة، وطبعاً، في تلك الظروف، (بجميع جوانبها) يجب أن يحدث تفاعل وتداخل وتوازن بين الفقه النصيري وجوانب من فقه الإسماعيلية الذين كان لهم وجود، والفقه السني الذي تنتهجه غالبية الشيعة، وكان علماؤه قليلين، وعلمهم ضحلاً بسبب الصوفية.

تعلم الشيعة في فارس والعراق فقه الشيعة، وصاروا كلهم من الغلاة، وإن استمروا على تسمية أنفسهم من (المعتدلين)، يقول آية الله المامقاني([49])، أكبر علمائهم في الجرح والتعديل:

إن ما كان به الغلاة الأقدمون غلاة، أصبح الآن عند جميع الشيعة الإمامية من ضروريات المذهب([50]).

ويورد السيد عبد الله بن الحسين السويدي العباسي([51]) نصاً عن سجل لنادر شاه (ملك إيران)، قرئ يوم الخميس (25 شوال 1156هـ)، يقول: ...ولم يكن في نواحي إيران ولا في أطرافها سب (أي: سب الشيخين والصحابة)، ولا شيء من هذه الأمور الفظيعة، وإنما حدثت أيام الخبيث الشاه إسماعيل الصفوي...([52]).

ومن الطبيعي أن يظهر في المذهب الجديد علماء، وككل عقيدة جديدة تظهر على مسرح الوجود، يكون أتباعها متحمسين لنشرها باندفاع بالغ، كذلك كان علماء المذهب الجديد ودعاته، انتشروا للدعوة لمذهبهم الجديد، وخاصة بين الشيعة الغلاة والمعتدلة، ومع الزمن والمثابرة على الدعوة تحول القرامطة الذين كانوا يسكنون الشواطئ العربية من خليج البصرة، وكذلك شيعة بلاد الشام، وكثير من الإسماعيلية والفرق الشيعية الأخرى (باستثناء الفرق في اليمن) إلى المذهب الجديد؛ مذهب الشيعة الإمامية الإثني عشرية التي صارت من الغلاة، مع العلم أن أكثر متاولة الهند تحولوا من الهندوسية أو من السنة بعد ذلك.

وكان اسم (المتاولة)، ولم يزل يطلق على شيعة جبل عامل في جنوب لبنان، بينما غالبية الشيعة في العراق وإيران والهند لا يسمون أنفسهم هذا الاسم، وإنما شيعة إمامية إثني عشرية، علماً بأن مذهب الجميع واحد بكل أصوله وفروعه ومراجعه.

وهكذا أحدث التصوف فيما أحدثه من تدمير، أكبر شرخ في جسم الأمة الإسلامية كان من الأسباب الواضحة في ضعفها واندحارها.

وقد احتاجت عملية التحويل هذه إلى قرنين ونصف من الزمن، كانت الصوفية خلالها تعمل بدأب واستمرار، والمسلمون وفقهاؤهم في غفلة مستسلمون بحجة حب آل البيت وإحسان الظن بالمسلمين، وكأن حب آل البيت وإحسان الظن بالمسلمين يمنع من وجوب معرفة الحق والأمر به، وتمييز الباطل والنهي عنه، على أن العامل المسبب لهذه الغفلة وهذا الاستسلام هو التصوف ذاته، وما بث من عقائد وفرض من جهل طيلة قرون.

ومن آثار الفقه النصيري البارزة في المذهب الجديد، سب أبي بكر وعمر، وتكفير صحابة الرسول صلى الله عليه وسلم، وتأليه الأئمة الاثني عشر، والعصمة، والبداء، والتقية، والرجعة (أي: خرافة مهديهم محمد بن الحسن العسكري الغائب في مغارة سامراء، منذ حوالي اثني عشر قرناً، وهم ينتظرون خروجه)، وقد رأينا أسلافهم، نور بخش والمشعشع والآخرين، كيف كانوا يدعون المهدوية السنِّية؛ لأن محمد بن الحسن العسكري لم يكن معروفاً لا هو ولا رجعته إلا عند النصيرية وعند بعض من كان قد تأثر بهم قبل ذلك. وكان أول المتأثرين بالفقهاء النصيرية الوافدين هم أتباع الطريقة الصفوية المباشرون؛ لأنهم كانوا أول من يستقبل أولئك الفقهاء وأول من يأخذ عنهم، وكانوا يبقون فيهم أكثر من البقاء في غيرهم من الإيرانيين، لذلك انقلب أتباع الطريقة الصفوية إلى النصيرية بكل ما فيها من عجر وبجر.

صار أتباع الطريقة الصفوية في عهد إسماعيل بن حيدر، وبناء على أوامره أو أوامر أبيه، يلبسون طرابيش حمراً، فأطلق عليهم اسم (قزلباش)، أي: الرءوس الحمر، وبانتهاجهم منهج النصيرية، شكلوا فرقة جديدة في الأمة الإسلامية، معروفة الآن باسم (القزلباشية) التي سنراها فيما يأتي.

ولعل من المفيد أن نذكر أن نادر شاه (ت: 1160هـ/ 1747م) أراد أن يعيد الشيعة إلى التشيع المعتدل ثم إلى السنة بقوة الحكم، فأصدر مرسوماً يقول فيه من جملة ما يقول: ...فاعلموا أيها الإيرانيون أن فضلهم (أي: الخلفاء الراشدين) وخلافتهم على هذا الترتيب، فمن سبهم أو انتقصهم فماله وولده وعياله ودمه حلال للشاه، وعليه لعنة الله وملائكته والناس أجمعين، وكنت شرطت عليكم حين المبايعة في صحراء مغان عام (1148) رفع السب، فالآن رفعته، فمن سب قتلته وأسرت أولاده وعياله وأخذت أمواله...([53]). اهـ.

ولكن كما قلنا، إن العقيدة لا يمكن أن تفرض من الحاكم، ولذلك لم تُجْدِ محاولة نادر شاه شيئاً، وبالعكس، فقد اغتاله قواده بعد حوالي أربع سنوات، وبقي الغلو.

ولو استغل دعاة الإسلام وفقهاء السنة هذا الظرف، وانتشروا بين الشيعة يدعون إلى طريق الحق، لتركوا آثاراً ظاهرة قد تكون سبباً في تغيير تاريخ الأمة الإسلامية. وهكذا كانت الصوفية وراء أكبر شرخ في جسم الأمة، وكذلك كانت وراء الفرق الأخرى التي منها:

* القزلباشية:-

يصفها أحمد حامد الصراف كما يلي: القزلباشية فرقة دينية منتشرة في بر الأناضول، وهي تعتبر شيعية المذهب في نظر المسلمين، وهي تقارب كل المقاربة نصيرية سورية، وهم يسمون أنفسهم (العلوية)... وهم يخالفون المسلمين بأمور منها: أنهم لا يحلقون رءوسهم... ولا يصلون الصلوات الخمس، ولا يتوضئون، ويكرعون الخمر، ولا يحافظون على صوم شهر رمضان، ويصومون اثني عشر يوماً من الأيام الأولى من المحرم، ويندبون الحسن والحسين... وعندهم أن علياً تجسد فيه الآله([54])...

ويقول عنهم أيضاً: القزلباشية في بدء نشأتها كانت تسمى (الصفوية) نسبة إلى قطب الأقطاب صفي الدين إسحاق الأردبيلي... وهو الجد السادس للشاه إسماعيل الصفوي([55])...اهـ.

وقد رأينا قبل قليل كيف تم التحول من الصفوية إلى القزلباشية، ولها وجود في أفغانستان أيضاً.

* الروشنائية:-

نسبة إلى (بير روش)، أي: الشيخ المنوّر، بايزيد بن عبد الله، ولد عام (931هـ)، يقول المترجمون له: صحب اليوغيين، وبدأ يرى رؤى ويسمع أصواتاً تناديه من وراء الغيب، فاشتغل بالذكر الخفي، ثم استغرق في ورد الاسم الأعظم، فلما بلغ الحادية والأربعين من عمره هتف به هاتف من السماء، أنه لم يعد في حاجة إلى الطهارة الشرعية، وينبغي له أن يصلي صلاة الأنبياء بدل صلاة المسلمين... وانصرف إلى الرياضة الأربعينية... وتعاليمه التي وردت في كتابه (صراط التوحيد) يظهر عليها أثر التعاليم الصوفية الغالية.

مات بير روش سنة (980هـ) بعد أن انتشرت طريقته أو (فرقته) انتشاراً واسعاً في الهند، ثم أخذت تتقلص بعده حتى انقرضت([56]) لننتبه أن كلمة (روش) تحمل نفس معنى كلمة (بوذا) أي: المستنير. وكان وأتباعه يصرحون بوحدة الوجود (أي: من أهل الوحدة المطلقة).

* المهدوية:-

مؤسسها محمد بن يوسف الجونبوري الذي نشأ في أواخر المائة التاسعة ببلدة جونبور في الهند، وادعى أنه المهدي، وكان أزهد الناس وأورعهم.

من معتقدات المهدوية أن السيد محمد بن يوسف الجونبوري، مهدي موعود، وأنه أفضل من أبي بكر وعمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم، بل إنه أفضل من آدم ونوح وإبراهيم وموسى وعيسى على نبينا وعليهم السلام، وأنه مساوٍ لسيدنا محمد صلى الله عليه وسلم في المنزلة، وإن كان تابعاً له في المذهب، وأنه ومحمد صلى الله عليه وسلم كلاهما مسلم كامل وسائر الأنبياء ناقصو الإسلام، وأنه شريك في بعض الصفات الإلهية، بعد فوزه بمنصب الرسالة والنبوة...

انتشر هذا المذهب في غجرات والدكن من بلاد الهند، ومما وصف به هذا المهدي: إنه كان صاحب المقامات العالية، ذا كشوف وكرامات.

ومن أقوال المنتقدين له: إنه كان كذلك، ولكنه أخطأ في دعواه لوقوع الخطأ في الكشف.

ومن أقوال أحد علمائهم وهو الشيخ غلاب بن عبد الله المهدوي: إن للمهدوية أصولاً وفروعاً، الأول منها التوبة...والعمل الصالح و.. ودوام الذكر على طريقة حفظ الأنفاس...([57])...اهـ.

وهكذا يتضح دور الصوفية، فقد كان محمد بن يوسف الجونبوري صاحب مقامات وكشوف، وشاهد بالكشف ما ألقاه إلى مريديه...ومن أصولهم دوام الذكر على طريقة حفظ الأنفاس...وللعلم: حفظ الأنفاس حسب إيقاع معين هو أحد أساليب الرياضة الإشراقية التي توصل إلى الجذبة.

* القاديانية:-

مؤسسها الميرزا غلام أحمد القادياني (نسبة إلى بلدة قاديان)، مات سنة (1908م)، صوفي أخبره الكشف أنه مكلف من الله تعالى بإصلاح الخلق على نهج المسيح عيسى بن مريم عليه السلام، وقد صرح أن له إلهام ومكاشفات. ومن مكاشفاته:

- روح المسيح حلت فيه.

- ما يلهمه هو كلام الله كالقرآن الكريم والتوراة والإنجيل.

- المسيح (الذي هو هو) سينزل في قاديان.

- قاديان هي البلدة المقدسة الثالثة المكنى عنها في القرآن بالمسجد الأقصى.

- الحج إليها فريضة.

- أوحي إليه بآيات تربو على عشرة آلاف آية.

- من يكفر به فهو كافر.

- القرآن ومحمد وسائر الأنبياء قبله قد شهدوا له بالنبوة وعينوا زمن بعثته ومكانها. اهـ.

ومن أقواله التي تثبت صوفيته، وأن ما جاء به كان من الكشف، قوله:

...وإني ما قلت للناس سوى ما كتبت في كتبي، أي: إني محدث، وإن الله يكلمني كما يكلم المحدثين...جاء جبريل واصطفاني وأدار إصبعه وأشار أن ربك سيعصمك من الأعداء([58])...

ومن أقواله: لقد حرم الذين سبقوني من الأولياء والأبدال والأقطاب من هذه الأمة المحمدية من النصيب الأكبر من هذه النعمة (المكالمة الإلهية)، ولذلك خصني الله باسم (النبي)، أما الآخرون فلا يستحقون هذا الاسم([59])...اهـ.

نرى الميرزا نفسه يعترف بأنه من الأقطاب، وأنه محدث، وأنه مكاشف، وأنه من بين الذين سبقوه من الأولياء والأبدال والأقطاب هو الوحيد الذي خصه الله بالنبوة. أي: إن الصوفية هي وراء القاديانية، وطبعاً هناك خلفيات ليس هنا مجال بحثها، لكن لا بأس من التذكر هنا أن الصوفية اليهودية هي التي تسمي الواصل فيها (نبياً).

* البريلوية:

طريقة صوفية منتشرة في شبه الجزيرة الهندية، نشأت شديدة الانحراف عن الإسلام، ولعله لن يمضي وقت طويل حتى ينسى أتباعها أنهم أتباع طريقة صوفية، وتغدو ديانة جديدة مستقلة، والتشيع فيها واضح، وهم يكفرون بشكل خاص الجماعة الإسلامية في الهند، والديوبنديين، وجماعة الدعوة والتبليغ، وإذا شعروا أن أحداً من هذه الجماعات دخل مساجدهم، فالويل له والثبور.

* الشبكية:

يدين بها أهل قرى في شرق الموصل، معروفون باسم (الشبك)، ولعله اسم للقبيلة، أو للشيخ الذي استقل بها، يقول عنها أحمد حامد الصراف:

...وأما مذهبهم فقد كانوا إلى ما قبل ثلاثين أو أربعين سنة (أي: قبل الحرب العالمية الأولى)، بكتاشية يراجعون فيه جلبي قونية ويتلقون منه الإشارة، وكان أحدهم إذا ذهب إلى زيارة كربلاء، يراجع وكيلاً لجلبي قونية هناك([60]).

ويقول في مكان آخر: الشبك؛ طريقة صوفية، وللانخراط في سلكها مراسيم خاصة، وبقية العقائد تشبه ما في البكطاشية([61]). اهـ.

أقول: لا يقول الشبك الآن عن أنفسهم إنهم أتباع طريقة صوفية، ولعل أكثرهم لا يعرفون ذلك؛ وإنما يعتقدون جميعهم أنهم على دين خاص سرّي لا يجوز البوح به.

* الكشفية أو الشيخية:

نسبة للكشف، تفرعت عن التشيع الإيراني، إذن فجذورها الأساسية هي الصوفية؛ لأن الصوفية هي التي حولت إيران إلى شيعة، ومع ذلك فقد تشكلت الكشفية أيضاً عن طريق الصوفية، بدلالة اسمها (الكشفية) من الكشف الذي كان مؤسسها يقول: إنه حصل له، (مع إنكاره على المتصوفة).

أسسها الشيخ أحمد زين الدين الأحسائي (1166هـ/ 1753م- 1241هـ/1826م)([62])، ومن عقائدها:

الحقيقة المحمدية تجلت في الأنبياء تجلياً ضعيفاً، ثم تجلت تجلياً أقوى في محمد والأئمة الاثني عشر، ثم اختفت زهاء ألف سنة، وتجلت في الشيخ أحمد الأحسائي، ثم في تلميذه كاظم الرشتي، ثم تجلت في كريم خان الكرماني وأولاده إلى أبي قاسم خان، وهذا التجلي هو أعظم التجليات لله. والأنبياء والأئمة والركن الرابع (الشيخ أحمد وخلفاؤه) هم شيء واحد يختلفون في الصورة، ويتحدون في الحقيقة التي هي (الله ظهر فيهم). والشيخ أحمد وخلفاؤه هم أفضل من جميع الأنبياء والمرسلين، وهم يعبدون علياً على أنه الله. ودور الصوفية واضح فيها من (الكشف، الحقيقة المحمدية، تجلي الحقيقة المحمدية، تجليات الله). وأما الاسم (الشيخية)، فهو نسبة إلى الشيخ أحمد الأحسائي، وهم يسيرون على نهج الطريقة الحروفية([63]).

* البابية:

مؤسسها: (الباب) علي محمد رضا الشيرازي، تسلك في الطريقة الشيخية على يد الشيخ عايد، أحد تلامذة كاظم الرشتي، واشتغل بعلم الحروف حسب الطريقة الحروفية، ثم انتقل إلى النجف وكربلاء، وتتلمذ على كاظم الرشتي نفسه، كما اتصل بالمتصوفة حيث انقطع نفر من أصحابه إلى الرياضة الصوفية أربعين يوماً (الأربعينية)، ثم خرج وهو يتكلم بالعلوم اللدنية، وبالكشف أوحي إليه كتاب البابية المقدس (البيان)، وهذه نبذ منه:

(لا تتعلمن إلا بما نزل في البيان أو ما ينشأ فيه من علم الحروف وما يتفرع على البيان، قل يا عبادي تتأدبون ولا تخترعون. ثم تخضعون على أنفسكم ثم تنصتون. ثم الواحد من بعد العشر أن لا تتجاوزون عن حدود البيان فتحزنون).

 (إنا قد جعلناك جليلاً للجاللين. وإنا قد جعلناك عظيماناً عظيماً للعاظمين. وإنا قد جعلناك نوراً نوراناً نويراً للناورين. وإنا قد جعلناك رحماناً رحيماً للراحمين. وإنا قد جعلناك تماماً تميماً للتامين. قل إنا جعلناك كمالاً كميلاً للكاملين. قل إنا قد جعلناك كبراناً كبيراً للكابرين. قل إنا قد جعلناك حباناً حبيباً للحابين. قل إنا قد جعلناك شرفاناً شريفاً للشارفين. قل إنا قد جعلناك سلطاناً سليطاً للسالطين. قل إنا قد جعلناك ملكاناً مليكاً للمالكين. قل إنا قد جعلناك علياناً عليلاً للعالين. قل إنا قد جعلناك بشراناً بشيراً للباشرين...).

 (تبارك الله من شمخ مشمخ شميخ. تبارك الله من بذخ مبذخ بذيخ. تبارك الله من بدء مبتدئ بديء. تبارك الله من فخر مفتخر فخير. تبارك الله من ظهرمظهرظهير. وتبارك الله من قهر مقهر قهير. وتبارك الله من غلب مغتلب غليب...) إلخ.

هذه نماذج من علوم الباب اللدنية الكشفية، والكتاب محشو بالعبارات الصوفية والمشيرة إلى وحدة الوجود.

مع ملحوظة هامة، هي أن من أصحاب الباب السابقين يقرب من أربعمائة يهودي، اثنان منها حاخامان.

كان إعلان الباب عن دعوته سنة (1260هـ-1844م)، وهو ابن خمس وعشرين سنة، وقد أصدر العلماء فتوى بقتله على الردة، ونفذ فيه حكم الإعدام بأمر من الشاه ناصر الدين سنة (1265هـ-1849م)([64]).

والمهم أن نعرف أن الصوفية كانت وراء البابية مع عوامل أخرى طبعاً.

* البهائية:

تفرعت مباشرة عن البابية، إذن فجذورها صوفية، بالإضافة إلى الدور الرئيسي الذي لعبته الصوفية في نشأتها.

مؤسسها (بهاء الله) الميرزا حسين علي بن الميرزا عباس بزرك المازندراني النوري، ولد سنة (1233هـ)، وكان يعاشر الصوفية ويتعب نفسه في قراءة كتبهم، انضم إلى البابية مع أوائل من انضم إليها، تنقل ورجع إلى طهران، ثم نفي إلى بغداد، واشتد الخلاف بينه وبين البابية، فهرب خفية إلى غار قريب من قرية (سركلو) التابعة لناحية (سورداش) في لواء السليمانية شمالي العراق، وأظهر هناك النسك والتصوف، وكان يحضر مجالس الصوفية كثيراً.

يقول صاحب كتاب (حقيقة البابية والبهائية):

...وهناك رافد آخر أثر في عقله وثقافته وأسلوبه، وهو المذاهب الصوفية، وبالأخص ما يتصل بوحدة الوجود والحلول والفناء، ولا غرابة في ذلك، فلقد خالط الصوفية منذ صغره، وتتلمذ على أيديهم...وتأثير الكتابات الصوفية قد بلغ في أسلوب الميرزا حسين مبلغاً عظيماً، حتى إنك لا تكاد تقرأ صفحات من كتاباته إلا وتحسب نفسك أمام كتاب من كتب متطرفي الصوفية في معانيه ومبانيه... اهـ.

وله كتب مقدسة، منها: الإيقان، والأقدس، والإشراقات، وغيرها.

وهذه نبذ من (إشراقات بهاء الله)، يقول مخاطباً البابيين: (يا ملأ البيان، ضعوا أوهامكم وظنونكم ثم انظروا بطرف الإنصاف إلى أفق الظهور، وما ظهر من عنده ونزل من لدنه، وما ورد عليه من أعدائه.. قد حبس مرة في الطاء، وأخرى في الميم، ثم الكاف مرة أخرى...).

من قوله في إشراقاته مخاطباً المسلمين: (قل يا ملأ القرآن قد أتى الموعد الذي وعدتم به في الكتاب، اتقوا الله ولا تتبعوا كل مشرك أثيم، إنه ظهر عليَّ شأن لا ينكره إلا من غشته أصحاب الأوهام وكان من المدحضين...).

ادعى الميرزا حسين أنه المسيح عيسى عليه السلام، ثم ادعى الربوبية، وقال: إن الله يتجلى عليه، فيفنى منه العرض، ولا يبقى إلا الجوهر الرباني الخالص، ومن هنا جاء لقبه: (بهاء الله)، ومن أقواله في ذلك: (يا حسين، اسمع النداء من شطر السجن، إنه لا إله إلا هو الفرد الخبير، إذا رأيت أنجم سماء بياني، وشربت رحيق العرفان من كأس عطائي، قل: إلهي إلهي! لك الحمد بما أيقظتني وذكرتني في سجنك، وأيدتني على الإقبال إليك، إذا أعرض عنك أكثر عبادك).

وأساس عقيدة البهائية أن الله (جل وعلا) ليس له وجود الآن إلا بظهوره في مظهر البهاء، وكان يظهر قبلاً بمظاهر تافهة في الديانات السالفة؛ لكنه بظهوره في البهاء الأبهى، بلغ الكمال الأعلى...

ويصرح البهائيون في كتبهم بأن الميرزا حسين البهاء هو ربهم([65]).

المهم هو أن الصوفية وراء البهائية ومنشئتها.

* وفي الختام:-

(كفرداعل) و(خان العسل) قريتان من قرى حلب، أهلها مسلمون حتى سبعينات القرن الرابع عشر الهجري، حيث وفد إليهما بعض النصيرية، وفيهم شيخان صوفيان: الشيخ حسين وأخوه الشيخ نصّوح، ولعلهما من الطريقة الجنبلانية، سلكا المريدين، وكانت تحدث على أيديهما بعض الخوارق، وفي سنين قد لا تتجاوز العشرين، كان أهل القريتين قد تحولوا إلى النصيرية مع مجموعات في القرى المجاورة.

مات الشيخ حسني (لعله في العقد الأخير من القرن الرابع عشر الهجري)، وبنوا له مقاماً يناسب المقام، ولعل أخاه الشيخ نصّوح لا يزال حياً حتى كتابة هذه الكلمات.

ومن قصصه التي يرويها شاهد عيان: ذهب الشيخ نصّوح إلى قرية (عَنَدان) القريبة من القريتين السابقتين لزيارة جماعة من مريديه الذين تحولوا إلى نصيرية على يده ويد أخيه، وبعد هدأة من الليل طلب من المجتمعين عنده الخروج معه إلى خارج القرية، وهناك أخبرهم أنهم سيقومون بغارة على إسرائيل؟ وأمرهم أن يفعلوا مثله.

وعادة، في الحقول والبيادر المحيطة بالقرى، يعينون الحدود بين العقارات بسلاسل من الحجارة الصغيرة (الدبش) يبنونها عليها.

أخذ الشيخ نصوح يتناول من هذه الحجارة الواحد بعد الآخر، ويقذفها باتجاه فلسطين مع ترديد صوت (رْرْرْرْرْرْرْرْرْ...) بصوت عال عندما ينطلق الحجر من يده، وصوت (بومْ مْ) عندما يسقط على الأرض.

وأخذ مريدوه يفعلون نفس الشيء، يأخذون الحجارة من سلاسلها، ويقذفونها باتجاه فلسطين، وكانت أصوات (رْرْرْرْرْرْرْ...بومْ مْ...رْرْرْرْرْرْرْرْ...بومْ مْ) تنطلق في الفضاء مختلطة ببعضها مغطية على أصوات وقع الحجارة أو ارتطامها ببعضها. بقي الفقراء هكذا طيلة ساعات، زالت بعدها معالم الحدود بين العقارات، وتوعرت أراضي سيئي الحظ الذين كان نصيبهم أن يحصل هذا الجهاد في أرضهم.

بعد منتصف الليل، عاد المجاهدون إلى بيوتهم منهكين من التعب فرحين بما تيسر لهم من الجهاد في سبيل الله على يد شيخهم العظيم.

في الصباح، ذهب أحد المجاهدين إلى دكان بقال صديق في حاجة له، وأثناء الحديث أخبره بغزوة الليل، فما كان من البقال إلا أن طلب من صديقه البقاء في الدكان ريثما يعود، وخرج مسرعاً إلى البيت الذي ينزل فيه الشيخ نصوح، حيث وجد القوم مجتمعين عنده، فسلم وجلس بخشوع ظاهر، وبعد أن استأذن من الشيخ بالكلام قال له: يا سيدي، رأيت هذه الليلة حلماً شغلني، أريد أن أعرضه عليك، رأيت أني في إسرائيل، ورأيتك هناك، ومعك جماعة لم أتبين وجوههم، في أيديكم القنابل تلقونها على اليهود، وكانت كل قنبلة تقتل عدداً منهم.

انفلت الشيخ نصوح يصيح بصوت عال: (الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، أنت ولي، أنت مكاشف، تبركوا به يا مؤمنون هذا ولي مكاشف...إلى آخر ما قاله. وعاد البقال إلى دكانه وقد ربح زبائن جدداً لبقالته.

ولعل قارئاً أو سامعاً يظن أن هذه حادثة شاذة، فنقول له: بل هي من صميم الصوفية، تورد كتبهم ما يشبهها عن أبي يعزى، وأبي مدين الغوث، وأبي الحسن الشاذلي، وأحمد البدوي، وأحمد الرفاعي، وعبد القادر الجيلاني، وغيرهم الكثير، ولعل كثيراً من القراء سمعوا الأنشودة الصوفية: (الله الله يا بدوي وجا باليُسَرى)، أي: جاء بالأسرى..

* خلاصة ما سبق:-

الصوفية سبب أساسي في تمزيق المسلمين، ووراء المذاهب المنتشرة التي جعلتهم فرقاً وأشياعاً.

* الإفساد العام:

المسلمون بحمد الله كثيرون، يعدون بمئات كثيرة من الملايين، لكنهم في حالتهم الحاضرة، كما وصفهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: {غثاءكغثاء السيل}، وسبب هذه الغثائية هي الصوفية التي وصل فسادها في الأمة حتى الأعماق، وبيان ذلك:

أولاً: إفساد العقيدة

 (أ) تؤمن العقيدة الإسلامية أن الله جلت قدرته خلق الكون من العدم لا من ذاته سبحانه، وأن المخلوقات غير الخالق، وذلك بنصوص من القرآن والسنة مر بعضها في فصول سابقة..

وجاءت الصوفية..

فحولت أتباعها عن هذه العقيدة الإسلامية إلى عقيدة وثنية هي وحدة الوجود، تؤمن أن الله هو الكون، وأن الكون والمخلوقات هي تعينات من ذاته سبحانه، تكثف كل منها حسب شكله المرئي، الذي يطلقون عليه فيما يطلقون اسم (الإناء)، ويسمون أيضاً هذه المخلوقات أو (الجزء المتعين من الذات الإلهية كما يفترون)، يسمونه (عالم الملكوت)، أما الجزء الباقي على حاله اللطيفة من الذات الإلهية (حسب افتراءاتهم)، فيسمونه: (عالم الجبروت) (سبحان الله العظيم، وتعالى علواً كبيراً، وما قدروا الله حق قدره).

 (ب) من الإيمان في الإسلام أن الله سبحانه فوق السماوات والعرش، وذلك بنصوص من القرآن والسنة مر بعضها.

وجاءت الصوفية...

فحولت أتباعها إلى عقيدة وثنية تؤمن أن كل ما نراه وما نحسه هو الله، أو هو جزء منه سبحانه وتعالى عما يشركون. ومن تعابيرهم عن هذه العقيدة قولهم المنتشر على الألسنة: إن الله في كل مكان، قولهم بتكفير من يقول بالجهة، ويعنون بالجهة (العلو)، أي: إنهم يحكمون بكفر من يقول: إن الله سبحانه فوق السماوات، وبذلك يحكمون (شعروا أو لم يشعروا) بكفر القرآن والسنة، وبالتالي يحكمون أن محمداً وأصحابه كفرة، ولعلهم لم يشعروا بذلك، لأنها لا تعمى الأبصار، ولكن تعمى القلوب التي في الصدور.

وقد مر معنا قول قائلهم: إن ظاهر القرآن من أصول الكفر.

(جـ) تؤمن العقيدة الإسلامية أن النبوة فضل من الله يؤتيه من يشاء من عباده.

وجاءت الصوفية...

فحولت أتباعها عن هذه العقيدة إلى عقيدة وثنية، تؤمن أن النبوة نتيجة لممارسة الرياضة الإشراقية، حتى قال قائلهم (ابن سبعين): لقد ضيق ابن آمنة واسعاً عندما قال: {لا نبي بعدي}.

 (د) تؤمن العقيدة الإسلامية أن محمداً، ومثله جميع الأنبياء صلوات الله عليه وعليهم أجمعين، هم بشر مثل بقية البشر في كل شيء، وإنما يمتازون عنهم بالوحي، وبالأخلاق العظيمة.

وجاءت الصوفية..

فحولت أتباعها عن هذه العقيدة إلى عقيدة وثنية تجعل محمداً صلى الله عليه وسلم المجلي الأعظم للذات الإلهية، منه تنبثق المخلوقات وتعود إليه في حركة مستمرة (الحقيقة المحمدية)، وأطلقت عليه أسماء وصفات هي من أسماء الله سبحانه وصفاته، ويمكن الرجوع إلى كتاب (دلائل الخيرات) مثلاً، لرؤية هذا الشرك.

 (هـ) تؤمن العقيدة الإسلامية أن أول ما خلق الله القلم...(الحديث).

وجاءت الصوفية...

فجعلت أتباعها يؤمنون أن أول خلق الله هو محمد صلى الله عليه وسلم، وللتوفيق بين الحديث وبين ضلالهم، جعلوا (القلم) اسماً لمحمد صلى الله عليه وسلم، واخترعوا ما سموه (الحقيقة المحمدية)، وتجلياتها، ليجعلوا شيئاً من التنسيق بين الإسلام وبين اليونانيات.

ونحن نسمع المؤذنين يختمون الأذان بمثل: الصلاة والسلام عليك يا أول خلق الله...، ونسمع عبارة: (أسبقية النور المحمدي) على ألسنة الصوفية وأتباعهم يؤكدونها ويصرون عليهم. وبذلك يكذبون محمداً صلى الله عليه وسلم، وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً.

 (و) من العقائد الإسلامية أن الوحي الذي أنزله الله على محمد وعلى سائر الرسل، إنما نزل به ملك مقرب: ((ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ)) [التكوير:20]، هو جبريل عليه السلام، كان ينزل به ويعلمه محمداً والأنبياء قبله، ويذاكره به.

وجاءت الصوفية...

فجعلت أتباعها يعتقدون أن الوحي هو هذيان مثل هذياناتهم، وكشوفاتهم الجذبية التي تقود إليها الطريقة.

 (ز) للعقائد الإسلامية، في الإسلام، مصدران فقط، لا ثالث لهما، هما القرآن، وصحيح السنة.

وجاءت الصوفية...

فجعلت للعقائد مصدراً ثالثاً، هو الكشف والكتب المنبثقة عنه، وجعلوه -عملياً- المصدر الأساسي للعقائد، وإن أنكروا ذلك نظرياً، أما القرآن والسنة، فما وافق الكشف قرروه، وما خالفه أولوه، ليتفق مع الكشف! وقد صرح بذلك حجتهم الغزالي في كتابهم المقدس (إحياء علوم الدين)، وكلهم بدون استثناء يقدسون الغزالي و(إحياءه)، وهذا يعني أنهم كلهم، يؤمنون بما في (الإحياء)، كما أنهم يرددون نفس الفكرة في كثير من كتبهم المتداولة.

وكتاب (الإحياء)، ومعه بقية كتب الكهانة، كالرسالة القشيرية، والحكم العطائية، وقوت القلوب، واللمع، وبوارق الحقائق، والفتوحات المكية، والفيوضات الربانية، وفتوح الغيب...وغيرها وغيرها، تدرس في مساجد المسلمين منذ قرون طويلة، وينشأ عليها شباب المسلمين، حتى صاروا يعتقدون أنها قمة الإسلام وقمة العلم وقمة التقوى وسبيل النجاة، بينما هي في الحقيقة الكهانة التي جاء الإسلام ليحاربها فيما يحارب.

(ح) من العقائد الإسلامية أنه يمكن أن يتبين لنا من هم أصحاب الجحيم، أما أصحاب الجنة المزكَّون، وعباد الله المخلصون، فلا نستطيع معرفتهم، بل ولا الرسول نفسه يستطيع معرفتهم إلا بالوحي: ((...وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ)) [الأحقاف:9]، وغيرها من الآيات والأحاديث التي مرت في فصل سابق، والتي لم تمر.

وجاءت الصوفية...

فجعلت أتباعها، وغير أتباعها، يوزعون الولاية حسب ترتيبات شياطينهم من الإنس والجن، وحسب أوهامهم المنبعثة من هلوساتهم الكشفية وعلومهم اللدنية.

بل وأكثر من ذلك بكثير، أكثر بنسب تفوق الأرقام الفلكية بكثير، فقد جعلتهم إيحاءات شياطينهم وهلوساتهم يتحققون بما يقفز فوق الخيال والأوهام ويتجاوز قيم الأبعاد الفلكية بأكثر بكثير من الأبعاد الفلكية، جعلتهم يتحققون بالألوهية، فالولي منهم يصل إلى الإحساس والتحقق والذوق والاستشعار أنه الله (سبحان الله) بجميع أسمائه وصفاته، أو ببعضها على الأقل، إن كان في أول الوصول، وأنه يتصرف في الكون، والمتواضع منهم يتصرف بأجزاء منه، قد تصغر وقد تكبر، حسب مقامه، وهذا هو الذي لم يصل بعد إلى (حيث لا إلى).

وقد مضت على الأمة الإسلامية قرون طويلة، كانت هذه الخرافات الضلالية تشكل الجزء الرئيسي من ثقافتها وأحاديثها في أسمارها وفي وعظ وعاظها، حتى وصلت إلى ما هي عليه، بل هي الآن خير مما كانت عليه في تلك القرون.

إفساد العبادات:

أقحمت الصوفية على الإسلام عبادات غريبة عنه، منها:

(أ) مزجت الرياضة الإشراقية (الخلوة، والجوع، والسهر، والذكر الإرهاقي البدعي، والحضرة؛ (الراقصة والجالسة)، والرقص؛ (بنقص أو بدون نقص)، بالإسلام، وجعلتها طريق السير إلى الله (أي: إلى الألوهية).

 (ب) في الوثنيات طقوس جاء الإسلام ليحاربها فيما يحارب، كعبادة الشيوخ والأولياء الذين كانوا في الجاهلية يسمون (الكهان)، يعبدونهم عملياً وينكرون ذلك نظرياً)، والاستغاثة بالقبور والأموات، وتقديس الأضرحة والحجارة والقبب والأشجار...وغيرها.

وجاءت الصوفية...

فأقحمت هذه الطقوس على الإسلام، وجعلتها عبادات يتقربون بها إلى الله، إلى جانب العبادات الأصلية، وكثيراً ما كنا نرى أناساً أضاعوا الصلاة وارتكبوا المنكرات، دون أي شعور بحرج، ومع ذلك كانوا ملتزمين بهذه الطقوس.

وجعلت الصوفية أتباعها يعتقدون أن الالتزام بهذه الطقوس هو من المنجيات، وأن إهمالها من المهلكات، بل وكثير من المتصوفة يعتقدون ويصرحون أنها كافية.

 (جـ) ابتدعوا أقوالاً وأعمالاً أقحموها على العبادات الإسلامية الأصيلة، في أوائلها وثناياها وأواخرها، حتى صار أكثر المسلمين يتمسكون بها على أنها جزء من العبادة، لا يجوز تركه، وقد يقيمون القيامة على من يتركه، مثل: التلفظ بالنية للدخول في العبادة (تكبيرة الإحرام هي المدخل للصلاة، فبطل ذلك، أو نسخ، أو عدل.. لا ندري؟ وصار المدخل هو قولهم: نويت أصلي...إلخ)، وفي كثير من المساجد، شاهدناهم في رمضان بعد صلاة العشاء، وبإيعاز من الإمام أو الشيخ، يقولون جماعة بصوت عال: نويت صيام نهار غد من شهر رمضان وهكذا بقية العبادات، بل وأقحموا هذا التلفظ على العادات، على أنها بذلك ستصير عبادات.

وأقحموا المصافحة عند انتهاء الصلاة، مع ترديد (تقبل الله) مع الجهر جماعة بالاستغفار وغيره، وأضافوا إلى الأذان في آخره ما لم يأذن به الله، وتكون هذه الإضافة في كثير من الأحيان أطول من الأذان، عدا عما فيها من كذب على الله ورسوله، كقولهم: إن محمداً أول خلق الله، كما أضافوا في أول الأذان ما يسمونه التذكير، وذلك في أوقات مخصوصة ما أنزل الله بها من سلطان، عدا ما يرددونه في هذا التذكير، من مثل قولهم: (نعم أنت مخلوق ولست بخالق، ولكن لك الرحمن قد وكل الأمرا)، وغيرها الكثير مما تصدى العلماء لنقضه في كتبهم ورسائلهم.

وسموا ذلك: (بدعة حسنة) تبريراً لإحداثهم في دين الله.

(د) أحدثوا طقوساً ابتدعوها، ما أنزل الله بها من سلطان، كمولد النبي، وموالد من يسمونهم (الأولياء)، ومجالس الصلاة على النبي بما فيها من مخالفة لأركان الذكر والدعاء في الإسلام، ومثل قراءة (صحيح البخاري) جماعة في المساجد إذا حزبهم أمر، وغير ذلك مما يعرفه المسلمون ومما لم يرد فيه أي نص عن الرسول صلى الله عليه وسلم، عدا عما فيها من شركيات ومخالفات وكبائر. وقد طغت هذه الطقوس، وتمسك بها الكثيرون على أنها من صميم الإسلام يتقربون بها إلى الله، حتى إن بعض من يسمَّون (علماء) يكفرون من ينتقد هذا أو يفسقونه.

وللعلم: المعروف عن مولد الرسول صلى الله عليه وسلم أنه كان يوم الإثنين، أما (12 ربيع أول)، فهو اختراع، والتلفيق واضح فيه، و(12 ربيع أول) من عام الفيل كان يوم خميس.

 (هـ) تهاونوا بالعبادات بحجة الوصول إلى مقام رفع عنهم فيه التكليف، أو بحجة أن الشيخ يدخلهم الجنة دون حساب، أو بحجة أن تارك العبادة منهم أفضل من العابد من غيرهم، أو بالحجة التي تقول: جذبة من جذبات الحق تساوي عمل الثقلين، أو بحجة أن قراءة الورد الفلاني أو الصلاة على النبي الفلانية أفضل من عبادة كذا وكذا، أو بحجة أن من زار قبر الشيخ فلان، أو رآه أو رأى من رآه أو مر بمدرسته أو اتبع طريقته يغفر له كل ذنوبه ما تقدم منها وما تأخر...إلى آخر ما رأينا أمثلة منه في الفصول السابقة.

وبذلك كانت الصوفية وراء ابتعاد الناس عن الإسلام وإهمالهم لتعاليمه.

إفساد الأخلاق والسلوك

* النفاق:-

يقول سبحانه: ((إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ)) [النساء:145]، ويقول جل وعلا: ((...وَاللهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ. اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ. ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ. وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ)) [المنافقون:4].

هذا هو حكم النفاق في الإسلام.

والنفاق هو إظهار الإسلام وإبطان الكفر.

ولو غيرنا الاسم (النفاق)، وجعلناه (التقية)، لبقي حكمه نفس حكمه؛ لأن تغيير الاسم لا يغير الحكم، فعندما نسمي الخمر (فودكاً) تبقى خمراً وتبقى محرمة.

ولو عبرنا عن النفاق بمثل قولهم: (اجعل الفرق في لسانك موجوداً، والجمع في جنانك مشهوداً)، فسيبقى حكمه نفس الحكم، وسيبقى نفاقاً، ولو وضعنا عبارة أخرى، مثل: (مع مشاهدة المشيئة العامة لا بد من مشاهدة الفرق بين ما يأمر الله به وما ينهى عنه)، أو مثل: (إياك أن تقول أناه، واحذر أن تكون سواه)، أو مثل: (يا رب جوهر علم لو أبوح به لقيل أنت ممن يعبد الوثنا)، أو مثل: (طريقتنا أن نحفظ الشرع ظاهراً، وهذا هو السر العميق المطلسم)، أو غيرها من مئات عباراتهم المدونة في كتبهم وفي معاجمهم ليستعملوها هم ومريدوهم والسالكون في طريقهم في التمويه على أهل الشريعة. لو عبرنا عن النقاق بأي عبارة كانت، فسيبقى نفاقاً، وسيبقى مصير أهله الدرك الأسفل من النار. لكن الصوفية جعلت النفاق شطراً من الولاية والصديقية، ومن أقوالهم في ذلك: (التقية حرم المؤمن...)، وغيرها مما مر. ومعنى التقية في الإسلام هو إبطان الإيمان وإظهار ما يخالفه في حالة الاستكراه ولمدة محدودة عابرة، إلا في حالات استثنائية جداً، أما عندهم فهي على العكس تماماً، إبطان وحدة الوجود، وإظهار الإسلام.

* الكذب:-

في الواقع النفاق هو الكذب، بل هو من شر أنواع الكذب، وهذا المرض (الكذب) المستشري في سلوكنا ومعاملاتنا إنما هو مظهر من مظاهر اجعل الفرق في لسانك موجوداً، والجمع في جنانك مشهوداً، أو انبثاق عنها تسرب من الشيوخ الذين كانوا على مدى قرون يعدون بعشرات الألوف، إلى مريديهم الذين كانوا يعتبرون نخبة المجتمع، ثم إلى الأتباع والمؤمنين، وبالتالي إلى الجميع.

* نسخ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر:-

اللذين تأتي فرضيتهما بعد الأركان مباشرة، وهما الركنان اللذان يقوم عليهما المجتمع الإسلامي واستمراريته، وتركهما، أو ترك أحدهما، يدخل في لعنة الله ((لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ...)) [المائدة:78] ((كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنكَرٍ فَعَلُوهُ)) [المائدة:79]، ويجعل الفساد ينتشر في الأمة.

جاءت الصوفية فألغت الأمر بالمعروف بحجة الخوف من الرياء، وحصرته فيما يكفي لاستمرار المسيرة الصوفية في المجتمع، وألغت النهي عن المنكر بنفس الحجة وبحجة الخوف من وقوع الناهي فيما نهى عنه، وحصرته في النهي عما يعرقل مسيرة التصوف في المجتمع.

وقد مرت الأمثلة على ذلك في فصول سابقة.

* التزهيد بالعمل والدعوة إلى التواكل والكسل:-

العمل من أجل العيش هو من تعاليم الإسلام، ونصوصه كثيرة ومعروفة، وجاءت الصوفية فزهدت المسلمين بالعمل بحجة الزهد والتوكل، بل قررت عدم جواز الصلاة وراء من يأمر بالعمل، وقد مر هذا في فصل سابق نقلاً عن (الإحياء)، وبذلك انتشرت التكايا في البلاد الإسلامية، وغصت بالتنابل، وامتلأت شوارع المدن والقرى وأزقتها بالمكدين (الشحاذين)، وتعطلت الأرض، وتوقفت الأعمال، وكانوا يعدون ذلك من الورع والزهد والتوكل، وأحياء هذه الأيام الذين عاشوا العقود الأولى من القرن العشرين الميلادي يعرفون هذا تمام المعرفة.

* نشر الذل والخنوع والخضوع:-

إن انتشار الصوفية الواسع جعل سلوك المريدين تجاه الشيخ ينزلق إلى المجتمعات الإسلامية، فانتشر الخنوع والخضوع وتقبيل اليد والرجل والوقوف للاحترام، وهي أمور كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكرهها، وشيوخ المتصوفة ومريدوهم يدافعون عنها حتى الآن بأساليب كلها مغالطة والتواء.

* تقديس المجانين:-

المجانين هم مرضى يستحقون العطف والعناية والدواء، لكن شيوخ الصوفية كانوا، وما يزالون يعدون المجانين أولياء أرادهم الله سبحانه لولايته، دون سعي منهم (المراد)، ويصفونهم أنهم سائحون في حب الله، ويتبركون بهم بل وببولهم وروثهم، وإذا ماتوا بنوا لهم المقامات والزيارات.

ولسعة انتشار الصوفية طغت هذه النظرة على المجتمعات الإسلامية، وقد رأينا في فصول سابقة من أمثلة ذلك، وكبار السن الآن يعرفون هذه الأمور في صغرهم في مجتمعاتهم. وماذا يمكن أن يُنْتَظَرَ مِن مُجْتَمَعاتٍ تُقَدِّسُ مَجانينَها.

* التوكل والتسليم والزهد والورع والإخلاص:-

رأينا في فصول سابقة كيف شوهوا معنى التوكل والتسليم والزهد والورع في نفوس المسلمين، وكيف كانت نتائج ذلك التشويه مما عانت منه الأمة وتعاني حتى الآن، وأذكر القارئ بوقائع التتر واستسلام المسلمين لهم استسلام النعاج.

وحتى الآن، فقد سمعنا ونسمع وعاظاً وخطباء يطلبون من الناس أن يخرجوا من مسجد ليدخلوا في مسجد، وأن هذا كافٍ لدحر أعداء الإسلام، أي أنهم يقولون بلسان حالهم، بل ولسان مقالهم أيضاً: ربنا حارب، إنا ههنا في المساجد قاعدون. وسمعنا من يقول وهو يعظ ويحث المسلمين على الخير: الحمد لله الذي سخر لنا أمريكا وإنكلترا وفرنسا وروسيا يخترعون الاختراعات ويصنعون الصناعات ويقدمونها لنا، ونحن نتفرغ فقط لعبادة الله؟! إلى آخر قائمة طويلة من التشويه والتزوير لمعاني القيم الإسلامية والأخلاق التي بعث بها رسول الله صلى الله عليه وسلم.

* إفساد الفكر:

يقوم بناء الفكر الإنساني، كائناً ما كان، بمعطيات ثلاث:

1- المنطلقات أو الأسس، التي يستند إليها ويأخذ منها عناصر بنائه.

2- كيفية البناء.

3- الغاية التي يرمي إليها.

وفي الإسلام:

- المنطلقات هي القرآن وصحيح السنة وواقع الحياة والوجود على حقيقته.

- كيفية البناء موجهة بالفهم المبني على أسس علمية مدروسة للقرآن والسنة، وبفهم الصحابة رضي الله عنهم وتطبيقاتهم، كما هي موجهة، في الأمور الدنيوية، بمعرفة واقع الحياة والوجود معرفة علمية صحيحة.

- الغاية التي يرمي إليها بناء الفكر الإسلامي ويسعى إليها المسلم هي الأجر والثواب من الله سبحانه كما وعد به عباده المؤمنين في القرآن والسنة، لا كما يتوهمه المتوهمون.

وقد أفسدت الصوفية هذه العناصر إفساداً بالغاً، ففسد فكر المسلم، ووصل المسلمون إلى الحالة الراهنة التي لا يحسدون عليها، مع التذكير بأن حالتهم في القرون الأخيرة حتى النصف الأول من القرن الثاني عشر الهجري كانت الأنموذج الكامل لمجموع الإفسادات التي أنتجتها الصوفية، حتى هيأ الله سبحانه لدعوة الحق من أعاد لها جدتها، فأخذت الأمة تستيقظ شيئاً فشيئاً من سبات كان عميقاً كالموت.

وقد مرت في فصول الكتاب، وتمر، أمثلة كثيرة من صور الإفساد، وما هي إلا عرض بسيط له.

* إفساد المنطلقات:

* القرآن:-

لم يستطع المتصوفة تحريف القرآن؛ لأن الله، له الحمد، حفظه باعتناء المسلمين بحفظه ودرسه وتدريسه والتعبد بقراءته في الصلاة وفي التلاوة آناء الليل وأطراف النهار، فعمدوا إلى تحريف معانيه، وهذا مثل من تفسيرهم، منقول عن (تفسير القرآن الكريم للشيخ الأكبر العارف بالله العلامة محيي الدين بن عربي):

((الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ)) [آل عمران:172]: يقول الشيخ الأكبر مفسراً هذه الآية: ((الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ)) [آل عمران:172]، بالفناء في الوحدة الذاتية. ((وَالرَّسُولِ)) [آل عمران:172]، بالمقام بحق الاستقامة. ((مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ)) [آل عمران:172]، أي: كسر النفس. ((لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ)) [آل عمران:172]، أي: ثبتوا في مقام المشاهدة. ((وَاتَّقَوْا)) [آل عمران:172]: بقاياهم. ((أَجْرٌ عَظِيمٌ)) [آل عمران:172]، وراء الإيمان، هو روح المشاهدة([66]).

ومثل آخر: ((وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ..)) [التوبة:100]: ((وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ)) [التوبة:100]، أي: الذين سبقوا إلى الوحدة من أهل الصف الأول. ((مِنَ الْمُهَاجِرِينَ)) [التوبة:100]، الذين هجروا مواطن النفس. ((وَالأَنصَارِ)) [التوبة:100]، الذين نصروا القلب بالعلوم الحقيقية على النفس، ((وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ)) [التوبة:100]، في الاتصاف بصفات الحق.

 ((بِإِحْسَانٍ)) [التوبة:100]، أي: بمشاهدة من مشاهدات الجمال والجلال([67])...

وقد مر في الفصول السابقة أمثلة أخرى على تحريفهم لمعاني القرآن، وهي بعض من كل، ومن يريد الاستزادة يستطيع الرجوع إلى كتابهم المقدس (إحياء علوم الدين) ليرى من التزوير في التفسير ما تقشعر له أبدان الذين يؤمنون بالله ورسله وكتبه ويرجون اليوم الآخر، وكذلك بقية كتبهم على تفاوت بينهم في العبارة وفي عدد ما يفسرونه من آيات. وقد رأينا نثرات من تفاسيرهم للقرآن تفاسير سحرية، وكتبهم ملأى باستعمالات القرآن في اتجاهات سحرية.

* الإفساد في الحديث:-

كان اعتناء المسلمين بالحديث الشريف، وما زال، أقل من اعتنائهم بالقرآن الكريم، لأسباب معروفة، مما ترك مجالاً للدس والتقول على الرسول صلى الله عليه وسلم، فأخذ المتصوفة حريتهم بوضع ما يملي عليهم الكشف من أحاديث، وتضعيف ما يضعفه الكشف، وتصحيح ما يصححه، حتى كانوا هم وراء قسم كبير من ركام الأحاديث الموضوعة المعروفة، وتلك التي لم تزل مدرجة في قسم الأحاديث الضعيفة، والتي تشكل نسبة عالية فيها.

وأوضح دليل على هذا هو كتاب (إحياء علوم الدين) لحجة الإسلام، الإمام، فقيه مئات من الأحاديث الموضوعة التي يقول عنها الحافظ العراقي: لم أجده، أو لم أجد له أصلاً، وهذا يعني، بدهياً، أن الواضع لها هو الغزالي أو كشفه، ونقول للذين يقولون خلاف هذا: هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين، وأرونا المصدر الذي أخذ منه الغزالي هذه الأحاديث.

ومظاهر التقوى والورع التي يتحلى بها كثير من الصوفية جعلت، وتجعل، الناس يثقون بهم ويأخذون عنهم، مع العلم أن التقوى والورع والزهد ولواحقها لا تدل على صحة العقيدة! فكل المؤمنين المخلصين لدينهم، في كل الأديان، يكونون أتقياء ورعين زاهدين...

ونعرف أن متصوفة المسلمين يدينون بالطريقة البرهانية التي مزجت الإشراق بالإسلام، فهم يؤمنون بها، والمخلص منهم ينتهج الإسلام والإشراق معاً.

ولا بأس هنا من عرضٍ يعرض على علماء الحديث، لا أظنهم ناجين من السؤال عنه أمام التاريخ على الأقل، بعد إذ تبين لهم الحق.

هذا العرض هو مراجعة كتب الرجال، والبحث في الرواة عن الشيوخ الكمل الذين تمكنوا من مقام الفرق الثاني، فلم يظهر في سلوكهم وأقوالهم ما يدل على ما في قلوبهم، أي: وصلوا إلى تطبيق القاعدة: اجعل الفرق في لسانك موجوداً، والجمع في جنانك مشهوداً. والتي عبر عنها الجنيد بعبارة: مشاهدة الفرق بين ما يأمر الله به وما ينهى عنه تطبيقاً تاماً.

وأعتقد أن بحثاً جاداً في هذا المجال، إن كان مخلصاً، لا يبتغي إلا رضا الله سبحانه، والوصول إلى الحق، سوف يخلص كتب الرجال من إشكالات واردة فيها، وهذه الإشكالات رغم قلتها، لكنها هامة، من ذلك مثلاً، نرى بعض الرجال موثقاً عند عالم ثقة، ومضعفاً عند مثله، وقد وضع علماء الحديث قواعد دقيقة لحل مثل هذه المشكلة، وهذه قاعدة تضاف إليها قد يكون لها القول الفصل في كثير من الأحيان أو في بعضها.

ومن ذلك مثلاً أن قسماً من الأحاديث الضعيفة، يمكن أن يدرج بعد هذه الدراسة تحت عنوان (المكذوبات).

ومن ذلك مثلاً ما يبدو بعض الأحيان من تناقض ظاهري بين حديثين صحيحين، وقد وضع علماء الحديث عشرات القواعد الدقيقة لحل مثل هذه المشكلة، وهذه قاعدة تضاف إليها، قد يكون لها القول الفصل في كثير من الأحيان أو في بعضها.

ولست أدري، هل أكون مصيباً أو مخطئاً إذا قلت بوجوب إعادة النظر بمثل أبي نعيم الأصفهاني و(حليته)، وذلك بدراسة دقيقة من قبل أكثر من عالم حديث، شريطة أن يكونوا كلهم، على معرفة كاملة واضحة بالكشف والرؤى الكشفية، وكيف يمكن أن يذهب المكاشف إلى مسجد (مثلاً)، فيرى فيه شيخاً معيناً وتلاميذ يطلبون العلم عليه، فيجلس معهم، ويكتب ما يمليه الشيخ، ثم يعود إلى بيته، وفي كراسته علوم جديدة، بينما كان ذلك المسجد، في حقيقة الأمر، خالياً إلا من هذا المكاشف الذي رأى الشيخ وتلامذته بوهم كشفه، وسيقسم هذا المكاشف اليمين تلو اليمين أن ما كتبه كان سماعاً من الشيخ المعين بحضور تلاميذه أو بدون حضورهم (حسب الكشف).

وذلك لأن المكاشف كثيراً ما يختلط عليه الأمر، فلا يفرق بين الرؤى الكشفية والواقعية، وقد رأينا في فصل سابق مئات الأمثلة على ذلك، إضافة إلى عشرات الأمثلة المتفرقة بين الفصول.

ومن إفسادهم في الحديث تزوير معانيه بالتفسير الإشاري، وقد رأينا في ثنايا الكتاب أمثلة منها، ومن يريد الزيادة فأمامه كتبهم، وعلى رأسها (إحياء علوم الدين).

* واقع الحياة والوجود:-

إن واقع الحياة والوجود قائم كما أراده الله، متحرك بسننه تعالى في خلقه التي لا تبديل لها ولا تحويل، والتي يسمونها في لغة العصر الحديث (القوانين الطبيعية)، فلا يستطيع مخلوق إفساد شيء منه إلا في إطار الحدود التي قدر الله سبحانه أن يكون هذا المخلوق القدرة على التصرف فيها، وهي لا تزيد عن عمليات نقل للأشياء أو لأجزاء منها من مكان ووضعها في مكان ملائم، أو غير ملائم، وكل ما صنعه الإنسان، وما يصنعه، لا يخرج عن هذا قيد شعرة، وكان إفساد الصوفية في هذا المجال بإفساد فهم الواقع وتفسيره، وبإفساد أساليب التعامل معه، وفي وضع الأمور في غير مكانها الصحيح.

ففي مجال تفسير الواقع، زورت الصوفية الفكر لدى أتباعها الذين كان ينظر إليهم في أوقات كثيرة على أنهم نخبة المجتمع، زورت التفكير عندهم، حتى أصبحوا، هم والأمة من ورائهم، لا يرون الأمور إلا رؤىً ضبابيةً، ولا يفسرونها إلا تفاسير مبنية على الكرامات وتصرفات الجن وتهاويل الخوارق، ويرسمون للكون صوراً في أذهانهم مأخوذة من كشوف المكاشفين الهلوسية، ومن علومهم اللدنية، وتفصيل هذه وحدها يحتاج إلى كتاب مستقل؛ لأنها تشمل كل نواحي الحياة، وقد مر بعضها في فصول سابقة.

وفي مجال التعامل مع الواقع، صارت الأوراد والأقسام والطلاسم والحجب هي الأساليب التي يتعامل بها الفرد والمجتمع مع واقع متوهم، وصار العلماء إلا من رحم الله، يمزجون فقههم بكتابة الحجب والأوفاق والدوائر لتسهيل الأمور في شتى نواحي الحياة، وأظن أن أكثر العلماء الآن (في السنين الأولى من القرن الخامس عشر الهجري)، إن لم يكونوا كلهم، قد عانوا من طلبات كثير من الناس، حتى من بعض المثقفين، أن يفكوا لهم سحراً، أو يخلصوهم من أمور لا تزيد عن كونها أوهاماً من أوهام الصوفية. ورقصات الزار في مصر والسودان والحبشة والحضرات الصوفية في كل البلاد الإسلامية، والسيارة والعدة لزيارة القبور جماعياً وضرب العدة حولها (وقد تقلص هذا كثيراً بسبب انتشار الثقافة، والزيارات الإفرادية التي تجر إلى الاستغاثة بالأموات، وطلب النصرة حسب الأوهام...

كل هذا من نتاج التصوف، وإن ظهر بعضه في جماعات تدعي أنها غير متصوفة؛ لأن القناعات الفكرية إذا عمت جرفت أمامها كل من لم يعصمه الله سبحانه.

وكان من نتائج هذا الفهم السحري، المرتبط بالكرامات كلياً أو قريباً من الكلي، وهذا التعامل المبني على الفهم السحري، ما نراه من ضياع وتخبط ووضع للأمور في غير أماكنها الصحيحة، بل وعدم القدرة على ذلك فكرياً وعملياً.

والأمثلة على ذلك أكثر من أن تحصى، يحتاج تفصيلها إلى مئات الصفحات، ونورد منها أمثلة عابرة، جرت وتجري حالياً.

* حادثة:-

كانت فئة من المجاهدين تعاني في قطاعها فقراً شديداً بالمال والسلاح والطعام، حتى عرف أفرادها الجوع، ورأى أحد الأثرياء المخلصين المتصلين بهذه الفئة في المنام من يقول له: إنه إذا وزع أربعين ألفاً على العميان والفقراء المجاورين عند المقام الفلاني فسينتصرون.

ووزع المبلغ على العميان والفقراء المجاورين، وأخذ ينتظر النصر.

ولم يطل الانتظار، فقد هوجمت هذه الفئة دون أن تستطيع مقاومةً ولا دفاعاً وسحقت؛ لأنها كانت مفتقرة إلى السلاح، وكان الجوع ينهكها.

* حادثة ثانية:-

أربعة شباب باعوا أنفسهم لله، وانضموا إلى فئة من المجاهدين، لكنهم رأوا أفراد هذه الفئة يعكفون على قبر يطلبون عنده الثواب، ويستنزلون النصر! فنصحوهم وجاءوهم بالبينات من نصوص القرآن والسنة التي تثبت أن هذا العمل من الشرك العظيم.

عقد أفراد الفئة المجاهدة مؤتمراً فيما بينهم وشكلوا محكمة برئاسة عالمهم، حاكمت الشبان الأربعة محاكمة (عادلة)! فقد استمعت إلى أقوالهم وأدلتهم من القرآن والسنة برحابة صدر، ثم أصدرت حكمها عليهم بالإعدام، ونفذ الإعدام.

* واعظ:-

رجل يقول بلسان حاله: إنه عالم، يناقش حالة المسلمين، ويلقي مواعظه، ومن هذه المواعظ ما معناه:

إن السبب في انهيار المسلمين هو عدم الإخلاص، فلو كنا مخلصين لكفانا أن نحمل البندقية، ونوجهها باتجاه العدو كيفما كان، وستخرج الرصاصة لتصيب منه مقتلاً...

* وواعظ آخر:-

يقول ما معناه:

إن العلة في المسلمين هي عدم الخشوع في الصلاة، وعلينا أن ندعو للخشوع، ونحث عليه، وعندما يتحقق ذلك يتحقق النصر.

وتعليقاً على هذه المواعظ نقول:

الإخلاص مطلب أساسي، لكن نسأل: الإخلاص لماذا؟ هل نخلص لما نتوهمه أنه الحق؟ إن هذا النوع من الإخلاص ليس إسلامنا؛ لأن الإسلام يأمرنا أن نعرف الحق أولاً بالأسلوب العلمي الصحيح، ثم نخلص في أقوالنا وأعمالنا وكل سلوكنا لهذا الحق. والخشوع أيضاً مطلوب، لكن كيف يكون؟ وفيم؟ إن كانت العقيدة فاسدة فالخشوع ضغث على إبالة، وإن كانت العبادة غير صحيحة، فالخشوع فيها رزء فوق رزء، وإن كان العمل الدنيوي في اتجاه معكوس أو منحرف فالخشوع يزيد الطين بلة، إن الوثني التقي يخشع أمام وثنه وفي عبادته، فهل ينفعه خشوعه؟ والماركسية الزاحفة يعجبها كثيراً أن نعمل على إيقافها بالخشوع، وبقراءة البخاري جماعة في المساجد.

وزيادة في التوكيد، نضيف كلمة أخرى لأبي الحسن الندوي عن حالة المسلمين التي كانوا عليها في القرون الأخيرة، يقول:

...لا بد أن نشير إلى أن ذلك الوسط والعهد (القرنين العاشر والحادي عشر الهجريين)...كان التصوف فيهما قد تغلغل في أحشاء المجتمع الإسلامي، وامتزج بلحمه ودمه، حتى أصبح التصوف له طبيعةً وذوقاً، وسمةً وشعاراً... بل كانت العامة لا تعبأ بعالم أو مرب أو مصلح، ولا تقيم له وزناً، ولا تعتقد فيه الخير والصلاح، ولا تنتفع بمواعظه وكتاباته، ما لم يكن له إلمام بالتصوف والسلوك، ويكون قد صحب بعض المشايخ المعروفين، وانخرط في سلك بعض الطرق السائدة المقبولة في الناس([68]).

ويقرر في كتاب آخر ناقلاً:

...في القرن الثامن عشر (الميلادي)، كان العالم الإسلامي قد بلغ من التضعضع أعظم مبلغ، ومن التدني والانحطاط أعمق دركه، فارْبَدَّ جَوُّهُ، وطبقت الظلمة كل صقع من أصقاعه ورجاء من أرجائه، وانتشر فيه فساد الأخلاق والآداب وتلاشى ما كان باقياً من آثار التهذيب العربي.

واستغرقت الأمم الإسلامية في اتباع الأهواء والشهوات، وماتت الفضيلة في الناس، وساد الجهل، وانطفأت قبسات العلم الضئيلة، وانقلبت الحكومات الإسلامية إلى مطايا استبداد وفوضى واغتيال...وقام كثير من الولاة والأمراء يخرجون على الدولة التي هم في حكمها، وينشئون حكومات مستقلة، ولكن مستبدة كحكومة الدولة التي خرجوا عليها، فكان هؤلاء الخوارج لا يستطيعون إخضاع من في حكمهم من الزعماء هنا وهناك، فكثر السلب والنهب، وفقد الأمن، وصارت السماء تمطر ظلماً وجوراً، وجاء فوق جميع ذلك رجال الدين المستبدون يزيدون الرعايا إرهاقاً فوق إرهاق، فغلّت الأيدي، وقعد عن طلب الرزق، وكاد العزم يتلاشى في نفوس المسلمين، وبارت التجارة بواراً شديداً، وأهملت الزراعة أيما إهمال.

وأما الدين فقد غشيته غاشية سوداء، فألبست الوحدانية التي علمها صاحب الرسالة الناس سجفاً من الخرافات وقشور الصوفية، وخلت المساجد من أرباب الصلوات، وكثر عديد الأدعياء الجهلاء، وطوائف الفقراء والمساكين يخرجون من مكان إلى مكان يحملون في أعناقهم التمائم والتعاويذ والسبحات ويوهمون الناس بالباطل والشبهات، ويرغبونهم في الحج إلى قبور الأولياء، ويزينون للناس التماس الشفاعة من دفناء القبور، وغابت عن الناس فضائل القرآن، فصار يشرب الخمر والأفيون (والحشيشية)، في كل مكان، وانتشرت الرذائل وهتكت ستر الحرمات من غير خشية ولا استحياء([69]). اهـ.

يقول أبو الحسن الندوي عند إيراده (مقرراً) هذا النص: إنه لا يتحمل مسؤولية صحته مائة في المائة.

ونجيبه: تأكد يا أستاذنا أنه صحيح مائة في المائة، وأن الإسلام يعيش غربته منذ قرون طويلة.

* وثنية الأمير:-

رأينا من أقوالهم في الفصول السابقة مدى تقديسهم للشيخ، وما يعتقدونه في الشيوخ من القدرة الإلهية والتصرف في الكون، بل وكل الصفات الحسنى.

وعملياً، كان هذا التقديس وهذا الاعتقاد عندهم ركنين أساسيين من أركان الإسلام والإيمان، أو كانا الركنين اللذين يقوم عليهما ما يسمونه (الإحسان).

وبما أن الصوفية كانت مسيطرة على المجتمعات الإسلامية، ومتغلغلة في نفوس كل المسلمين، إلا من رحم الله، لذلك كانت نظرة الجميع إلى الشيخ هي هذه النظرة التقديسية.

وبطبيعة الحال، انزلق هذا التسليم للشيخ والاعتقاد بقدرته الإلهية، إلى التسليم لأي رئيس والاعتقاد بقدرته الإلهية، فصاروا ينتظرون من الأمير أن يصلح ما يفسدون وأن يقول للشيء: كن فيكون.

وهذه العقيدة بالذات هي التي أضاعت بلاد المسلمين، فلقد كان الفساد الذي رأينا صوره، مستشرياً هناك بسبب الصوفية، وكان الدعاة والوعاظ كلهم، حتى من كان على نهج الإسلام الصحيح، ينتظرون الأمير الذي يغير ذلك الحال ويصلح الأحوال، ناسين قوله سبحانه: ((إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ)) [الرعد:11].

وطبعاً، لا يملك الأمير القدرة الإلهية، ولم تكن لديه تلك العصا السحرية التي يحركها فتغدو الخيانة أمانة والكذب صدقاً والقناعات الفكرية المزورة حقاً ووعياً.

وبما أن القناعات المسيطرة على الناس والمتغلغلة في أعماق نفوسهم هي قدرة الأمير، لذلك كانوا يتهمونه بالجبن أو بالخيانة أو بالظلم أو ما شابهها. فيثور عليه ثائر يزيحه ويجلس مكانه، وهو يظن أنه شجاع وأمين، لكنه لا يستطيع أن يفعل شيئاً، فيتهمه الناس بدورهم بما اتهموا سلفه، فيضطر للبطش بهذا أو ذاك دفاعاً عن نفسه، ويستشري التناحر بين أنصاره وأعدائه، حتى يثور عليه ثائر آخر، فإما أن يزيحه أو ينفصل عنه... وهكذا.

وهكذا بقيت الأمة تعيش في فتن مستمرة، ونهاية الفتن معروفة، إنها دمار الأمة. وهكذا ذهبت بلاد المسلمين، كما أنها الآن في طريقها للضياع بلداً بعد آخر بيد الماركسية، على يد دعاة ينبثقون من روح وثنية الحاكم، مثيرين الفتن ضد أعداء الماركسية وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً، وهؤلاء، وإن كان بعضهم غير صوفي، لكن نظرتهم هذه انبثقت في أساسها من الصوفية التي حرثت، وجاء الخبثاء؟ فزرعوا وحصدوا.

* النظرة الطفولية للأمور:-

إن تقديس الشيخ الذي انزلق إلى النظرة التأليهية للحاكم، ومرور قرون على المسلمين وهم يتحركون في هذا الإطار، جعل النظرة الطفولية للأمور من الخواص المسيطرة على التفكير والمسيرة له، إلا من رحم الله.

فالطفل في أشهره الأولى لا يرى إلا البارز من الأشياء، فعندما يحمله أبوه، يمد يده إلى أنفه، أو إلى يده إن كانت قريبة منه، ولو وضعت أمامه على الأرض أشياء مختلفة الأحجام، فإنما يمد يده إلى البارز منها سواء لكبر حجمه أو لوجوده على مكان بارز. فهكذا المسلمون الآن لا يرون في المجتمعات إلا البارز، والحاكم أبرزهم، لذلك فهو المطالَب بإقامة حكم الله، وهو المطالب بالنصر، وعليه تبعة انهيار الأخلاق وتبعة الهزائم...إلخ. والعجب العجاب المثير للارتياب أنهم لا يلقون هذه التبعات إلا على الذين يحاربون الماركسية.

ومما نسمعه، مثلاً، من أدعية يدعو بها من يسمونهم (علماء): اللهم هيئ لهذه الأمة قائداً صالحاً يقيم فيها حكم الله ويقودها إلى النصر...إلخ.

وكأن القائد معه عصاً سحرية، أو له قوة إلهية، وكأن الإسلام نزوة حاكم، وكأنهم نسوا قول الله سبحانه: ((إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ)) [الرعد:11].

ومن الأمثلة على النظرة الطفولية للأمور، سؤال كثيراً ما سمعناه، وهو: هل نحن الآن في عهد مكي، أو في عهد مدني؛ وكثيراً ما دارت النقاشات حول هذا التساؤل! وكأن التاريخ عبارة عن كليشة يكرر طبعها في كل مكان وزمان، وعلينا أن نعرف موضعنا من هذه الكليشة. ورغم أن هذا السؤال قد يصدر عن غير متصوفة، لكن ما كان يمكن قبوله لولا النظرة الطفولية التي انبثقت من التسليم للشيخ، وعدم القيام بأي عمل، بل وعدم التفكير بالقيام به أو التفكير بكيفية هذا القيام، وإنما يعرض الأمر على الشيخ، ويطبق ما يقوله حرفياً دون مناقشته أو حتى الاستفهام منه عن غريبه (من قال لشيخه: لِمَ؟ لا يفلح أبداً). وكان التقي الورع الذي يرجو الفلاح والذي كان يَنْظُر إليه على أنه نخبة الأمة، كان لا يفكر في أي أمر، وإنما يعرضه على الشيخ، ويطلب توجيهه المقدس، ويدعو الناس في وعظه وخطبه إلى مثل هذا.

ومن أخطر مظاهر هذه النظرة الطفولية الواضحة، إن لم يكن أشدها خطراً، هو مناقشة الأمور دون إدراك للعلاقة بين الأسباب والنتائج.

ومن المفاسد القاتلة التي انبثقت عن الصوفية قبول المتناقضات على أنها كلها صحيحة؛ لأن احترام الشيوخ وتقديسهم وتقديس أقوالهم كان طيلة قرون طويلة هو طريق النجاة والفلاح، وبطبيعة الحال، كانت أقوالهم متناقضة وساقطة بسبب جهلهم من جهة، ولأنهم كانوا يأخذون علومهم من الكشف والعلم اللدني من جهة ثانية، وبسبب الغرور الذي يسببه تقديس الناس لهم، والذي يجعلهم يعتقدون أن كل ما يجري على ألسنتهم من هذيانات هو من باب (حدثني قلبي عن ربي) ؛ وكان الناس كلهم إلا من رحم الله، يعتقدون في الشيوخ هذا الاعتقاد ويطبقونه؟ لذلك كانوا يقبلون المتناقضات على أنها من عند الله، ولا تعترض فتنطرد، وكانت هذه الحالة من الأسباب الرئيسية في تشتت أفكار الأمة وتخبطها.

ومن مظاهر الفساد المدمر التي انبثقت عن الصوفية (الطبطبة) على المفاسد ومحاولة تبريرها، بل والإصرار على عدم وجودها ومهاجمة من يحاربها بأساليب شتى.

وطبعاً، انبثقت هذه الظاهرة من قاعدة: سلم تسلم، أو لا تعترض فتطرد.

ومن الفساد الذي سيطر على الأمة قروناً طويلة الازدواجية في العقيدة وفي التفكير التي كان يعيشها وعاظ الأمة وموجهوها ودعاتها، إلا من رحم الله، حيث كانوا يبطنون خلاف ما يظهرون، يبطنون وحدة الوجود وما يتفرع عنها، ويظهرون الشريعة الإسلامية التي يحاولون توجيهها لتتفق مع ما يبطنون.

وفي واقع الأمر كان هناك صراع خفي يتفاعل في ضمير كثير من العلماء الذين قبلوا الصوفية حيث كان يظهر هذا الصراع في كتابات بعضهم وفي أقوالهم وبعض أفعالهم، مثل ما نراه عند أحمد الفاروقي السرهندي وأمثاله الذين كانوا يتشددون في وجوب كتمان السر إلا عن مستحقيه، ويهاجمون من يصرح بالوحدة.

هذا موجز لدور الصوفية في تمزيق الأمة الإسلامية.

لكن يوجد إلى جانبها عاملان آخران تأتي أهميتهما بعد الصوفية، وهما:

أ- الخلفيات الفكرية والعقائد والفلسفات: التي كانت تشكل تيارات في المجتمعات الإسلامية تحيط بالشيخ وتوجه كشوفه وعلومه اللدنية؛ لأن الرؤى الكشفية هي انبثاقات للمعلومات والتوجهات والأماني والطموحات المختزنة في أعماق الشيخ، ومنها تلك الخلفيات الفكرية والعقائد، مع العلم أن بعضها وجد بسبب الصوفية أيضاً. فمحمد بن فلاح، مثلاً، تشيع بسبب المحيط الذي كان يعيش فيه، في الحلة التي كان التشيع غالباً في أهلها، ثم شيع أتباعه بمئات الألوف بواسطة الصوفية...وهكذا.

ب- الموقف السلبي في مواجهة الصوفية: وذلك بحجج هي أقبح من الصوفية، وهي متعددة، لكن أبرزها وأبشعها حجتان:

1- قول من يقول: لا تفرقوا صفوف المسلمين. يقولها لمن يشرح للناس خطر الصوفية ويبين زيفها وضلالها؟!

والجواب على هذه الحجة الفاسدة هو قوله سبحانه: ((وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا)) [آل عمران:103]، أي: إن جمع الصفوف يكون بالاعتصام بالقرآن والسنة اللذين هما حبل الله، وتفريق الصفوف يكون بالابتعاد عنهما.

وهذا الذي يقول لدعاة الحق: لا تفرقوا صفوف المسلمين، إنما يقدم العون الأكبر لاستشراء الداء وتفريق المسلمين وتمزيقهم، كما هو حاصل؛ وهو داخل في زمرة الموصوفين بالآية الكريمة: ((....كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنكَرٍ فَعَلُوهُ...)) [المائدة:79].

2- قول من يقول: لا تكفر مسلماً! كيف تكفر رجلاً يشهد أن لا إله الا الله؟

والجواب على هذه الحجة الفاسدة هو أولاً: أن المسألة ليست مسألة تكفير مسلم، وإنما هي مسألة بيان الحق من الباطل والهدى من الضلال، ثم إن كل البلاء الذي أصاب الأمة ودمرها، جاء في الأساس على يد أناس يشهدون أن لا إله إلا الله ويضمرون ما يضمرون، وأكثرهم- إن لم يكونوا كلهم- مخلصون فيما جاءوا به ويعتقدون أنه الحق.

كما أن الواجب على المسلم أن يعرف الحق أولاً، كما يقول علي بن أبي طالب رضي الله عنه: [[اعرفوا الحق تعرفوا أهله]]، وطبعاً، إذا عرفنا الباطل نعرف أهله أيضاً، ويجب أن نعرفه لنعرفهم.

قد كان من واجب علماء المسلمين أن يدرسوا الصوفية دراسة واعية ثم ينبهوا الأمة إلى خطرها؛ لكن الذي حصل أن فطاحل العلماء كانوا لا ينظرون إلا إلى ظاهرها وإلى عباراتها المتداولة دون محاولة لتفهم حقيقة معانيها ومراميها، فما كان واضح الدلالة على وحدة الوجود، أي ما كان من عبارات الوحدة المطلقة، حكموا عليه بالكفر، وما كان غامضاً أولوه التأويل الحسن بحجة عدم تكفير المسلم؛ ولأنهم لم يحاولوا دراسة الصوفية بعمق، ولم يتنبهوا إلى تواصيهم بالتقية وكتمان السر عن غير أهله، وأن هذا السر كفر وزندقة!

وعدم دراستهم للصوفية جعلهم يرتكبون أخطاءً كان لها دور واضح في بقاء مسيرة التصوف لتفعل فعلتها التي فعلت، ومن هذه الأخطاء:

* قولهم: إن في المتصوفة من يؤمن بوحدة الوجود، ومنهم من يقول بالاتحاد أو بالحلول، وفيهم الأتقياء الذين يسيرون على منهج الصوفية الحقة التي لا تؤمن بهذه الأمور.

وطبعاً؛ هذا كلام خطأ كله، فالصوفية مذهب واحد، وعقيدتها هي وحدة الوجود، ولا يوجد بين متصوفة المسلمين من يقول أو يعتقد بالاتحاد أو الحلول، (لا يوجد ولم يوجد)، كما أن الذين لا يعرفون وحدة الوجود بينهم هم السالكون الذين لم يبلغوا بعد محل ثقة الشيخ.

* ومن هذه الأخطاء قولهم: إن في المتصوفة من يقول بالحقيقة المحمدية، ومنهم من لا يقول بها! وهذا خطأ كله؛ فالمتصوفون كلهم، حتى السالكون المبتدئون، تشرح لهم الحقيقة المحمدية ويؤمنون بها، وقد يسمونها أسماء أخرى، مثل: (أسبقية النور المحمدي، أو أول خلق الله...).

وقد استغل المتصوفة هذا الموقف، وصاروا كلهم يقولون عن أنفسهم وعن مشايخهم وأتباعهم وأمثالهم: إنهم على الصوفية الحقة، ثم ينهالون بالشتائم على الدخلاء على الصوفية وعلى المبتدعة الذين يقولون بالحلول والاتحاد، أو الذين يقولون بالوحدة المطلقة (أي: غير المقيدة بالرمز واللغز).

وهكذا بقيت مسيرة التصوف، وأوصلت الأمة إلى ما نراه الآن، مع العلم أنها الآن أقل سيطرة بكثير مما كانت عليه في قرون سابقة.

لكن بشيء من التدقيق، يتضح أن هاتين الحجتين السلبيتين هما أيضاً من نتاج الصوفية، ومن أساليب المتصوفة في الدفاع عن أنفسهم ومعتقدهم، حتى فشتا بين الأمة.

إن هذه الأمراض والمفاسد، ارتكزت في سريانها في الأمة على مرضين خبيثين بعثتهما الصوفية في الأمة، هما: الجهل والعقم الفكري.

* الجهل:-

لولاه لما استطاعت هذه المفاسد- وغيرها- أن تجد لها مكاناً في المجتمعات الإسلامية، وقد رأينا في الفصول السابقة النصوص الكثيرة لأقطابهم وعارفيهم، التي يأمرون بها بالجهل والابتعاد عن العلم، بل وينفرون بها من مجرد معرفة القراءة والكتابة، وهي غيض من فيض، ولولا أن تلاوة القرآن فرض على المسلمين، ومعرفة الحلال والحرام فرض على فئة منهم، لنسيت القراءة والكتابة جملةً وتفصيلاً، والله وحده يعلم إلى ماذا كانت ستؤول إليه أحوال الأمة.

* العقم الفكري:-

رأينا في الفصول السابقة، ونرى في مجتمعاتنا الحالية، الأمثلة الكثيرة الكثيرة على فرض الصوفية على المريدين أن يكونوا بين يدي الشيخ كالأموات بين أيدي الغاسلين، ورأينا، ونرى، كيف أن الفرد من المريدين لا يفكر لنفسه ولا لغيره، وإنما يذهب إلى الشيخ ليفكر له، ولا يطلب معرفة، بل يذهب إلى الشيخ ليفيض عليه من معارفه اللدنية، ولا يقضي أمراً حتى يرى الشيخ فيه رأيه...إلخ.

كانت هذه حالة كل الأمة، إلا من رحم الله، بل إن هذا (الحال) صار (مقاماً) عالياً، حتى كانوا لا يحاولون، بل يتواصون بعدم محاولة فهم نصوص القرآن والسنة إلا من الشيخ، فإذا أخطأ الشيخ، فخطؤه خير من صوابك! وإذا كان جاهلاً، فجهله خير من علمك! وإذا ناقضت أقواله النصوص، فاتباع فهمه هو الإيمان، واتباع فهمك هو الضلال! وإذا تناقضت أقوال الشيوخ فيما بينهم، فكلهم من رسول الله مقتبس (بالكشف طبعاً)...إلى آخر القائمة...ومثل هذا موجود حتى الآن.

وبذلك سيطر العقم الفكري، بل الشلل الفكري على الأمة، حتى وصلت إلى ما هي عليه.

إن الله سبحانه وتعالى لم يظلم المسلمين عندما سلط عليهم الاستعمار. حاشاه سبحانه وتعالى من الظلم؛ وإذ كان الجزاء من جنس العمل، فقد كان الاستعمار هو الدواء النجس لتلك العلة الخبيثة.

وقد يسأل سائل: ألا يوجد في الصوفية إيجابيات؟ والجواب: نعم، لها إيجابيتان:

1- الأدب الرمزي، إذ أن متصوفة المسلمين هم الذين ابتكروه لستر حقيقتهم، ولم ينتشر في العالم إلا بعدهم بقرون طويلة، ويظهر أن مبتكريه كانوا سابقين للجنيد في الزمان، لكن الجنيد هو الذي بلوره ووضع له القواعد والمصطلحات وكثيراً من عباراته التي يستعملونها.

2- بعض التفاصيل التاريخية، حيث تقدم كتب المتصوفة صوراً من حياة المجتمعات الإسلامية وعاداتها لا نراها في غيرها، كما نستطيع من خلالها تفسير بعض إشارات الاستفهام التاريخية عند المسلمين وعند غيرهم أيضاً.



([1]) الكامل في التاريخ: (9/324).

([2]) الكامل في التاريخ: (9/339).

([3]) الكامل في التاريخ: (9/385).

([4]) الكامل في التاريخ: (9/337).

([5]) الكامل في التاريخ: (9/386).

([6]) الفكر الشيعي، (ص:88).

([7]) رجال الفكر والدعوة في الإسلام: (2/176).

([8]) رجال الفكر والدعوة في الإسلام: (2/171، 172).

([9]) أربع رسائل إسماعيلية، في آخر مقدمته على قصيدة عامر بن عامر.

([10]) الصوفية بين الأمس واليوم، (ص:134).

([11]) أربع رسائل إسماعيلية، رسالة مطالع الشموس في معرفة النفوس، مطلع المرتبة الثانية في التوحيد والتنزيه والتجريد.

([12]) من أحياء العقد الثالث من القرن العشرين الميلادي، لم أقف على تاريخ وفاته.

([13]) تاريخ العلويين، (ص:264).

([14]) الدروز في التاريخ، (ص:129).

([15]) الدروز في التاريخ، (ص:140).

([16]) الدروز في التاريخ، (ص:148و 149).

([17]) الدروز في التاريخ، (ص:229).

([18]) الدروز في التاريخ، (ص:236).

([19]) الدروز في التاريخ، (ص:236).

([20]) الدروز في التاريخ، (ص:237).

([21]) الشبك، (ص:47).

([22]) الفكر الشيعي والنزعات الصوفية، (ص:113).

([23]) أشار إلى هذه الملاحظه مؤلف الفكر الشيعي والنزعات الصوفية.

([24]) رجال الفكر والدعوة في الإسلام: (2/172، وما بعدها).

([25]) رجال الفكر والدعوة في الإسلام: (2/176 - 187).

([26]) مدينة إيرانية داخلية تبعد عن أقرب مرفأ إليها على خليج البصرة حوالي مائة كم، وهو بندر ريك.

([27]) الفكر الشيعي والنزعات الصوفية، (ص:249).

([28]) الفكر الشيعي والنزعات الصوفية، (ص:208).

([29]) الفكر الشيعي والنزعات الصوفية، (ص:209).

([30]) ميزان الاعتدال للذهبي في ترجمة ابن عربي.

([31]) الفكر الشيعي والنزعات الصوفية، (ص:181).

([32]) الفكر الشيعي والنزعات الصوفية، (ص:182).

([33]) الفكر الشيعي والنزعات الصوفية، (ص:197).

([34]) الصوفية بين الأمس واليوم، (ص:135).

([35]) الفكر الشيعي والنزعات الصوفية، (ص:168، 169).

([36]) كانوا يطلقون على تركيا اسم (بلاد الروم)، والأسرى المذكورون كلهم مسلمون سنيون أتراك.

([37]) الصوفية بين الأمس واليوم، (ص:173).

([38]) أحمد بن علي البوني في كتابه (شمس المعارف الكبرى).

([39]) كلمة (بضع) فقط هي التي تطابق (872) بحساب (الجمّل الكبير).

([40]) الصوفية بين الأمس واليوم (ص:137).

([41]) المهدي عند الشيعة الآن هو محمد بن الحسن العسكري، مع العلم أن الحسن العسكري توفي دون أن ينجب، ومحمد المزعوم هذا غائب في مغارة سامراء منذ (ألف ومائة وخمسين سنة) وهم ينتظرون خروجه ليحكم بأحكام داوُد ولا يُسْأل عما يفعل، ويستوزر (سبعة وعشرين) من قوم موسى، ويحيي الله له الصحابة والخلفاء فيقتلهم وعلى رأسهم أبو بكر وعمر.

([42]) الفكر الشيعي والنزعات الصوفية، (ص:335).

([43]) الإمام السرهندي حياته وأعماله، (ص:38).

([44]) الفكر الشيعي والنزعات الصوفية، (ص:318).

([45]) الفكر الشيعي والنزعات الصوفية، (ص:327).

([46]) الفكر الشيعي والنزعات الصوفية، (ص:304).

([47]) الشيعة في الميزان،) (ص:175).

([48]) الفكر الشيعي والنزعات الصوفية، (ص:338).

([49]) محمد حسن بن عبد الله المامقاني، توفي في النجف سنة (1323هـ-1905م).

([50]) الخطوط العريضة،) (ص:42).

([51]) عالم بغدادي متوفى سنة (1174هـ-1761م).

([52]) مؤتمر النجف، ملحق بكتاب الخطوط العريضة، (ص:97).

([53]) مؤتمر النجف، ملحق بكتاب (الخطوط العريضة)، (ص:96).

([54]) الشبك، (ص:243).

([55]) الشبك، (ص:48).

([56]) الإمام السرهندي، (ص:42، وما بعدها).

([57]) الثقافة الإسلامية في الهند، (ص:223، 224).

([58]) القاديانية، حسن عبد الظاهر، (ص:77).

([59]) القاديانية، حسن عبد الظاهر، (ص:77).

([60]) الشبك، (ص:8).

([61]) الشبك، (ص:47).

([62]) يوجد خلافات في تاريخ ولادته وموته، وقد اعتمدت هنا أعلام الزركلي.

([63]) حقيقة البابية والبهائية، (ص:45، وما بعدها).

([64]) حقيقة البابية والبهائية، (ص:57، وما بعدها).

([65]) حقيقة البابية والبهائية، (ص:147، وما بعدها).

([66]) تفسير ابن عربي: (1/235).

 



مقالات ذات صلة