فادي شامية
كما للارتباط بين النظامين السوري والإيراني أبعاده السياسية والعسكرية والأمنية والاقتصادية؛ فإن له أيضاً أبعاده الدينية المرتبطة بصميم المشروع الإيراني في المنطقة. سعت إيران في هذا المجال إلى نشر التشيع في سوريا، وتحويله إلى تشيع سياسي مشبعاً بالأفكار الخمينية، وإقامة الحوزات الدينية، وتطوير أو استحداث مقامات دينية.
وهكذا باتت الحوزات الدينية في سوريا، اعتباراً من العام 2005، تحت إشراف جهاز مستحدث في الدولة اسمه "مديرية الحوزات العلمية"، حيث ظهرت حوزات لم تكن موجودة من قبل (الحوزة الحيدرية- الإمام جواد التبريزي- الإمام الصادق- الرسول الأعظم- الإمام المجتبى- الإمام الحسين- الإمام زين العابدين- قمر بني هاشم-إمام الزمان- الشهيدين الصديقين- الإمام المهدي- فقه الأئمة الأطهار...)، ولم يكتف النظام الإيراني بذلك؛ فاستحدث أو أنشأ مقامات لم تكن موجودة أصلاً وحوّلها والمرافق المنشأة بجانبها إلى مناطق سيطرة له، و"مواقع متقدمة للإمام الخميني" على ما يقول ممثل "قائد الثورة الإسلامية في سوريا" مجتبى الحسيني (وكالة أرنا الإيرانية في 15/4/2008).
مقام السيدة زينب بنت علي
أولى أهم المناطق التي اهتمت بها إيران في الفترة الأخيرة حي السيدة زينب الدمشقي. والواقع أن هذا الحي الذي صار جزءاً من دمشق، لم يكن قبل أربعين سنة سوى قرية صغيرة يوجد فيها مقام صغير ينسب لزينب بنت أمير المؤمنين علي بن أبي طالب. والحقيقة أن الاهتمام بهذا المقام بدأ قبل فترة التحالف الإستراتيجي بين النظامين السوري والإيراني، ويعود الفضل في ذلك إلى الإمام الإيراني الأصل حسن الشيرازي، الذي أقام هناك (هو صاحب مشروع "إجلاء الهوية العلوية"، من خلال الدعوة لردهم إلى أصلهم الشيعي الاثني عشري)، لكن البناء الذي اهتم به الإمام الشيرازي أواخر السبعينيات، لا يقارن أبداً بالأبنية الضخمة التي أقامتها الجمهورية الإسلامية في إيران لاحقاً، حتى باتت منطقة السيدة زينب وكأنها "قم سورية"، تضم عشرات البيوت والحوزات والمدارس المرتبطة بالمقام، والممولة من إيران. علماً أن للسيدة زينب مقام أيضاً في القاهرة، وترجح روايات تاريخية أنها دُفنت بالبقيع في المدينة المنورة؛ لا في دمشق ولا في القاهرة.
مقام السيدة سكينة بنت علي
هي سكينة بنت أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (تقول بعض الروايات في كتب الشيعة بوجود بنت لعلي اسمها سكينة). لم يكن ثمة مقام معروف لها في داريا قبل العام 1999، ولم تذكر كتب التاريخ شيئاً عن ذلك؛ لا كتاب تاريخ داريا (لعبد الجبار الجولاني وهو أوثق الكتب عن المدينة) ولا الكتب التاريخية القديمة. ما حصل أن الجمهورية الإيرانية أرسلت بداية التسعينيات بعثة إلى البلدة؛ اتخذت من قبر قديم فيها (يعتقد أهل داريا أنه لأحد الأولياء الصالحين) مقاماً نسبوه إلى السيدة سكينة، ثم بدؤوا يشترون الأراضي والبيوت القريبة منه، ويحولونها إلى مراكز دينية واجتماعية وسياسية لهم، فتحولت هذه المنطقة خلال سنين إلى مقصداً للحجاج الإيرانيين والشيعة عموماً. وفي العام 2003 أنشأت إيران حسينية ضخمة باسم مقام السيدة سكينة.
مقام السيدة رقية بنت الحسين
هي رقية بنت الحسين بن علي. في العام 1990 اعتبرت بعثة دينية إيرانية أن قبراً يقع بجوار الجامع الأموي في دمشق (حي العمارة الجوانية) يضم السيدة رقية بنت الحسين بن علي. وعلى الأثر أصدرت السلطات السورية جملة قرارات لاستملاك البيوت المجاورة للقبر من أجل تشييد مقام للسيدة رقية. وفيما بعد أقام الحرس الثوري الإيراني مربعاً شبه أمني له في المنطقة، التي تحولت مزاراً، يعتبر الثاني من حيث الأهمية، بعد مزار السيدة زينب.
مقام السيدة سكينة بنت الحسين
السيدة سكينة بنت الحسين معروفة في التاريخ. ثمة قبر قديم في مقبرة باب الصغير ينسب لها في دمشق حيث سكنت مع أهلها، قبل أن تعود إلى المدينة المنورة (أرجح الروايات أنها ماتت ودفنت بالمدينة المنورة). حوّلت إيران هذا القبر إلى جامع كبير ومركز ديني.
مقام حجر بن عدي
حِجر بن عدي شخصية معروفة في التاريخ. اتخذت إيران من قبرٍ ينسب إليه في عدرا (العذراء تاريخياً) قرب دمشق مسجداً ضخماً؛ أصبح مزاراً شيعياً اليوم.
مقام عمار بن ياسر و أويس القرني في مدينة الرقة
في العام 1988 وافقت الحكومة السورية على طلب إيران؛ مسح مقبرة كاملة في مدينة الرقة، والإبقاء على قبر فيها ينسب للصحابي عمار بن ياسر (يضم أيضاً ضريح كل من الصحابي أبي بن قيس النخعي، والتابعي أويس القرني)، وتالياً السماح لها بالاعتناء بالقبر، والإشراف على ترميمه وتوسعته وبناء جامع كبير عليه، كأحد المقامات الشيعية المقدسة. دُشّن المقام عام 2004، ومُنع أهل الرقة من دفن موتاهم حيث كانوا يدفنون سابقاً، علماً أنه ثمة من يشكك في أن المقام المذكور هو لعمار بن ياسر فعلاً، انطلاقاً من تحديد مكان وقعة صفين بين علي ومعاوية، حيث استُشهد عمار.
مشهد قديم ومعروف في حلب، حيث تقول روايات تاريخية غير مثبتة إن راهباً سقط في يديه قطرة من رأس الحسين أثناء الإتيان بالرأس الشريف إلى دمشق (رواية غير ثابتة وفيها وقائع غير معقولة) فصار يتبرك بها، ثم أقام الحمدانيون في القرن الرابع الهجري مشهداً في المكان. وقد شهد المكان أيضاً تطويراً غير مسبوق مؤخراً.
يتضح مما سبق أن إيران حوّلت المقامات الدينية، ونشرت الحوزات العلمية، لتكون مواقع متقدمة لها في إطار مشروعها التوسعي، وليس من أجل أن تكون مجرد أماكن دينية لا تحمل مشروعاً سياسياً. هذا من جهة.
ومن جهة أخرى؛ فإن "اختراع" المخاطر حول المقامات الدينية، أو تضخيمها بغير حقيقتها، ثم ادعاء الدفاع عنها؛ هو أولاً وقبل كل شيء؛ إساءة لمكانة الشخصيات الدينية التي تنسب إليها هذه المقامات، كما هو حال السيدة زينب المعظمة من المسلمين كلهم؛ سنة وشيعة، وحال رقية وسكينة ابنتي الحسين، والصحابي الجليل عمار بن ياسر... وثانياً: هو بمثابة استجلاب للمخاطر والغلاة نحو هذه المقامات، وثالثاً: إن في الأمر تفرقة بين المسلمين وزرعاً للعداوة بينهم... فالمقامات الدينية المرتبطة بآل البيت الأطهار موجودة في غير بلد؛ منها على سبيل المثال؛ مصر التي لا يوجد فيها شيعة بنسبة تُذكر، ومع ذلك لم يتعرض لمقاماتها أحد... وفي أسوأ الأحوال؛ فإن المقام ليس حجارة تُقام؛ وإنما مكان يحترمه الناس، فلو تضرر البناء جراء الحرب، فإن إصلاحه ممكن، بينما إحياء الأرواح غير ممكن، ونشر الفتنة بحد ذاته أشد من القتل... فما هو الداعي لـ"معركة الدفاع عن السيدة زينب" في دمشق سوى اتخاذ المشاعر الدينية حجة ودافعاً لرمي الشباب في أتون حرب؛ الغاية منها الدفاع عن النظام؟!
" المستقبل "