تبريد الجبهات وإشعال الصفقات... ماذا وراءها؟!

بواسطة عصام زيدان قراءة 570

تبريد الجبهات وإشعال الصفقات... ماذا وراءها؟!

 

عصام زيدان

Essam_zedan30@hotmail.com

 

ليس من قبيل المصادفة، ولا مصادفة في السياسة، أن تبرد غالب الجبهات التي عرفت دومًا باشتعالها وكونها بؤر التوتر في المنطقة العربية في وقت متزامن تقريبًا، وأن تشتعل في ذات الوقت الصفقات والتسويات على الجبهات ذاتها.

وظاهرة تبريد الجبهات وإشعال الصفقات في حقيقتها تثير الريبة، وتطرح عدة علامات استفهام حول القادم الذي ينتظر هذه المنطقة الحبلى دائمًا بالعديد من المفاجآت، كونها كما أسلفنا جاءت في وقت واحد تقريبًا، وجميعها مرتهن بالأزمات التي تعاني منها المنطقة ويدخل فيها الطرف الغربي كعنصر رئيس إلى جانب الاحتلال الإسرائيلي.

نحتاج إذن إلى أن نعرض لهذه الظاهرة في حقولها المختلفة، وأبرز اللاعبين فيها، والقواسم المشتركة التي تجمعها، ثم نطرح تساؤلاً عما وراءها، وهل هي محض تغيرات تكتيكية من قبل الفاعلين الدوليين، لتهيئة وتحضير مسرح العمليات، ومحاولة تبريد الجبهات المختلفة لفتح جبهة جديدة تغير من جيبولتيك المنطقة؟ أم أن قواعد اللعبة السياسية بالفعل قد تغيرت في المنطقة العربية تحت وقع الفشل الأمريكي والإسرائيلي في حسم كافة القضايا والمشكلات العالقة؟

تبريد الجبهات وإشعال الصفقات... الحقول المختلفة

من الملاحظ أن التهدئة والصفقات شملت غالب الجبهات ذات الصلة بإسرائيل، سواء في الداخل الفلسطيني، أم في الدول ذات الجوار المشترك، وهي سوريا ولبنان، على اعتبار أن مصر والأردن عقدتا معاهدتي سلام مع إسرائيل، والجبهتين في حالة سكون نسبي منذ ذلك الحين.

أولاً: في الداخل الفلسطيني

دخلت إسرائيل في حالة من التهدئة مع حركة حماس الحاكمة على غزة، منتصف شهر يونيو الماضي، وهي المرة الأولى التي تدخل فيها إسرائيل كطرف في التهدئة التي كانت غالبًا ما تعلن من جانب واحد، من قبل أطراف المقاومة.

كما أن إسرائيل ورغم خروقاتها المتكررة للاتفاقات من قبل، إلا أنها لم تقدم في هذه المرة وحتى الآن على عمليات واسعة النطاق يكون من شأنها انهيار التهدئة.. ورغم سقوط بعض الصواريخ على بلداتها من غزة، إلا أن رد فعلها أيضًا جاء بصورة موحية بالرغبة في استمرار التهدئة، فوقفت عند حد إغلاق المعابر لعدة ساعات بعدها، ولم تصعد عسكريًا.. واكتفت بعمليات متعددة في الضفة الخاضعة لحكم الرئيس محمود عباس اقتصرت في غالبها على المداهمات والاعتقالات.

ثانيًا: على الجبهة السورية

بعد غزل إعلامي من جهة إسرائيل وإعلان رغبتها في فتح مسار المفاوضات مع سوريا، دخل الطرفان بالفعل في مفاوضات علنية قطعت ثلاث مراحل حتى الآن، وثمة جولة رابعة في الطريق برعاية تركيا.

ومن الملاحظ أن هناك انفتاح إسرائيلي غير مسبوق ناحية استمرار هذه المفاوضات، مع ترقية مستوياتها حتى تصل إلى المفاوضات المباشرة بين قيادة البلدين.

فقد تخلت إسرائيل في مفاوضاتها مع سوريا هذه المرة عن اللاءات الشهيرة التي كانت تطلقها قبيل بدء العملية التفاوضية مع سوريا أو غيرها، بل وصرحت بأنها تعرف أن السلام له "ثمن باهظ"، في إشارة إلى إمكانية مناقشة مستقبل الجولان، وهو ما يوحي كذلك لمحاولة استدراج المفاوض السوري إلى حلقات تفاوضية متوالية بعيدة المدى.

ثالثًا: على الجبهة اللبنانية

دخل اتفاق تبادل الأسرى والجثامين مع حزب الله حيز التنفيذ في 16/7، برعاية ألمانية، وهي الصفقة التي لم تنل منها إسرائيل سوى رفات جنديين سبق وأن أسرهما حزب الله قبيل مواجهات 2006، في حين أفرجت هي عن أسرى تاريخيين، ومئات الرفات من عناصر حزب الله.

ورغم أن هذه الصفقة هي الثامنة من نوعها بين الطرفين، إلا أنها المرة الأولى التي يظهر فيها أن الطرف الإسرائيلي كان مدفوعًا إلى إبرامها رغم ما بها، في نظر الداخل الإسرائيلي، من المهانة والذلة وكسر للحاجز الذي وضعته القيادة من قبل بعدم الإفراج عن مرتكبي العمليات ضد الإسرائيليين.

 

الداخل الفلسطيني إذن نال قدرًا من التهدئة، وكذا دول الجوار التي يمكن أن تشكل جبهة صراع مستقبلية في سوريا أو لبنان شملتها مفاوضات جعلت منها جبهات باردة، قد يصعب أن تنتقل خلال الفترة القريبة القادمة إلى جبهة مشتعلة أو حتى ساخنة.

أمريكا وفرنسا.. احتواء "الشر"

لم تكن إسرائيل وحدها المعنية بالتهدئة وتبريد الجبهات، ولكن الولايات المتحدة وفرنسا كانتا أيضًا على خط التهدئة مع بعض دول المنطقة التي كانت "مزعجة" للغرب حتى وقت قريب، وهما على وجه التحديد سوريا وإيران...

فرنسا... إعادة تأهيل سوريا

كانت سوريا في المنظور الغربي قبل بضعة أشهر من أكثر الدول إزعاجًا في المنطقة... فهي مسئولة عن تسريب المجاهدين للعراق... وهي التي تأوي منظمات "الإرهاب والتطرف"... وهي مسئولة عن خطف لبنان وإعاقة مؤسساته... وهي الدولة التي تتحالف مع شر المنطقة المتمثل في إيران. 

كل ذلك طوي في برهة من الزمن، وفتحت فرنسا بالدعوة التي تلقاها الرئيس السوري بشار الأسد لحضور القمة الأوروبية - المتوسطية في 13 يوليو، الباب واسعًا أمام دمشق لتعود إلى المسرح الدولي "دولة صديقة"، دون اعتراض معوق من جانب الولايات المتحدة التي تترقب الموقف بهدوء غير معتاد في السياسة الخارجية الأمريكية حيال سوريا منذ غزو العراق في 2003.

أمريكا... تبدلات الموقف مع إيران

الولايات المتحدة هي الأخرى غيرت بين عشية وضحاها من خطابها وسلوكها مع إيران، فقبيل أيام كان الحديث عن نذر الحرب المستعرة، والمواجهات المحتملة وآثارها على المنطقة العربية عامة وعلى الخليج خاصة، ثم تبدلت لغة الخطاب، إلى رغبة أمريكية يقابلها تشوف إيراني لفتح مكتب لرعاية المصالح الأمريكية في قلب العاصمة طهران.

ولم يقف التطور عند هذا الحد بل وأرسلت الولايات المتحدة للمرة الأولى مبعوثًا رفيعًا لحضور المفاوضات التي تجريها دول غربية مع إيران في سويسرا لإغرائها بقبول رزمة من الحوافز الاقتصادية والأمنية والسياسية مقابل وقف تخصيب اليورانيوم، وهو الأمر الذي رفضته في المرات السابقة، ومنذ انطلاق هذه المفاوضات.

 

الولايات المتحدة وفرنسا دخلتا، إذن، على خط التهدئة وتبريد العلاقات مع الدولتين، وجرتا سوريا وإيران إلى حلبة أخرى غير حلبة الصراع التصاعدية والحدية والتي اتسمت بها علاقة الغرب مع الدولتين وحتى فترة قريبة. 

ما وراء صفقات التهدئة وتبريد الجبهات؟

صفقات التهدئة وتبريد الجبهات هذه المتزامنة تفرض على الساحة السياسية سؤالاً، عما يمكن أن يكون وراءها، وعن دوافعها وأسبابها؟ وبصدد الإجابة سنجد أننا أمام سيناريوهين اثنين متناقضين إلى حد بعيد، وهما:

السيناريو الأول:

أن قواعد اللعبة السياسية في المنطقة تغيرت بفعل الفشل الذي منيت به الولايات المتحدة في العراق، وفشلها في عزل سوريا عن المحيط الدولي، وفشلها كذلك في مواجهة النووي الإيراني، والفشل الإسرائيلي في مواجهة قوى المقاومة لاسيما حماس التي فرضت أمرًا وواقعًا جديدًا في غزة، منيت إسرائيل بالفشل في تحريكه رغم استخدامها كافة المؤثرات السياسية والعسكرية.

هذا الفشل المتعدد الجبهات، يعني في النهاية أن أيدلوجية المحافظين الجدد التي صبغت وجه السياسة الخارجية الأمريكية في المنطقة وأكسبتها عدوانية طاغية، قد ولت، وحلت مكانها سياسة أكثر مرونة مع الخصوم، تتعامل بمقتضى الواقع وببرجماتية شديدة بعيدة عن الصلف والغرور الأمريكي.

وقد تكون التجربة التي خاضتها الولايات المتحدة مع البرنامج النووي الكوري، ونجاحها في إقناع نظام بيونج يانج بتفكيكه مقابل حزمة من الحوافز المتنوعة، وفشل لغة القوة في حسم العديد من الملفات قد دفعت في اتجاه التحول في السياسة الخارجية الأمريكية تجاه القضايا الدولية، خاصة مع قرب رحيل الرئيس الأمريكي جورج بوش الذي سلم الإدارة طيلة فترتي رئاسته لعصابة المحافظين الجدد.

وهذا السيناريو الأرجح أيدته صحيفة 'نيويورك تايمز' في تقرير مطول لها وقالت إن الدفع نحو الدبلوماسية والحوار يبدو الآن علامة الأيام الأخيرة من فترة بوش الرئاسية والدبلوماسية، وهو ما يعد مدخلاً جديدًا في السياسة الخارجية الأمريكية منذ احتلال العراق عام 2003.

 

السيناريو الثاني:

هذا السيناريو يفترض أن عوامل التهدئة مؤقتة، وفي غالبها مجرد تحركات تكتيكية تهدف في النهاية إلى تفكيك جبهات الصراع وتحييد بعض الأطراف وتهيئة مسرح العمليات للقيام بمغامرة جديدة.

ووفق هذا السيناريو فإن عصبة المحافظين الجدد التي تدير دفة السياسة الأمريكية لم تلملم بعد جميع أوراقها، حيث ترى في وضعياتها ضمن منظومة صنع القرار ما هو أبعد من الارتهان بوجود بوش في صدارة الحكم أو غيره، فوجودها محكوم بتنفيذ سلة من الأهداف، الصهيو مسيحية، والحفاظ على أمريكا القادرة على حسم مواقفها بالقوة للحفاظ على مكانتها الدولية وتفردها في قيادة العالم.

إذن، ووفق هذا السيناريو، فليس تحت الرماد إلا النار.. وما هذا الهدوء إلا نذير عاصفة قوية ستهب على المنطقة قريبًا.. فهل ستكون إيران.. السودان.. أم غيرهما؟ هنا كل الأطروحات مفتوحة على القادم المجهول الذي تنتظره المنطقة العربية.

في الأخير يمكننا القول إن التهدئة المريبة في عدة جبهات، هي لاشك حاملة لتغيرات قادمة على المنطقة، قد تكون في اتجاه التعاطي مع مشاكلها والبؤر الملتهبة فيها بصورة تعكس برجماتية السياسة، وفن الواقع، وهو الأقرب، وقد تكون حاملة لنذر صيف ساخن.

 



مقالات ذات صلة