نهر البارد يصب في المشروع الإيراني
وليد نور
مع دخول اشتباكات "نهر البارد" بين حركة "فتح - الإسلام" والجيش اللبناني أسبوعها الثالث، ومع التطورات التي شهدتها الساحة اللبنانية بدءًا من إقرار مجلس الأمن المحكمة الدولية لقتلة رئيس الوزراء "رفيق الحريري"، ثم وقوع اشتباكات مخيم "عين الحلوة" والتهديد باتساع نطاق القتال ليشمل أجزاءً أخرى من لبنان، كل هذه الأحداث أعادت تأكيد حقيقتين مهمتين بشأن لبنان:
الحقيقة الأول: تتمثل في تلك الأوضاع السياسية المعقدة داخل لبنان، فلبنان واحدة من أشد الدول تعقيدًا على المستوى السياسي, والتي يقف المتابع أمام أحداثها متحيرًا, فكل حدث يقبل من الأسباب والتفسير الكثير، وكل حدث يصب في أكثر من هدف، وما ذلك إلا نتيجة للحقيقة الثانية وهي:
الحقيقة الثانية: أن ما يجري في لبنان ليس نتيجة لما تحمله الساحة اللبنانية من توازنات وقوى، ولكنه نتيجة لما يجري خارج حدود لبنان من خلافات وصراعات.
هاتان الحقيقتان أزعم أن أحدًا لا يستطيع أن يشكك فيهما, وقد باتت أحداث لبنان تؤكدهما، وتؤكد أيضًا أن ما يجري في لبنان إنما هو صراع بين مشاريع وأجندات ومصالح مختلفة، ولكن للأسف لا يبدو أن بينهم مساحة لمشروع سني مستقل يرفض التبعية لشرق أو لغرب.
"فتح - الإسلام" عود على بدء:
مع استمرار اشتباكات "نهر البارد"، لا يزال الجدل مثارًا حول حقيقة "فتح الإسلام"!! ومن يقف وراءها!! وما هي أهدافها!! ويبدو أن هذا الجدل والغموض سوف يستمران لفترة مثلما هي طبيعة الأحداث في لبنان والتي لا يراد لأحد الوقوف على حقيقتها بقدر إرادة قطف ثمارها وجني أهدافها.
وأيًا كان من يقف وراء "فتح - الإسلام" سواء أكانت سوريا وحلفائها وهو اعتقاد يعتنقه عدد كبير من المراقبين لدلائل كثيرة، أم "تيار المستقبل" السني كما أشاع ذلك الصحافي الأمريكي "سيمور هيرش" وتلقفت ذلك المعارضة اللبنانية.
أيًا كان من يقف وراء "فتح - الإسلام" فإن الحقيقة تؤكد أن كافة الظروف والأوضاع اللبنانية كانت ترشح لظهور مثل هذا التنظيم، ففي ظل المد الشيعي الزاحف على بيروت والمناطق السنية اللبنانية, وفي ظل الرغبة السنية الجارفة في مقاومة اليهود في فلسطين، في ظل تلك الأوضاع كان من الطبيعي أن تظهر مثل تلك التنظيمات، ولكن من ذلك "الطرف الثالث"؟ الذي تلقف تلك التنظيمات وسعى إلى إخراجها عن مسارها لتحقيق مكاسبه السياسية؟! لا أحد يملك جوابًا شافيًا.
حزب الله وحلفاؤه.. ونهر البارد:
في المشهد القريب، يبدو أن "حزب الله" وحلفاءه هم أكثر المستفيدين من اشتباكات "نهر البارد"، خاصة أن موقف "حزب الله" من تلك الاشتباكات لم يكن قويًا, بل إن الخطوط الحمراء التي أعلنها وتمثلت في احترام الجيش وعدم اقتحام المخيم تعد دعوة لإطالة أمد تلك الاشتباكات، إضافة إلى تحميل الحكومة اللبنانية مسئولية تلك الاشتباكات إنما هو استثمار سياسي لتلك الحرب.
إضافة إلى ذلك، فإن تلك الاشتباكات تحقق لحزب الله عددًا من الفوائد والمصالح منها:
- الحفاظ على سلاح حزب الله؛ لأن الحزب بمقدوره الآن، وهو ما حدث، الحديث عن سلاحه "المقاوم" مقابل سلاح المخيمات "غير المنضبط"، وبذلك يخفت الكلام عن إنهاء سلاح "حزب الله".
- إضعاف الصف السني، ولابد أن نشير في هذا المقام إلى أن الحرب الأهلية اللبنانية استهدفت بشكل أساسي المخيمات الفلسطينية ومارست الميليشيات الشيعية بقيادة حركة "أمل" أبشع المجازر بتلك المخيمات والتي يرونها امتدادًا للصف السني في لبنان يحقق للسنة تفوقًا ديموغرافيًا يكرهه الشيعة والموارنة.
- تأكيد "انضباط" حزب الله، فمثل تلك الاشتباكات تحمل رسالة إلى أمريكا وإسرائيل تذكر بأن "حزب الله" هو أكثر القوى اللبنانية "انضباطًا" مثلما وصفته صحيفة "هآأرتس" قبل حرب العام الماضي، وإن حدثت مناوشات بين "حزب الله" و"إسرائيل" فإن "حزب الله" يبقي خيارًا أفضل "لإسرائيل" من الخيار السني إن نجح في فرض سيطرته في لبنان.
من جانبها، فإن سوريا تجد في هذه الأحداث تذكيرًا بأنها لا تزال تملك بعضًا من أوراق اللعبة السياسية في لبنان، لذلك كثر حديث مسئوليها عن عناصر القاعدة في لبنان ودور السلطات السورية في مواجهتها.
لقد دفعت اشتباكات "نهر البارد" إلى تغييرات في موقف السياسة الأوروبية تجاه لبنان، فالحكومة الفرنسية طلبت من سفيرها في بيروت برنار إيمييه إعطاء إشارات واضحة حول انفتاح بلاده على توسيع الحكومة الحالية برئاسة رئيس الحكومة فؤاد السنيورة، على قاعدة 19+11 أو 13+17.
أما وزير الخارجية الإيطالية ماسيمو داليما فقد أطلق من سوريا إشارات، تعد الأولى من نوعها، بحديثه عن «عناصر مشجعة وجدية» لمسها خلال محادثاته مع الرئيس السوري بشار الأسد في الملف اللبناني، وأكمل "داليما" تلك الإشارات من بيروت بإعلانه «أن العاشر من حزيران قريب جدًا ولن تكون هناك مشكلة»، ولم يكتف داليما بإشاعة مناخ سياسي إيجابي، بل أعرب بعد لقائه برئيس الحكومة اللبنانية فؤاد السنيورة عن اعتقاده أن سوريا "تفهم أن هناك نوعًا من المقايضة الممكنة معها؛ لأننا نريد التعاون السوري ونريد من سوريا أن تكون جزءًا من الحل ليس فقط بالنسبة للبنان بل في الشأن العراقي والفلسطيني واللبناني".
وبذلك تكون اشتباكات "نهر البارد" قد صبت بنحو أو بآخر في صالح مسار حزب الله – سوريا، حيث التأييد لحكومة لبنانية موسعة، والإقرار بالدور السوري في لبنان.
إيران في "نهر البارد":
بداية، لعله صار من المتفق عليه أن "حزب الله" ورقة في أيدي إيران تحقق بها أهدافها, وإن كان لا يزال من يشكك في ذلك، فإننا نسوق إليهم تصريحًا أدلى به "نبيه بري" أحد حلفاء "حزب الله" اليوم في عام 1990، حيث صرح بري وقتها: "لا يوجد في الإطار اللبناني حزب اسمه "حزب الله"، أو مقاومة اسمها مقاومة إسلامية، إنما يوجد على أرض لبنان حزب إيراني ومقاومة إيرانية".
وفي الأيام الماضية احتفل "حزب الله" بذكرى "الخميني" قائد الثورة الإيرانية, وبالتأكيد فإن مثل هذا الاحتفال يتجاوز الشأن الداخلي الذي من الطبيعي أن ينشغل به "حزب الله"، ويؤكد طبيعة العلاقة الخاصة التي تربط بين "حزب الله" وبين إيران.
لذلك فإن الوقوف طويلاً عند تلك الحقيقة صار بمنزلة شرح الواضحات، فحزب الله ورقة من أوراق إيران, وبالتأكيد فإن أية استفادة يحصل عليها "حزب الله" في لبنان تصب في صالح إيران، فصعود "حزب الله" في لبنان يمثل تقوية لموقف إيران التفاوضي مع أمريكا والعكس بالعكس، لذلك لما فشل "حزب الله" في رفع أنجمه السياسية بقدر كبير عقب الحرب الماضية لجأ إلى تأجيج الأوضاع في لبنان، ولما فشلت خطواته لإسقاط الحكومة كانت اشتباكات "نهر البارد"، ويستطيع المتابع أن يربط بين خطوات حزب الله داخل لبنان وبين خطوات إيران في المنطقة وسوف يجدهما بالتأكيد متقاربتين.
غير أن الأمر لا يقف عند هذا الحد، فقد نشرت صحيفة "لوفيجارو" الفرنسية في أواخر شهر مايو الفائت مقابلة مع رئيس مجلس الأمن القومي الإيراني، علي لاريجاني، عرض فيها حلاً بشأن لبنان يتمثل في:
ـ تشكيل حكومة وحدة وطنية في لبنان.
ـ محاكمة المتورطين في مقتل الحريري في إطار محلي وليس دوليًا.
ـ اتفاق باريس وطهران على مرشح توافقي للرئاسة اللبنانية خلال ثلاثة أشهر فقط.
ـ تحويل حزب الله إلى حزب سياسي، وإقناعه بدمج مقاتليه في الجيش اللبناني.
سارعت القيادة الإيرانية إلى نفي هذه التصريحات، وهو نفي لا يحتاج أن نقف عنده كثيرًا, حيث اعتادت القيادة الإيرانية على إتباع منهج "التقية" الشيعي في تحركاتها السياسية، كما أنه من الطبيعي لإيران أن تنفي مثل هذه التصريحات التي تمثل تدخلاً صريحًا من شأنه أن يسيء لحزب الله، إلا أنه بعيدًا عن النفي فإن طهران تأمل من وراء تلك التصريحات أن يصل فحواها إلى الطرف الآخر ليدرك أن إيران على استعداد أن تنهي كل القضايا العالقة بما يحقق لها مصلحتها، والتي على رأسها استبعاد الدور العربي والسني من منطقة نفوذها من خلال الاتفاق مع باريس على اختيار رئيس لبناني توافقي, وبذلك يتجاهل آراء اللبنانيين من السنة، ويتجاهل آراء دول الجوار.
أما تحول حزب الله إلى حزب سياسي فهو ما يسعى له الحزب منذ إنشائه, ولم تكن حربه في جنوب لبنان إلا لدوافع سياسية داخلية وخارجية, ولم تكن بالتأكيد من أجل المقاومة أو الدفاع عن مقدسات المسلمين.
إن كل ما سبق لا يعني سوى أن ما يجري في لبنان ليس إلا أدوات وأحداث لتحقيق أهداف ومصالح أطراف أخرى لا يبدو في الأفق أن من بينهم الطرف السني صاحب الأرض وابن القضية