الكانتون النصيري بين الحقيقة والخيال

بواسطة محمد علي شاهين قراءة 894
الكانتون النصيري بين الحقيقة والخيال
الكانتون النصيري بين الحقيقة والخيال

محمد علي شاهين

يعتقد الناس في مدينتي أنّ من صعد قمّة جبل كاسيوس (الأقرع) رأى الليل والنهار دفعة واحدة كناية عن عظم ارتفاعه، ويصرّ آخرون على أنّهم رأوا جزيرة قبرص بالعين المجرّدة، وسمعوا صياح الديكة بها من قلعة اللاذقيّة، وأنّ ماء البحر انحسر عن الشاطئ مسيرة سبعة أيام حتى رست السفن على اليابسة، وأنّ أهل المدينة انشغلوا بجمع اللآلئ ففاجأتهم مياه المدّ فمات منهم خلق كثير.

لكنّ الحقيقة المغيّبة في مدينتي بقيت مصانة، مترفّعة عن أحاديث العامّة الغير موثّقة، وأدعياء المعرفة، وقد عاد مشروع الانفصال الفرنسي بحلّة جديدة، ولكن على يد الروس هذه المرّة.

ودار الزمان دورته فتحدثت الحقيقة: أنّه بعد استقالة آخر متصرّف للواء اللاذقيّة في الدولة العثمانيّة رشيد طليع، تشكّل في لواء اللاذقيّة مجلس محلّي برئاسة زعيم المدينة عبد الواحد هارون، دام سنتين ولم يكن يضم أحداً من العلويين.

وسقطت اللاذقيّة في قبضة الجيوش الفرنسيّة قبل معركة ميسلون، ورفع العلم الفرنسي فوق سراي الحكومة باللاذقيّة الملازم (دولاروش) في 5/11/1918.

وبدأ الفرنسيّون منذ أن وطأت أقدامهم الساحل السوري بسلسلة من الإجراءات استهدفت سلخ الساحل عن سوريّا وإعطائه استقلالاً مزيّفاً، وصدر قرار المندوب السامي الفرنسي رقم 319 تاريخ 31/8/1920 بفصل مقاطعة العلويين عن دمشق، 

وفي 1/9/1920 صدر أمر من القوميسيرية العليا في بيروت بتسمية جبل النصيرة (أراضي العلويين المستقلة).

وصدر القرار رقم 337 تاريخ 6/9/1920 المتضمّن تنظيم الإدارة في منطقة العلويين المستقّلة .

وفي 12/7/1922 صدر القرار رقم 1470 بشأن منح أراضي العلويين المستقلّة اسم دولة العلويين، صارت هذه المقاطعة تشكل دولة، وبعد تسمية العلويين بهذا الاسم نالوا في 16/9/1922 حقهم الثاني بتعيين قضاة ومحاكم مذهبيّة لهم، وأحدث لهم مرجع باسم قاضي القضاة، وهم يحكمون على المذهب الجعفري مع بعض الفروق، وكان قبل ذلك تعيين بعض مشايخهم لوظيفة الإفتاء.

وفي 31/8/1923 صدر القرار 2147 بشأن إنشاء مجلس تمثيلي لدولة العلويين.

وفي 5/12/1924 أعلن بقرار أنّها مستقلّة تماماً عن سورية، وأصبح يحكمها حاكم فرنسي يعاونه مدراء دوائر معظمهم فرنسيون، وقسّمت هذه الدولة إلى سنجقين، سنجق اللاذقية، وسنجق طرطوس.

ورفع علم الانفصال العلوي الأبيض تتوسطه شمس ذهبيّة، وثلاث زوايا حمراء أمّا الزاويه العليا فخصّصت للعلم الفرنسي، وطرحت مجموعة تذكاريّة من ستة طوابع بريدية تحمل صورة العالم الفرنسي (باستور) للتداول.

وحسم الاتفاق الفرنسي التركي مصير لواء الاسكندرون لصالح ضمه الى تركيا عام 1939 عشية الحرب العالمية الثانية.

قابل أهل الساحل إجراءات التجزئة التي أقدم عليها الفرنسيون بأشد مظاهر الاستياء والاستنكار، وأبوا الانفصال عن سوريّا، سوى حفنة قليلة من المتعاونين ادّعوا بأنّهم ليسوا مسلمين ولا عرباً.

وجرّب العلويون الانفصال ستّة عشر عاماً، فلم يحصدوا سوى تفسّخ مجتمعهم، وإلزامهم بأبهظ الضرائب، وغزت قراهم الكنائس، وتخلّت قرى بأكملها عن مذهبهم، بعد أن أصبح الانفصال سلّماً للتبشير اليسوعي.

فعادوا إلى أحضان الوطن مرحّباً بهم وقد تخلّوا عن فكرهم الانعزالي، ففتحت لهم أبواب الجيش على مصراعيها، وسيطروا على الأحزاب القوميّة، وحكموا سوريّة بمسدس السلطة 42 عاماً باسم حزب البعث، رأى الشعب السوري خلالها القمر في رابعة النهار.

ولا نريد في هذه العجالة أن نفتح صفحات الماضي خلال العقود الأربعة الماضية، فقد كفانا من كتب عنها، وكفتنا ثورة الكرامة بالردّ على جرائم النظام وقد حشد الطائفة خلفه.

وفتح الأسد أبواب سوريّة لملالي إيران، فتدفّقت العمامات السود كالسيل على البلاد السوريّة، وأخذته نشوة المذهب الجديد فظنّ أنّه الشاه إسماعيل الصفوى، وأنّ باستطاعته فرض المذهب الجعفري على الشعب السوري بحدّ السيف كما فعل إسماعيل في إيران، وأفتوا له بقتل أهل السنّة فأعدمهم في السجون، ورماهم براجمات الصواريخ والقنابل العنقوديّة والبراميل المتفجّرة، ولم يتورّع عن استخدام غازات الأعصاب فأغرق بها أحياء حمص.

ووجدتها روسيا المتعطشة لإقامة رأس جسر على شواطئ  البحر المتوسط فرصة سانحة، فشيّدت قاعدة عسكريّة بحريّة بجوار ميناء طرطوس، واحتكرت تصدير السلاح الدفاعي إلى سوريّة، وأخذت تتطلّع لاستخراج النفط والغاز من حقوله المكتشفة في المياه الإقليميّة السوريّة، فتمسّكت بالنظام غير عابئة بمعاناة الشعب السوري ما دام النظام يضمن لها نفوذها ومصالحها في البرّ والبحر، ووقفت عقبة أمام تحقيق أماني الشعب السوري في الحريّة والتحرّر.

ولمّا بدأ النظام يترنّح ويفقد مناطق بكاملها، وأخذت الكفّة ترجح لصالح الثورة، شعر الروس بالخطر على مصالحهم، فأخذوا يتباكون على مستقبل الطائفة النصيريّة ومصيرها بعد انتصار الثورة، ويحذّروا من عواقب حرب طائفيّة قادمة، تنسف مصالحهم واحتكاراتهم.

وطرحت الدبلوماسيّة الروسيّة اعتماد اتفاقيّة الإطار العام لاتفاقية السلام في البوسنة والهرسك، لتكون مرجعاً في حل القضيّة السوريّة، بحيث ترحب الأطراف، وتقرُّ بالترتيبات التي سيتم اتخاذها فيما يتعلَّق برسم الحدود بين الجمهوريتين المستقلتين: الجمهوريّة العربيّة السوريّة، والكانتون العلوي، الذي يكرّس الانفصال، ويقتطع أغلى وأغنى منطقة في سوريّة، ويحمي مجرمي الطائفة وشبيحتها من العدالة.

فهل يستطيع الروس تدارك أخطاء الماضي، والاعتذار إلى الشعب السوري، أم أنّهم سيضيفون إلى أخطائهم أوزاراً جديدة بسبب جشعهم، وجهلهم بجغرافيّة وديموغرافيّة المنطقة الساحليّة حيث تقف الكتل السنيّة المليونيّة في اللاذقيّة وجبلة وبانياس وطرطوس ومنطقة الحفّة وجبل الأكراد وجبل التركمان بالمرصاد لكل من تسوّل له نفسه المساس بوحدة التراب السوري.

أم أن الحديث عن الكانتون النصيري مجرّد صوت ديكة يسمعها أهل الساحل كلّ حين من قلعة اللاذقيّة.

المصدر : مجلة الغرباء

                     



مقالات ذات صلة