الثعلب والمرشد وولاية الفقيه
عصام زيدان
تفجرت صراعات شرسة في إيران على خلفية الانتخابات الرئاسية التى انتهت بصورة رسمية بإعلان فوز الرئيس أحمدي نجاد بفترة رئاسية جديدة، ورفض ما قالت المعارضة أنه تزوير فاضح شاب العملية الانتخابية وترك بصماته على النتيجة النهائية واقصاها عن سدة الحكم ومنصب الرئاسة.
الصراع الأول الذي فجرته تلك الانتخابات بين قوى المعارضة الرئيسة التى يتزعمها سياسيًا مير حسين موسوي ضد الرئيس المنتخب أحمدي نجاد، وما زال الصراع محتدمًا حتى الآن بين الجانبين، وإن كان أقل حدة من الفترة التى أعقبت إعلان النتائج، حيث حركت المعارضة قوى الشارع المعارض الذي اصطدم بقوات الباسيج وقوى الأمن الحكومية.
الصراع الثاني وهو الأشد شراسة كان بين الرئيس السابق علي أكبر هاشمي رفسنجاني وقوى السلطة بشقيها الديني ممثلاً في مرشد الثورة على خامنئي والدنيوي ـ إن صح التعبير ـ ممثلاً في الرئيس الحالي أحمدي نجاد.
الصراع الظاهري الخفيف كان مع نجاد الذي ظن أنه يستطيع خلع أنياب "الثعلب" باتهامات وجهها له عبر المناظرات التى كان يقوم بها مع مرشحي الرئاسة المحسوبين على التيار الإصلاحي، حيث أهان نجاد خصمه المتأرجح بين الإصلاحيين والمحافظين هاشمي رفسنجاني واتهمه وهو وعائلته بالفساد المالي خلال مساجلة تلفزيونية مع المرشح المعارض حسين موسوي.
وكان الرد من رفسنجاني البرجماتي المحنك الذي يعرف أين الموضع المُوجع أبلغ، حيث وجه سهام غضبه بحنكة نحو المرشد على خامنئي وأجبره على نهر نجاد علنًا، في محاولة لردع الرئيس الحالي عن الدخول إلى "حظيرة الثعالب"، وفي تحريك للسلطة الدينية ومحاولة لهز موقفها المؤيد لنجاد على طول الخط.
هذه كلها، كما أسلفنا تعد صراعات تكتيكية، قد لا تسفر عن كبير تغيير في الساحة الداخلية الإيرانية، ولكن برأينا أن الصراع الذي تتعدد أدواته وشخوصه هو بين رفسنجاني وخامنئي، على وجه التحديد، حيث يسعى الأول إلى تخطي مرتبة مرشد الثورة نفسه وأن يكون هو رمانة الميزان الحقيقة التى توجه دفة السياسة الإيرانية سواء على الصعيد الداخلي أو الخارجي.
يدرك رفسنجاني أن طريقة الوصول إلى مبتغاه هذا لا يمكن أن يكون بصورة مباشرة ولابد لها من أدوات، وذلك لأسباب متعددة خاصة به شخصيًا، منها ما يتعلق بالجانب السياسي، حيث تعرض رفسنجاني للهزيمة في الانتخابات مرتين، الأولى عام 2000 عندما ترشح للانتخابات البرلمانية وجاء في المرتبة الثلاثين والأخيرة في طهران، والمرة الثانية عام 2005 عندما فشل في انتخابات الرئاسة مرة أخرى.
والجانب الاقتصادي أيضًا لا يدعم حظ رفسنجاني في أية منافسة حقيقة مع خصوم أقوياء، حيث تلاحقه شبهة الفساد بعدما تضخمت ثورته لتصل إلى البليون دولار عدا ثروات أقربائه.
إزاء هذا التاريخ السياسي، والوضعية الاقتصادية التى قد لا تجد قبولاً لدى شعب غالبه من الطبقة الفقيرة، بدأ رفسنجاني محاولة الامساك بالخيوط من خلال لاعبين آخرين، والذين يمثلون القوى الإصلاحية في البلاد، ليس إيمانًا بهذا الدور الاصلاحي وضرورته، ولكن ربما لايمانه بأنه السبيل الأقرب لخطف الأضواء والسلطة الدينية، ومن ثم فقد احتضن قوى المعارضة المحسوبة على هذه القوى الإصلاحية، خاصة الزعيمين موسوي، وكروي.
هذه القوى في المخطط الرفسنجاني بقدرتها هز أركان المعبد الرئاسي وحك أنف الرئيس المحافظ أحمدي نجاد على أقل تقدير، على أن يكون المخطط الاستراتيجي هو وصول أحد هذه الأقطاب إلى سدة الرئاسة بدعم مباشر من رفسنجاني لتغلق الدائرة الأولى، وهي دائرة الرئاسة، على مقربين من هذا الثعلب العجوز.
هذا التخطيط لا يمكن تنفيذه، وقد لا يؤتي ثماره، طالما أن مرشد الثورة وولي الفقيه خامنئي ممسكًا بزمام الأمور كلها ومحركًا لمفاصل الدولة الإيرانية، ومن هنا بدأ رفسنجاني يطرح نفسه بديلاً، ويغتصب بصورة سافرة مهام رجل الدين صاحب الكلمة العليا في الدولة على خامنئي.
ورغم صعوبة هذه المحاولة إلا أن المتتبع لخطوات رفسنجاني يجد أنه يسير على هذا الطريق الشائك، منتهزا كل فرصة لتحقيق ما يراه مكاسب حقيقة على حساب خامنئي الذي ربما يجد للمرة الأولى معارضة قوية وقوى مناوئه له شخصيًا.
فقد بدأ رفسنجاني في التأسيس لشرعية خاصة به من خلال طرح نفسه والتعريف بها بصورة مغايرة لرجل السياسة التقليدي، فنراه وقد استشهد في خطبه الأخيرة بتاريخه الديني الطويل، إضافة لحضوره السياسي منذ أكثر من 60 عاما، وشهوده الثورة لحظة بلحظة منذ البدايات الأولى للصراع، وأن معلمه المباشر هو الخميني الأب الروحي لثورة عام 1979.
ثم بدأ من خلال حديثه وخطبه في سحب البساط من تحت قدمي مرشد الثورة، ويستلب دوره المؤسسي، بل ويوجه إليه اللكمات، حيث طالب الحكومة بإطلاق سراح المعتقلين، وإرخاء قبضتها على وسائل الإعلام، وإزالة الشكوك التي تعتمل في صدور الشعب الإيراني بشأن نتائج الانتخابات، مضيفا أن "إرادة الشعب" يجب أن تتحقق، وفي هذه الحالة (الانتخابات الرئاسية)، فإن ثقة الشعب قد اهتزت.
وهذا الخطاب كان من المفترض أن يلقيه خامنئي، وهو ما يمليه عليه دوره كمرشد روحي وسياسي، وكان عليه أن يترفع فوق الصراعات، ولا ينحاز إلى أحد الفريقين، لكن رفسنجاني خطف هذا الدور متجاوزًا سلطة المرشد، الذي وقف موقف لا يتناسب مع دوره مطلقًا، حيث قام بإلقاء خطبته منذ أربعة أسابيع، أعلن خلالها تقبله بسرور انتصار أحمدي نجاد، وقال إن الانتخابات قد أثبتت ثقة الشعب في النظام، وتوعد بالمزيد من القمع إذا استمرت المظاهرات.
بل وتحدى رفسنجاني سلطة المرشد الأعلى للثورة، وأشار إلى اتخاذه قرارات من دون الحصول على موافقة جميع الأطراف في مجلس تشخيص النظام، في نادرة ربما تكون غير مسبوقة في التاريخ السياسي الإيراني الذي ينظر لولي الفقيه على أنه شخص معصوم.
وفي خطبة الجمعة الأخيرة وضع رفسنجاني، للمرة الثانية، وبحضور قادة المعارضة خاتمي وكروبوي وموسوي نفسه فوق التناقضات بين الفريقين المتنازعين، فريق "خامنئي ـ نجاد" وفريق "موسوي ـ خاتمي"، وطرح نفسه كحكم بين الفريقين، حيث دعا إلى حل المشاكل الانتخابية بالطرق القانونية وإطلاق المعتقلين والحريات وهو ما يلزم الطرف السلطوي (خامنئي ونجاد)، ثم طالب المعارضة بنبذ الفرقة والانقسامات وإطاعة ولي الفقيه وهذا ما يلزم بطبيعة الحال (موسوي وخاتمي).
ثم أعلن رفسنجاني رسميًا، بوصفه رئيس مجلسي تشخيص مصلحة النظام والخبراء، أن الأمة الإيرانية دخلت مرحلة "أزمة خطيرة"، ملمحًا وبقوة إلى أن مرشد الثورة بات جزءًا من الأزمة، في حين أن ولاية الفقيه تفرض أن يكون الولي جزءًا من الحل لأنه معصوم عن الخطأ.
من الواضح اذن أننا لسنا بصدد معركة تكتيكية بين مرشحي محافظين وآخرين يحسبون على التيار الإصلاحي، بل الصراع الآن على مستقبل ولي الفقيه الذي هو عمود الفسطاط في السياسة الإيرانية على كافة المستويات.
ومن ثم تبرز على سطح الأحداث من رحم هذا التحليل أسئلة عديدة:
هل يسعى رفسنجاني لمحاصرة خامنئي من خلال منصبه في مجلسي تشخيص مصلحة النظام والخبراء اللذين يرأسهما تمهيدًا لعزله؟
هل يملك ولي الفقيه الأنياب البارزة التى يصارع بها هذا الثعلب العجوز؟
هل نشهد في فترة قريبة سياسيًا انهيار نظام ولاية الفقيه وبروز نظام ديني جديد في إيران يتخلى عن عصمة الأئمة ويقوض من سيطرتهم على مجريات الأحداث السياسية؟
هل نحن أمام تطور تاريخي أملته معطيات الواقع لنظرية الإمامة عند الشيعة؟
الإجابة معلقة برقبة الثعلب العجوز.