في تاريخ المولد وتطوره وغايته!
بقلم: أسامة شحادة
بداية المولد :
اتفق العلماء على أن المولد النبوي لم يكن في زمن النبي صلى الله عليه وسلم ، ولا زمن دولة الخلفاء الراشدين ولا في زمن الدولة الأموية لكنه وجد زمن العبيدية الفاطمية بمصر (358- 567 هـ) .
قال الحافظ السخاوي في فتاويه :"عمل المولد الشريف لم ينقل عن أحد من السلف الصالح في القرون الثلاثة الفاضلة وإنما حدث بعد".
وقد نص المقريزي في كتابه الخطط ( 1/ 490) :" وكان للخلفاء الفاطميين في طول السنة أعياد ومواسم وهي مواسم رأس السنة،ومواسم أول العام ، ويوم عاشوراء ، ومولد النبي صلى الله عليه وسلم،... "أ.هـ.
وقال المقريزي في إتعاظ الحنفاء(2/48)سنة (394): "وفي ربيع الأول ألزم الناس بوقود القناديل بالليل في سائر الشوارع والأزقة بمصر".
وقال في موضع آخر (3/99)سنة (517): "وجرى الرسم في عمل المولد الكريم النبوي في ربيع الأول على العادة".وانظر (3/105).
هذا أول ما تورده المصادر التاريخية عن إقامة المولد ، وإن كان الحافظ السيوطي في رسالته "حسن المقصد في عمل المولد خالف هذا فقال:" وأول من أحدث فعل ذلك صاحب إربل الملك المظفر أبو سعيد كوكبري بن زين الدّين علي بن بكتكين أحد الملوك الأمجاد والكبراء الأجواد ". وذلك في أوائل القرن السابع للهجرة.
وقد يمكن الجمع بين القولين ، بأن الذين نسبوا إحداث المولد للعبيدين الفاطميين قصدوا بداية الفكرة وهي الاجتماع وأكل الطعام وتعليق الزينات وإظهار الفرح والسرور، وهو ما ذكره المؤرخون عن موالد العبيديين الذين كانوا ينفقون مبالغ طائلة جداً في هذه المناسبات لإعداد الطعام والحلويات بلغت سنة 517هـ 467,140 ألف دينار كما أثبته د. أيمن فؤاد سعيد في كتابه " الدولة الفاطمية في مصر تفسير جديد " ص 561.
وكان الفاطميون يصنعون في الموالد " عروسة المولد " وهي من السكر المذاب ، فهذه بداية المولد مع الفاطميين أكل وزينات .
أما السيوطي وابن كثير فقصدوا بداية قراءة المولد وإنشاد المدائح ، والله أعلم وتحتاج المسألة مزيد بحث .
أصل فكرة المولد :
الباحثون ينصون على أن فكرة الموالد والاحتفال بها فكرة قديمة سابقة على الإسلام ، كما ذكر ذلك عبد الغنى النبوي الشال في كتابه " عروسة المولد " بقوله :"ولا شك أن ظهور عروسة الحلوى قد أخذه الفاطميون عن عادات قديمة إما مصرية و قبطية وإما فارسية وصينية" ويرجح الشال المصدر المصري،وهذا لا يسلم له، فقد ظهرت هذه العروس مباشرة بعد احتلال الفاطميين مصر ولم يتح لهم وقت كافٍ لمعرفة حضارة المصريين القدماء ، ولكنهم كانوا يعرفونها أصلاً في تراثهم الفارسي القديم ، وهذه أيضاً قضية تحتاج مزيد بحث ودراسة .
فات الشال وغيره ممن لا يعتنون بعقائد الدول والجماعات أن أساس الدولة الفاطمية نفسها كان أساسٌ سياسي فهي دولة دخيلة على الإسلام أحدثت الفكر الإسماعيلي في الشام وعملت على بث الأعوان والدعاة للثورات في بلاد الإسلام فنجحت في اليمن وبعدها في المغرب وبعدها احتلت مصر وكونت الدولة العبيدية ، وقد روجت لنفسها بالانتساب لآل البيت ، لكن العلماء كشفوا زيف ذلك ، وبينوا أصلها الدخيل وإن لم يتم الجزم في أصلهم بين رأيين هل آل القداح الذين أسسوا الدولة العبيدية الفاطمية هم من اليهود أم المجوس ، كما ذكره الأستاذ أحمد عنان في كتابه "الحاكم بأمر الله ".
تتطور المولد عبر التاريخ :
سبق ذكر أن المولد ظهر زمن الفاطميين ومنهم انتشر في العالم الإسلامي، وألغي زمن الدولة الأيوبية ، ولكن في عصر المماليك أعيد إقامة المولد كما ذكر ذلك "ابن إياس" من أن المولد أقيم عام 922هـ، زمن السلطان المملوكي "قنصوه الغوري" واتسم بالبذخ والترف؛ وفي العام التالي 923 هـ لما دخل العثمانيون مصر ألغوا المولد ،لكنه ظهر بعد ذلك .
العلامة شبلي النعماني - مؤسس دار العلوم " ندوة العلماء " في الهند –في كتابه " سفر نامه روم ومصر وشام " والتي طبعت مؤخراً في مصر باسم " رحالة هندي في بلاد الشرق العربي " ، كتب عن مشاهداته بمصر للمولد سنة 1382هـ 1892م فقال:" الاحتفال بالمولد هنا تتم في قطعة أرض فضاء ... ويجتمع في كل خيمة جماعة خاصة من الفقراء والصوفية ويذكرون الله طبقاً لطريقتهم ، وطريقة الذكر تختلف تماماً عن طريقة دراويش الهند ، حيث يقف جميع الناس في دائرة ويهتفون بصوت مرتفع معاً بكلمات خاصة بالذكر ، ويقتربون من الركوع مع هذه الكلمات ، ويأتون بحركات عجيبة برقابهم وخصرهم ، ولو نظر إليهم أحد من بعيد يخالهم يمارسون تدريبات رياضية ، وطريقة رقص الدراويش أكثر عجباً ، والحقيقة أنها تحقر الفقر والصوفية وتسخر منه ، ....و كان هؤلاء الناس يجلسون في صفوف ، والشخص الذي يريد الذكر منهم يبدأ بالرقص في وسط المحفل، ويذكر الناس أنهم يؤدون جميع أصول الرقص ، ........لقد أسفت أشد الأسف لأن هؤلاء الناس يعتبرون هذه الطريقة غير اللائقة عبادة ، كما يعتقد كثير من الناس أنهم يصلون إلى مرتبة الغوث والقطب والأبدال والأوتاد ". ص 213 .
أما اليوم فقد أصبح المولد شيئاً عجيباً كما نقلته قناة اقرأ في تحقيقها عن المولد فهو: سرادقات كبيرة حول المساجد الكبرى والميادين في جميع مدن مصر خاصة في القاهرة؛ كمسجد الإمام الحسين والسيدة زينب (رضي الله عنها) ويكون زوار المولد من مختلف قرى مصر وينتشر فيه الباعة الجائلين بجميع فئاتهم وألعاب التصويب والطارة وبائعي الحلوة والأطعمة وسيركا بدائيا يضم بعض الألعاب البهلوانية وركنا للمنشدين والمداحين، وهم فئة من المنشدين تخصصت في مدح الرسول (صلى الله عليه وسلم).
وهذه الموالد تقام فيها حلقات الحضرة الصوفية و يكثر في هذه الحضرات اختلاط الرجال بالنساء مع عدم التزام كثير منهن بالحجاب الشرعي ، وأغلب زوار المولد لا يصلون ويدخنون الشيشة فيه!!
ونقل وصف المولد من داخله محرر مجلة آخر ساعة المصرية، فقال في عدد 31 /مايو/ 2006 : "المولد احتفالية صاخبة ما أن تدخلها حتى تتورط في الزحام فأنت دافع أو مدفوع، مانح أو ممنوح ستمتزج رغم أنفك في الخليط العجيب وستصبح متجانسا بصورة تدهشك وسط الدراويش والحرافيش والعارفين واللصوص والباحثين عن دور. نفوس عارية في احتياجاتها، صريحة في إفشاء أسرار ضعفها وعوزها، تشكو وتبكي وتذكر وتتمايل حتى السكر تصرخ وتمارس عزة المنح وتهافت الأخذ بفطرية وتنام في العراء رجالا ونساء في أمان إنساني دون شوائب وكأنه مجتمع آخر غير الذي يعاني هواجس الفصل والمنع" .!!
ولما كثرت الانتقادات للمولد قام المجلس الصوفي الأعلى بمصر بإصدار تعليمات برنامج الاحتفال بالمولد الزينبي لسنة 1426هـ / 2005م ، نشرت في مجلة المجلس مجلة التصوف الإسلامي ـ العدد (320) ـ 9/2005 جاء فيها :" الأمور المطلوب منعها وتلافيها:
1- عدم استخدام الآلات الموسيقية بمجالس الذكر.
2- عدم اختلاط النساء بالرجال وضرورة عمل سواتر داخل الخدم التي يتواجد بها نساء.
3- عدم الإساءة لسمعة الصوفية، وإظهار السلوك الصوفي الصحيح في كل النواحي..
4- تهذيب مجالس الذكر وإقامتها على الصورة الصحيحة من حيث سلامة النطق وطهارة ونظافة القائمين بها.
5- نظافة المساجد وطهارتها وعدم الطهي بها وعدم تعطيل شعائر الصلاة."
مما يدل على أن هذه المذكورات هي القائمة والممارسة في الموالد حالياً !!
وبعد هذا كله يحق لنا السؤال هل يصح الاستشهاد بكلام العلماء السابقين في إباحة المولد على هذه الموالد ؟؟
غاية المولد :
وتركزت تبريرات الباحثين لسبب إحداث الفاطميين للمولد ، على البعد السياسي في ذلك ، فالباحث الشال في كتابه " عروسة المولد " – وهذا من شؤم البدع أنها لا تقف عن حد بدايتها وتشغل أصحابها بمتابعة تفاصيل هي من باب إضاعة الأوقات والجهود والأموال – يجعل إحداث المولد من " كياسة الدولة الفاطمية وتفهمها لنفسية الجماهير فهي تعلم أن الشعب المصري مفتون بالسمر والفرح ، فخلقت مثل هذه الطرائف من الحلوى ومثل هذه الأعياد والحفلات ... فحققت هدفين :
1- إشباع المواطنين المصريين إشباعاً دينياً بالموالد والاحتفال بها وتقوية الحركة الصوفية .
2- إبعاد المواطنين عن التفكير في محاسبة الحكام ." ص 56 .
ويوافقه على هذا الرأي الأستاذ جمال بدوي مؤلف كتاب "الفاطمية دولة التفاريح والتباريح".
ولإدراك الدولة الأيوبية - التي أسسها صلاح الدين- للغرض السياسي المنحرف من المولد قامت بإلغائه.
و لنفس الغاية السياسية ذكر المؤرخ "عبد الرحمن الجبرتي" أن "نابليون بونابرت" اهتم بإقامة الاحتفال بالمولد النبوي الشريف سنة 1213هـ 1798م، من خلال إرسال نفقات الاحتفالات وقدرها 300 ريال فرنسي إلى منزل الشيخ البكري (نقيب الأشراف في مصر) بحي الأزبكية، وأُرسلت أيضًا إليه الطبول الضخمة والقناديل.. وفي الليل أقيمت الألعاب النارية احتفالاً بالمولد النبوي، وعاود نابليون الاحتفال به في العام التالي لاستمالة قلوب المصريين إلى الحملة الفرنسية وقوادها!!
وهذا الاستخدام السياسي للموالد لا يزال مستمر لليوم ، فكثير من القيادات السياسية العربية والغربية تدعم اليوم كثير من الفعاليات والتجمعات الصوفية وذلك لتمرير كثير من المطالب السياسية التي لا تصب في المصلحة الإسلامية .
ولذلك أصبح من زوار المولد في مصر السفير الأمريكي !!
ما هو المولد الذي أجازه بعض العلماء ؟
أجاب الحافظ السيوطي في رسالة "حسن المقصد في عمل المولد" : " عن عمل المولد النبوي في شهر ربيع الأول ما حكمه من حيث الشرع؟ وهل هو محمود أو مذموم؟ وهل يثاب فاعله أو لا؟ والجواب عندي: أن أصل عمل المولد الذي هو اجتماع الناس،وقراءة ما تيسر من القرآن، ورواية الأخبار الواردة في مبدأ أمر النبي صلى الله عليه وسلم وما وقع في مولده من الآيات ثم يمد لهم سماط يأكلونه وينصرفون من غير زيادة على ذلك". هذا هو المولد الذي أجازه بعض أهل العلم، فما علاقته بما يحدث الآن ؟؟؟
ولذلك أفتى الشيخ محمد الغزالي ببدعية المولد النبوي في كتابه " ليس من الإسلام " فقال " والتقرب إلى الله بإقامة هذه الموالد عبادة لا أصل لها ..فنحن نميل إلى تعميم الحكم على هذه الموالد جميعاً ووصفها بأنها مبتدعات ترفض ولا يعتذر لها " و الشيخ القرضاوي وضح حكم المولد ببرنامجه في قناة الجزيرة بقوله " إذا نظرنا إلى الأمر باعتباره عبادة نقول : إنه لم ترد هذه العبادة ولم تصح " .