إيران تصفي عملاءها من آل الحكيم!!
صباح الموسوي
مركز دراسات النهضة الأحوازية للثقافة والإعلام
تزامنًا مع دخول عبد العزيز الحكيم ـ رئيس المجلس الإسلامي الأعلى وكتلة الائتلاف الشيعي في البرلمان العراقي ـ أحد المستشفيات الإيرانية لتلقي العلاج من مرض سرطان الرئة, فقد نشر في إيران مؤخرًا ولأول مرة كتاب يكشف عن جزء من الخلاف الذي كان سائدًا بين الزعيم الإيراني الراحل الخميني وبين المرجع الأعلى للشيعة آنذاك (والد عبد العزيز) الراحل آية الله محسن الحكيم.
وقد جاء الكشف عن هذا الخلاف في كتاب بعنوان "مذكراتي" للشيخ محمد سمامی أحد رجال الدين المرافقين للخميني أثناء إقامته في العراق والتي دامت قرابة الخمسة عشر عامًا, حيث كان الخميني قد استقر في مدينة النجف بعد أن تم إبعاده من إيران عام 1964م على إثر قيادته لانتفاضة طلبة الحوزة الدينية في مدينة قم ضد الشاه.
وقد أبرزت وسائل إعلامية إيرانية تابعة لجناح المتشددين ما ذكره "السمامي" عن اللقاء الوحيد الذي جمع بين الخميني وآية الله محسن الحكيم, والذي ساده جو من التشنج والعصبية نتيجة الخلافات في الرؤى والمواقف من نظام الشاه ونظرية ولاية الفقيه التي كان الخميني يحاول ترويجها, وكانت حوزة النجف ترفضها لضعف أدلتها الشرعية, وتختلف معه لمعارضته نظام الشاه محمد رضا بهلوي الذي كان من الداعمين لحوزة النجف ومرجعية محسن الحكيم تحديدًا.
وقد ذكر الشيخ "محمد سمامي" تفاصيل ذلك اللقاء الذي جرى في يوم الاثنين 22 جمادي الثاني لسنة 1385هـ في منزل الحكيم بمدينة النجف قائلاً: إن اللقاء جرى في الأيام الأولى من وصول الخميني إلى النجف, وإنه قد كلفني بكتابة ما يدور من حديث بينه وبين الحكيم الذي كان يتحدث الفارسية بلكنة.
ويشرح قائلاً: إن اللقاء جاء بناءً على اقتراح من الشيخ نصر الله الخلخالي, أحد المقربين من الخميني, فبعد صلاة المغرب والعشاء التي أقيمت في مدرسة البروجردي الكبرى بإمامة الخميني, توجهنا يرافقنا عدد من المقربين نحو منزل الحكيم عن طريق سوق القبلة, وعند وصولنا بيت السيد الحكيم لم يكن أحد في غرفة الاستقبال (أو ما يعرف بالبرانية) سوى الخادم الذي صاحبنا إلى الغرفة الخاصة وأجلس الخميني بجانب المسند المخصص لجلوس الحكيم الذي دخل الغرفة بعد لحظات من دخول الخميني إليها, وقد تبادل الاثنان السلام والمجاملات المعهودة بين رجال الدين.
وحين استقر المجلس بدأ الخميني بالحديث قائلاً للحكيم: لقد سمعنا أن صحكتم ليست على ما يرام, فمن المفيد أن تذهبوا إلى إيران لتلقي العلاج وهي فرصة أيضًا تطلعون فيها عن قرب على الأوضاع الجارية هناك.
فرد الحكيم عليه قائلاً: إنني مطلع بالكامل على جميع القضايا.
ثم قال له الخميني: لا أعتقد أنكم مطلعون على جميع القضايا, فلو كنتم مطلعين حقًا على ما يجري في إيران لما سكتم عنه.
فأجابه الحكيم: ما كان يتوجب علينا من الناحية الشرعية فقد قمنا به, ولكن يبدو أنكم لحد الآن غير مطلعين على الأوضاع السياسية في العالم, فهناك بعض الجهات والأفراد المنتفعين يثيرون القلاقل لكي يستفيدوا منها, لذا يجب أن تكونوا يقظين جيدًا.
فرد الخميني: لعلكم غير مطلعين أن الأمريكان والإنجليز يريدون تدمير الدول الإسلامية ومحوها, وقد بدأوا بإيران. فإنهم ينهبون الثروات الإيرانية ويريدون امتصاص دماء الشعوب, لذا يجب أن ننتبه. كما أن محمد رضا بهلوي لا يؤمن بالإسلام نهائيًا, ولهذا السبب نحن ثرنا ضده.
فيرد عليه الحكيم مرة أخرى: نعم صحيح ما تقولونه, ولكن المقاومة والوقوف بوجه هؤلاء بالطريقة التي قمتم بها كانت غير صحيحة لأننا لا نمتلك السلاح والقدرة, فسلاحنا وقوتنا هي هؤلاء الناس, وهؤلاء مواقفهم تتغير مع تغير اتجاه الريح, ونحن لدينا تجارب من ثورة العشرين العراقية ونتذكر كيف تعامل معنا الإنجليز وكيف انتهت نتيجة ثورتنا ضدهم. لذا يجب أن يتم التحرك باحتياط شديد فإن أية غفلة من الممكن أن تذل وتدمر المسلمين, وأنا أجد نفسي مسئولاً أمام هذه الأمور. كما أنني قد تحققت من بعض القضايا التي تطرحونها وقد وجدتها بخلاف ما ذكرتم.
فقال له الخميني: نحن ما تحركنا من دون دليل, وعندنا مستمسكات تثبت صحة ما نقول.
فسأله الحكيم: كيف ستجاوبون الله على هذه الدماء التي أريقت؟!
فأجابه الخميني: لماذا ثار الإمام الحسين واستشهد هو ومن معه؟ أليس من أجل الحفاظ على الإسلام؟ إذن علينا أن نوجه له هذا الاعتراض أيضًا.
وفي هذه الأثناء غضب السيد الحكيم وقال بعصبية شديدة: أيها السيد تقيسون أنفسكم بالحسين! إن الإمام الحسين كان إمامًا مفترض الطاعة وكان عالمًا ومكّلفًا من الله. لماذا أنتم لا تذكرون الإمام الحسن؟! فكلما أردتم القيام بعمل أو إراقة دماء تجرون الإمام الحسين إلى الوسط!! فإن إراقة قطرة دم واحدة من دون ذنب عليها مسئولية عظيمة أمام الله, ثم سكت.
كما أن الخميني لم يتحدث بعدها, ثم نهض مغادرًا وقد شيعه الحكيم إلى باب الغرفة.
وكانت مدة هذا اللقاء عشرين دقيقة فقط حضره النجل الأكبر للحكيم السيد يوسف وعدد من حاشيته. انتهى.
المراقبون يعتقدون أن مذكرات "السمامي" كانت مليئة بالكلام المهم حول الخلاف الحاد الذي كان قائمًا بين الخميني ومرجعية الحوزة النجفية آنذاك, إلا أن مقص الرقيب لم يسمح بنشر أكثر مما نشر, حيث يعلم الجميع أن حوزة النجف بقيت مؤيدة لشاه إيران محمد رضا بهلوي لآخر لحظة من حياته, فيوم موته في القاهرة كان موفد مرجعية النجف إلى مصر "السيد طالب الرفاعي" المقيم حاليًا في أمريكا هو من صلى عليه, وهو ما تسبب في تصاعد حدة الخلاف بين الخميني ومرجعية النجف التي كان زمام قيادتها يوم موت الشاه بيد آية الله أبو القاسم الخوئي. وقد أدى غضب الخميني من مرجعية النجف إلى قيام عناصر من اللجان الثورية بإحراق مكتب ممثل آية الله الخوئي في مدينة قم انتقامًا منه لقيام ممثله في القاهرة بالصلاة على جنازة الشاه. كما قامت السلطات الإيرانية بعد ذلك بالتشديد على الموظفين الحكوميين والتجار وأساتذة حوزة قم ممن كانوا يقلدون الخوئي أو يميلون بأفكارهم وآرائهم الفقهية إلى رأي حوزة النجف.
وحول الدوافع وراء الكشف عن جزء من الخلاف الذي كان قائمًا بين الخميني ومحسن الحكيم, في هذا الوقت تحديدًا, فإن المراقبين يعتقدون أنه يدخل في باب مساعي طهران الرامية إلى تثبيت هيمنتها المطلقة على حوزة النجف وضمان اعترافها بمبدأ ولاية الفقيه ومرجعية خامنئي التي لم تقر رسميًا بعد من قبل حوزة النجف.
ولهذا فإن طهران تسعى, أولاً: إلى إبعاد المرجعيات العراقية القوية, التي تصر على استقلالية حوزة النجف وإبقائها المرجعية العليا لكافة الشيعة, من تولي زعامة الحوزة النجفية.
ثانيًا: تنصيب مرجعية ضعيفة وغير عراقية على رأس حوزة النجف لضمان بقاء ولائها الحالي لإيران.
ثالثًا: إدخال مناهج دراسية جديدة في حوزة النجف وإلغاء النمط التعليمي التقليدي المعتمد فيها حاليًا والذي يختلف عن أسلوب ومنهج حوزة قم, وقد كلف مرشد الثورة الإيراني علي خامنئي, الناطق الرسمي السابق باسم حزب الدعوة الشيخ محمد مهدي الآصفي البروجردي, لهذه الغاية.
رابعًا: إن إيران مطمئنة الآن من موقف مرجعية النجف بقيادة الإيراني آية الله علي السيستاني لكنها تتخوف من سلفه, فهناك ثلاثة مراجع مرشحين لخلافة السيستاني؛ اثنان منهم غير عراقيين وهما الشيخ بشير النجفي (باكستاني) والشيخ فياض (أفغاني), أما الثالث فهو محمد سعيد الطباطبائي الحكيم, وهو الحفيد الأكبر لآية الله محسن الحكيم من جهة الأم, والأخير يعد أبرز المرشحين لخلافة السيستاني لكونه أكبر مراجع الشيعة العراقيين والوحيد الذي مازال متمسكًا بخصوصية الحوزة النجفية التي تميزها عن سائر الحوزات الشيعية الأخرى. كما أنه مازال لم يقر بعد صراحة بنظرية ولاية الفقيه المطلقة ولا بمرجعية خامنئي الشاملة للشيعة.
وقد عرف عن محمد سعيد الحكيم بعده عن الخوض في قمار السياسة, وعلى الرغم من أنه قد سبق اعتقاله في منتصف الثمانينيات ضمن مجموعة من آل الحكيم, إلا أنه كان يعد من رجال الدين المقربين إلى السلطة وسبق له أن استعان بالرئيس الراحل صدام حسين لاسترداد مدرسة دينية لآل الحكيم كان محمد صادق الصدر (والد مقتدى الصدر) استولى عليها. كما سبق أن غادر العراق عام 2001م لتلقي العلاج الطبي في الخارج على نفقة الرئيس الراحل صدام حسين.
وقد تعرض محمد سعيد الحكيم البالغ من العمر (71 عامًا) في أغسطس آب 2003م إلى محاولة اغتيال فاشلة أسفرت عن أصابته بجروح طفيفة ومقتل ثلاثة من حراسه. وقد ربط المقربين منه تلك المحاولة بالخلاف القائم بينه وبين آل الصدر.
ومن المعروف أن خلاف الحكيم مع الصدر خلاف فكري, حيث كان الأخير يسعى إلى أن تكون الحوزة ناطقة باسم الناس وتتدخل في السياسة وتمثل كل الشيعة في العالم. غير أن محمد سعيد الحكيم يرفض ذلك ويرى ضرورة إبعاد الحوزة عن الصراعات السياسية.
وعلى الرغم من مواقف زعيم حوزة النجف آية الله السيستاني المؤيدة لإيران حاليًا, إلا أن ذلك لم يوفر الضمان الكافي لطهران في إمكانية استمرار بسط هيمنتها المطلقة على حوزة النجف, حيث يوجد حاليًا الكثير من رجال الدين العراقيين الكبار من أمثال آية الله الشيخ اليعقوبي وآية الله الشيخ حسين المؤيد وآية الله الشيخ جواد الخالصي وشقيقه آية الله الشيخ مهدي الخالصي وآية الله السيد محمود الحسني الصرخي وآية الله السيد أحمد الحسني البغدادي وغيرهم من المجتهدين الآخرين, على خلاف مع السيستاني ويرفضون تابعية حوزة النجف لإيران ويسعون إلى إبقائها مستقلة ومحافظة على خصوصيتها ومرجعيتها لشيعة العالم. وهذا ما يجعل طهران قلقة على مستقبل مخططها ولهذا فهي تسعى إلى تنصيب مرجع موالٍ لها (ظاهرًا ومضمونًا) لضمان تبني حوزة النجف نظرية ولاية الفقيه وتوحيد قيادة شيعة العالم تحت مرجعية خامنئي.
ومن هنا فإن إيران تسعى إلى إبعاد محمد سعيد الحكيم عن تولي منصب المرجعية العليا لحوزة النجف, وذلك بإضعافه من خلال دعاية إعلامية مبرمجة تحاول تشويه تاريخ مرجعية آل الحكيم الذين وعلى الرغم من تحالفهم القوي مع النظام الإيراني إلا أنهم مازالوا متمسكين بالمنهج التقليدي لحوزة النجف الرافضة الاعتراف بولاية الفقيه المطلقة وإصرارهم على قيادة حوزة النجف للشيعة.
ويعتقد المراقبون أن النظام الإيراني وعلى الرغم من احتضانه لأبناء آية الله محسن الحكيم ودعمهما ضد نظام الرئيس الراحل صدام حسين إبان الحرب الإيرانية العراقية وما بعدها, إلا أن ذلك لا يعني أن طهران تناست مواقف محسن الحكيم وحوزة النجف المعارضة للخميني والمؤيدة للشاه. ويربط بعضهم بين اغتيال محمد باقر الحكيم, عقب عودته إلى العراق في عام 2003م, وبين العداوة السابقة التي كانت قائمة بين محسن الحكيم والخميني من جهة, ومساعي محمد باقر الحكيم إحياء دور حوزة النجف الذي كان قد تراجع أمام حوزة قم عقب وفاة أبو القاسم الخوئي من جهة أخرى.
وهذا ما أعلنه, وكيل آية الله السيستاني في الكويت أبو القاسم ديباجي، عقب مقتل الحكيم, حيث صرح وقتها أن أحد أهم أسباب استهداف الحكيم ناجم عن مساعي الأخير لإبقاء حوزة النجف المركز الرئيس للشيعة في العالم.
وقال أبو القاسم الديباجي وقتها: إن باقر الحكيم وخلال مدة قصيرة عقب عودته إلى العراق, قام مع ابن أخته آية الله محمد سعيد الحكيم بأعمال كثيرة من أجل إعادة بناء حوزة النجف, وصار يجذب المقلدين له من داخل العراق وخارجها, وأصبحت مرجعيته تنافس مرجعية السيستاني.
وكان محمد باقر الحكيم وبعد مرور 111 يومًا من عودته إلى العراق قتل بحادث تفجير مروع في مدينة النجف. وعلى الرغم من مرور أربعة سنوات فإن الغموض مازال يكتنف عملية اغتياله ولم يقدم المجلس الأعلى للثورة الإسلامية في العراق, الذي كان يترأسه, رواية رسمية عن تلك الحادثة التي كانت بمثابة هزة مدوية في الساحة الشيعية. فالرواية الوحيدة التي قدمت كانت قد صدرت عن شرطة مدينة النجف والتي اتهمت فيها تنظيم "القاعدة" بالوقوف وراء مقتل الحكيم. وقد أعلن في يوليو الماضي تنفيذ حكم الإعدام بـ"أرواس محمد عبد العزيز" الملقب بـ(أبو عمر الكردي) الشخص الوحيد الذي قيل: إنه اعتقل بتهمة التورط بقتل محمد باقر الحكيم.
وكانت وسائل إعلام إيرانية معارضة وأخرى عربية قد نشرت أواخر شهر تشرين الأول 2003م تصريحات لأحد أفراد عناصر استخبارات فيلق القدس التابع لميليشيات الحرس الثوري, ويدعى "أمير" بعد هروبه من إيران ولجوئه إلى إحدى الدول الأوروبية, قال فيها: إنه كان أحد المشرفين على عملية اغتيال الحكيم, وقد شرح تفاصيل العملية وأسماء المسئولين الذين كانوا وراءها, إضافة إلى أسماء العناصر التي قامت بتنفيذها. (لمعرفة التفاصيل يمكن مراجعة صحيفة الشرق الأوسط عدد 30 تشرين الأول 2003).
ويتهم البعض طهران بالسعي لتصفية آل الحكيم وذلك على الرغم من إعلانهم الولاء لإيران, قائلين: إن ذلك الولاء لم يقلل من خطر عدوتهم إلى الإمساك بزعامة حوزة النجف وهو ما لا يريده الإيرانيون؛ كون ذلك سوف يعيد للنجف قوتها ودورها التاريخي في قيادة الشيعة. ويعتقد هؤلاء المشككون أن مرض السرطان المفاجئ الذي أصيب به عبد العزيز الحكيم رئيس المجلس الإسلامي العراقي, جاء عقب إعلان الأخير عزمه التصدي لمنصب المرجعية الشيعية وتزّعم حوزة النجف, وهذا ما يدفع إلى احتمال أن يكون قد تعرض لمؤامرة تهدف إلى تصفيته.
ولكن قد يقول قائل: هل يعقل أن تقوم إيران بتصفية عملائها من آل الحكيم في الوقت الذي يفترض فيه أنها بحاجة ماسة إليهم لفرض هيمنتها على الساحة العراقية؟!
ويأتي الجواب ليؤكد أن الإيرانيين لا ينظرون إلى آل الحكيم وغيرهم من العملاء سوى على أنهم وسائل اتخذتهم لتحقيق مصالح معينة وإذا ما تحولت تلك الوسائل إلى عبء فيتم التخلص منها لاستبدالها بما هو أفضل منها.
ولعل ما كشفه اثنان من كبار علماء الشيعة اللبنانيين الذين كانوا من أشد الناس ولاءً للنظام الإيراني, الشيخ محمد حسين فضل الله, والشيخ صبحي الطفيلي الأمين العام الأسبق لحزب الله, والذين قالوا: إن طهران سعت لاغتيالهم على الرغم من أنهم يعدون من المولين لها, لهو خير دليل على صحة وجهة نظر الذين يعتقدون أن إيران تصفي عملائها من آل الحكيم.