تسييس الحج .. لإيران مآرب أخرى
الاربعاء 10 نوفمبر 2010
بقلم: فتحي مجدي
الحج، هو ذلك الركن الخامس من أركان الإسلام، الذي أوجب الله على عباده تأديته لمن استطاع منهم إليه سبيلاً، هو المعجزة الذي ستظل باقية ما بقي الدهر، والدليل على صدق الدعوة الإلهية لإبراهيم أبي الأنبياء عليه السلام {وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ}، هذه الشعيرة التي يتجرد فيها الإنسان من ملذات الدنيا وشهواتها مقبلاً على الله ابتغاء مرضاته، وطمعًا في أن يكون من عباد الله المقبولين حتى يعود من حجه كيوم ولدته أمه.
في يوم الحج الأعظم؛ حيث يأتي الناس من كل فج، يتبدى الحجيج في مشهد إيماني، تذوب فيه الاختلافات والفروق بين الغني والفقير، الأبيض والأسود، العربي والأعجمي، لتسود روح التآلف بين أولئك الذين جاءوا لمعبود واحد، ملبين دعوة الرب الواحد، قاصدين رحمته وعفوه، { فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ }، ذلك هو المقصد الأساسي من الحج التجرد من كافة المظاهر الدنيوية والابتعاد عن الشهوات والملذات، والتطاحن والاختلافات، وغيرها من أمور قد تفسد الحج.
تلك هي الحقيقة التي يتغافل عنها ـ عن عمد ـ من يريدون أن تتحول الأراضي المقدسة خلال موسم الحج إلى مسرح للصراع والتجاذب، وإثارة قضايا من شأنها أن تعكر صفو الحجيج، أو تفسد عليهم عبادتهم، لتذهب بهم بعيدًا عن المراد الحقيقي من تكليف الله لعباده بأداء هذه الفريضة الإيمانية، والتي قصد منها إظهار التجرد والإخلاص، وتلبية الناس من كل حدب وصوب لدعوة الخالق مقبلين على طاعته وابتغاء للأجر.
لم يفرض الله الحج لهدف آخر غير العبادة، أو ليكون منتديًا سياسيًا تطرح في أيامه المعدودات قضايا تثير التشاحن بين الحجيج، وتكون عاملاً للفرقة والنزاع أكثر منه الوحدة وتحقيق التآلف بين الناس من شتى الأجناس كما هو الهدف المراد.
ولم يكن ذلك هو المقصد من دعوة نبي الله إبراهيم للناس بالحج من أجل التظاهر أو ترديد الهتافات والشعارات السياسية، وإلا ساد التعصب والنعرات بين كل جماعة، وغلبت عصبية الجاهلية على رأي كل شخص وفريق، وفقًا لما يؤمن به أو يعتقد، وضاع الهدف الأسمى من الفريضة في أجواء التنافس السياسي البغيض.
نحو ثلاثة ملايين مسلم من داخل وخارج السعودية يفدون إلى الأراضي المقدسة لأداء الحج سنويًا، تتطلب ضيافتهم جهدًا كبيرًا على المستويين التنظيمي والأمني معًا، حتى يؤدي الجميع الشعيرة في يسر وسهولة، وتجنب أية مخاطر قد تهدد أرواح هذا العدد الضخم الذي يتجمع في صعيد واحد، نتيجة سلوك أو تصرف خاطئ من شخص أو جماعة.
وذلك يفرض على قوى الأمن السعودية اتخاذ إجراءات أمنية على مستوى كبير من الدقة والصرامة لا مجال لأي تهاون أو استهتار، كما أنه يفرض عليها مسئولية كبيرة في تهيئة كل سبل الراحة للحجاج، وتذليل كافة العراقيل أمامهم، من أجل مرور موسم الحج دون وقوع حوادث تفسده، من خلال تطبيق النظم والقوانين، ومنع أية مخالفات أو مظاهر تتنافى مع الحج، وتعرض أرواح الحجاج للخطر.
لا يزال عالقًا بالأذهان ما حدث قبل 23 عامًا، عندما تظاهر الحجاج الإيرانيون في موسم الحج في عام 1987، تلبية لدعوة مرشد الثورة الإيرانية الخميني، لـ "البراء من المشركين"، وهو شعار ألزم حجاج بيت الله الحرام برفعه وترديده في مواسم الحج، من خلال مسيرات أو مظاهرات تتبرأ من المشركين من خلال ترديد هتافات بهذا المعنى، من قبيل :"الموت لأمريكا".. "الموت لإسرائيل"؛ باعتبار أن الحج يجب أن يتحول من مجرد فريضة دينية عبادية تقليدية إلى فريضة عبادية وسياسية.
وتسبب هذا في سقوط أكثر من 400 قتيل، بعد أن دخل الحجاج في مصادمات عنيفة مع قوات الأمن السعودية التي حاولت منعهم من التظاهر، وبعد أن قاموا بالاعتداءات على رجال الأمن بالأسلحة البيضاء، وتفجرت شرارة المواجهات عندما قام المتظاهرون بنحر أحد رجال الأمن السعوديين أمام عشرات الآلاف من الحجاج أمام بوابة الحرم المكي، وقاموا بعمليات تخريب واسعة في الشوارع وإحراق الإطارات في مشهد عبثي عكس الخطر المميت للدعوات الرامية إلى تسييس للحج.
ونتج عن تلك الاضطرابات الدموية توتر في العلاقات السعودية - الإيرانية، وقاطعت إيران موسم الحج في أعوام 88 و89 و1990، غير أن الحجاج الإيرانيين قصدوا الحج ثانية في موسم الحج 1991، بيد أن إيران لم تتخل عن دعوتها للتظاهر لكن في إطار تحركات محدودة، داخل مناطق الإقامة للحجاج الإيرانيين، دون الاصطدام بقوى الأمن السعودي، لكن في سنوات لاحقة اتهمت السعودية أشخاصًا قالت إنهم على صلة بإيران، بتدبير حوادث تفجير في مكة.
وبعد مرور أكثر من 20 عامًا على تلك الأحداث الدموية، برزت دعوات التحريض مجددًا للحجاج الإيرانيين، وكان ذلك في موسم الحج الماضي، بعد أن زعم المرشد الأعلى للثورة الإيرانية، علي خامنئي، إساءة السعودية للحجاج الإيرانيين، وقال إن على المسلمين مواجهة محاولات الإساءة إلى وحدتهم، وبلغ الأمر ذروته بدعوة ممثل خامنئي في مدينة مشهد أحمد علم الهدى بأن تكون مدينة مشهد الإيرانية هي "قبلة" المسلمين، فيما قابلت الحكومة السعودية تلك الدعوات بالتأكيد على أن المملكة لن تسمح لأي جهة أن "تعكر صفو الحج وتعريض سلامة الحجاج إلى الخطر ومحاولة بث الفرقة بين المسلمين".
وقوبل التحريض الإيراني بتنديد من كبار العلماء في السعودية والدول الإسلامية الأخرى، وحذر الشيخ عبد العزيز آل الشيخ مفتي المملكة العربية السعودية من استغلال موسم الحج لتحقيق أغراض سياسية، وأكد أن دعوى البراءة التي يتم الترويج لها "باطلة"، وقال وزير الحج السعودي فؤاد الفارسي "لا يجب أن يستغل الحج لأغراض سياسية ذاتية وذات أجندة خاصة"، بينما شدد مجمع الفقه الإسلامي في جدة على أنه يجب على الحاج أن يستشعر قدسية المكان وحرمة الزمان، مقبلاً على الله تعالى بكل جوارحه ومشاعره، وأن يجتنب كل ما يؤدي إلى الفرقة والشحناء والبغضاء التي تضعف من عزيمة الأمة.
لم يكن الموقف الإيراني من وجهة نظر محللين سياسيين بعيدًا عن الأحداث الساخنة على الساحة الإيرانية في العام الماضي، في خضم الاحتجاجات الواسعة التي شهدتها احتجاجًا على إعادة انتخاب الرئيس محمود أحمدي نجاد في انتخابات يقول خصومه من الإصلاحيين إنه شابها التزوير، وتسبب هذا في حدوث موجة من الاحتقان الشديد داخل إيران، فاقم من أزمة طهران مع الغرب حول البرنامج النووي، واُعتبرت محاولاتها لشحن الإيرانيين قبل موسم الحج محاولة للتخفيف من حدة الاحتقان الداخلي، وتهدئة أجواء الصراع بالداخل، من خلال حشد الحجاج الإيرانيين، وحذر أحمدي نجاد من أنه "إذا فرضت على الحجاج الإيرانيين قيود فإن الجمهورية الإسلامية ستتخذ القرارات المناسبة".
دعوات التحريض للإيرانيين من أجل التظاهر في موسم الحج التي تطل برأسها من وقت لآخر، تحمل في مضمونها أهدافًا أبعد ما تكون عن الشعارات المعلنة، "البراءة من المشركين"، لا يمكن معها غض الطرف أو إغفال الهدف الإستراتيجي لإيران بالسعي لتصدير الثورة، واستغلال كل ما من شأنه أن يروج لمشروعها بنشر التشيع في أوساط المجتمعات السنية حتى وإن أبدت خلاف ذلك.
فإيران تدرك جيدًا أن موسم الحج يحظى باهتمام المسلمين قاطبة، وأن بروزها في صورة المشهد سيضفي عليها زخمًا، من خلال استغلالها الشعارات السياسية التي دأبت على ترديدها في دغدغة مشاعر المسلمين، وإيهامهم بقدرتها وحدها على التصدي للمخاطر المحدقة بالمسلمين وتحرير أراضيهم المحتلة، بينما هي في حقيقة الأمر لم تبذل قطرة دم واحدة في نصرة قضايا المسلمين، بل على العكس كانت أداة للتواطؤ وضرب مشروع المقاومة كما حصل بالعراق، ولم تتدخل سوى للعمل على تكريس نفوذها، ودعم حلفائها الذين تربوا في كنفها سنوات طويلة.
وإذا كان من المشروع لأي دولة أن تسعى لاكتساب مكانة إقليمية ودولية، فإن إيران وهي تبحث عن ذلك تقوم باستغلال الآخرين في الوصول إلى أهدافها، كما فعلت ولا تزال في استغلالها العديد من قضايا المنطقة، ومن خلال استعراض القوة الذي تقوم به من وقت لآخر خارج حدودها، استغلالاً للوضع المضطرب بالمنطقة، وهذه إحدى ركائز الإستراتيجية الإيرانية، القائمة على توظيف وكلاء يعملون لحسابها، ويخوضون نيابة عنها المواجهات مع الأطراف الأخرى.
وغير بعيد عن هذا يمكن تفسير محاولاتها المتكررة لتوظيف شعيرة الحج سياسيًا لصالحها وتحقيق مآربها، عبر استغلال الحجيج في الدعاية السياسية والانسياق وراء شعاراتها، وحينما تفشل لا تتوانى عن إطلاق الاتهامات ضد السعودية بممارسة القمع والتمييز ضد الحجاج الشيعة الإيرانيين، ومنعهم من التظاهر، في افتعال للأزمات مع السعودية، على الرغم مما تبذله من جهود في خدمة ضيوف الرحمن وإكرام وفادتهم والسهر على خدمتهم وإراحتهم بشتى السبل، وحجاج بيت الله الحرام يلمسون ذلك بأنفسهم في تحسن الخدمات المقدمة لهم من عام لآخر.
إيران حبلى بالمشاكل الداخلية، أو بالأحرى "القنابل الموقوتة"، والأزمة السياسية التي شهدتها في العام الماضي تكشف عن خطورة الصراع على الساحة الإيرانية، في ضوء وبروز قوة مناهضة لا يُستهان بها معارضة لنظام الملالي، وتسعى للتحرر من قيوده ووصايته على الإيرانيين، والشعور بالتهميش بين السّنة في إيران بلغ ذروته، وهذا يجعل قادة الحكم في إيران يركزون جل اهتمامهم في تلك القضايا والصراعات الإقليمية بحثًا عن دور، وهربًا من ضغوط الداخل.