شريف عبد العزيز
جاء البيان الأخير لمرشد جماعة الإخوان المسلمين محمد مهدي عاكف والذي ناشد فيه القيادة السعودية وقف العمليات القتالية ضد الحوثيين الروافض الذين أغاروا علي الحدود الجنوبية للمملكة السعودية، وحقن دمائهم والتدخل للإصلاح بين المتصارعين في اليمن، مع تجاهل الإشارة للدور الإيراني في الصراع، ورفض توجيه أي لائمة لإيران علي شحنات السلاح الإيراني المتدفق علي جماعة الحوثي، جاء ليكشف بجلاء عن حالة إضطراب الخطاب الإعلامي للجماعة التي تعاني مشاكل جمة في الأونة الأخيرة علي المستوي الداخلي والخارجي، جعل الجماعة تفقد كثيراً من مصداقيتها في فترة عصيبة من تاريخها .
مشاكل في الداخل وأخري في الخارج
الإخوان كان دائماً يحسب لهم قوة الهيكل التنظيمي، ووحدة الخطاب الإعلامي، والتناغم بين قيادات الجماعة، بحيث مكنتها هذه القوة التنظيمة من استيعاب العديد من المشاكل الكبيرة التي كانت كفيلة بأن تعصف بالجماعة، ولكن هذا التناغم بدأ في المرحلة الأخيرة يغيب عن أداء جماعة الإخوان سواء تنظيماً أو حركياً أو دعائياً، فالمتابع للشأن الإخواني في الفترة السابقة يري أن مشاكل جمة تواجه الجماعة العريقة داخلياً بسبب اختلاف الآراء والتوجهات في القضايا الحيوية والحساسة، حتى غدا الخطاب الإعلامي للجماعة كأنه يعبر عن صراع مكبوت داخل أروقة القيادة الإخوانية بين العديد من الأجنحة، وأصبح الأمر أكبر من كونه خلاف علي تطبيق اللائحة كما يحاول الإخوان الترويج له للتعمية عن المشاكل الكبيرة التي تعاني منها الجماعة، جاءت قضية تصعيد الدكتور عصام العريان لعضوية مكتب الإرشاد لتخرج الصراع لحيز العلن، ويصل الأمر لحالة التلويح باستقالة المرشد مهدي عاكف نفسه في سابقة لم تحدث للجماعة منذ نشأتها، وأصبح معلوماً للجميع مدي تضارب المشهد الداخلي للإخوان في ظل الحديث عن حرس قديم وآخر جديد، وتيار محافظ وآخر إصلاحي ـ وأصبح لكل فريق أدواته وأنصاره وخطابه الإعلامي الخاص به، مما أدي في النهاية لاهتزاز صورة الجماعة بشدة في مرحلة حرجة اشبه بمخاض سياسي كبير سيتغير معه لحد كبير المشهد السياسي داخل مصر، ولن يكون للجماعة فيه دور علي الأرجح في ظل التراجع الملحوظ للتأثير الإخواني علي الساحة .
هذه الصورة في الداخل أما الوضع في الخارج فهو أشد تأزماً والتهاباً، فالوضع الداخلي ما زال مستقراً لحد ما، أما الوضع الخارجي فوصل لمرحلة اللاعودة في عدة أماكن، ففي الجزائر مثلاً انقسمت جماعة الإخوان لتيارين متنافسين، هما تيار أبي جرة سلطاني أو الحرس القديم، وتيار الدعوة والتغيير بقيادة عبد المجيد المناصرة، بسبب تأييد سلطاني لبوتفليقة في مسعاه لتعديل الدستور من أجل التجديد لفترة رياسة ثالثة في الجزائر، ورفض المناصرة لذلك، وقوبلت كل محاولات مكتب الإرشاد للصلح بالرفض التام في سابقة لم يقدم إخوان الخارج علي مثلها وهم مشهورون بالولاء الكامل والطاعة المطلقة لمكتب الإرشاد والمرشد العام، وانفجر بيت الإخوان في الجزائر بصورة تستعصي علي محاولات رأب الصدع.
هذا في الجزائر أما الأردن فكان الوضع مختلفاً، فالخلاف كان بين تيارات مختلفة داخل التنظيم، وصفت تارة أنها بين تيار متشدد يقوده المراقب العام للجماعة الدكتور همام سعيد، وآخر معتدل يقوده عضو شوري الجماعة المستقيل أحمد كفاوين، وهو الصراع الذي وصف بأنه صراع حمائم وصقور، ومقربين من الحكومة ومعارضين لها، وكان لحماس دور كبير في إذكاء هذا الصراع بلا جريرة منها، ووصلت حدة الصراع لتراشق إعلامي كبير بين الجانبين، واستقالات بالجملة من جانب التيار الذي يوصف بالمعتدل، مع تهديد منه بالكشف عن مخالفات مالية وإدارية ارتكبها المراقب العام، وإخوان إيران بدت منهم تذمرات وتلويحات بالاستقلال عن الجماعة بسبب موقف المرشد ومكتب الإرشاد من المجازر الإيرانية لأهل السنة في الأحواز وغيرها، وإخوان سوريا يراوحون بين أقدامهم بعد دخولهم في جبهة الخلاص المعارضة ثم انسحابهم السريع منها والذي وصف علي أنه نوع من الهروب من مواجهة النظام الذي يحكم قبضته علي الوضع الداخلي، في ظل تحسن العلاقات السورية مع العديد من دول الجوار مما جعل وضع الجماعة الداخلي يهتز كثيراً .
الإخوان والخيار الإيراني
الجماعة مشهورة تاريخياً بأنها تحسن إستغلال الفرص، وخلق المساحات في عقل ووجدان الشارع، وحسن الإنتشار في فراغات الحكومات العربية وما أكثرها، بحيث أصبح الرقم الإخواني أكبر من أن تتجاوزه أي حكومة مهما كانت قوتها وثباتها، وكما ضمنت لها هذه السياسة حضوراً في المشهد السياسي والاجتماعي والمؤسسي لا تخطئه العين في أغلب الدول العرية والإسلامية ، ومن ثم أصبح الزخم الشعبي للجماعة كفيلاً بأن تتدثر بثوب المعارضة الحقيقية في أغلب دول المنطقة، هذه المكانة السامية للإخوان في الشارع العربي والإسلامي أصبحت الآن وبفعل تبني الخيار الإيراني علي المحك، ولا أكون مبالغاً إذا قلت أن أسعد الناس بانحياز الإخوان للمشروع الإيراني هي الحكومات العربية التي أخذت تكسب العديد من المواجهات مع الجماعة الواحدة تلو الآخري، ونجحت هذه الحكومات في كسب المعركة الإعلامية من الإخوان في العديد من القضايا مثل قضية خلية حزب الله التخريبية، والانتخابات الإيرانية، وتجاوزات حزب الله اللبناني وجرائمه بحق أهل السنة في بيروت العام المنصرف، والسكوت المريب والمرير للجماعة علي جرائم إيران في العراق وأفغانستان ولأهل السنة داخل إيران، وكأن الجماعة التي كانت من قبل تحسن قراءة المزاج العام وتعرف متطلبات الشعب نسيت كل تاريخها الكبير [ وهي بالمناسبة أقدم وأرسخ من دولة طائفية ظلامية مثل إيران بعشرات السنين ] في هذا المضمار، وراحت تضع كل ثقلها ودعمها لإيران وذلك علي حساب شعبيتها و تاريخها، ناهيك عن الجانب العقائدي والشرعي .
الجماعة خسرت كثيراً بسبب انحيازها للخيار الإيراني، ولا يستطيع أحد أن ينكر هذا علي المستوي الشعبي والخارجي ، بل أنها أخذت تعاني من مشاكل داخلية قوية بسبب ذلك، وأخذ الخلاف يدب في أوصال الجماعة المشهورة بقوة البناء التنظيمي [ مع مراعاة غياب هذه القوة في الجانب الفكري ] وطال الخلاف قيادات الجماعة وأعضاء مجلس الإرشاد، فالخلاف العلني بين الدكتور محمود غزلان المتذمر من التقارب الإخواني الإيراني وأثر ذلك علي مكانة الإخوان وعلاقاتها الداخلية والخارجية، وبين يوسف ندا رئيس الوفد الإخواني الذي زار إيران عقب نجاح الثورة بها ليهنئ الخوميني علي الإطاحة بالشاه، هذا الخلاف استقطب في فلكه العديد من قيادات الجماعة وكوادرها، فضلاً عن شبابها والمنتمين إليها، في ظل العولمة الإعلامية واالفضاء المفتوح الذي يسمح بالاطلاع علي كثير من واجهات النظر المعارضة لإيران والإخوان، وأثر ذلك علي توجهات الكثيرين، مما سمح بظهور تيارات علنية داخل الإخوان تعارض ما يراه المرشد وأعضاء مكتبه من أراء وقرارات، خاصة بعد موقف الدكتور القرضاوي الذي ينظر إليه شباب الجماعة نظرة إجلال وإكبار تضعه في مقام المرجعية في الأمور الشرعية وغيرها،مما زاد في معاناة الجماعة في مرحلة حاسمة في تاريخها تدعي فيها الإستعداد لتسلم القيادة في عدة دول عربية .
وبدلاً من أن تستدرك الجماعة بعض خسائرها الباهظة بسبب علاقتها مع إيران، وتصلح خطابها الإعلامي تجاه نوازل الأمة التي تقف فيها إيران علي قدم المساواة مع الأمريكان والصهاينة في المسئولية، وتنحاز لما يمليه عليها الشرع والعقل والسياسة والاستراتيجية، أصرت علي الانحياز للجانب الإيراني، وأهالت التراب علي كم الأدلة الثابتة علي دور إيران في تأجيج الصراع في اليمن، والسلاح الإيراني المتدفق إلي الحوثيين، وتجاوزت التهديدات الإيرانية العلنية للعديد من دول الخليج نتيجة موقفها الداعم للسعودية في حربها ضد الغزاة الحوثيين، وراحت تناشد السعودية وتطالبها بوقف إطلاق النار، وحقن الدماء، كأن السعودية و هي المعتدي عليها مطالبة بعدم رد العدوان والصبر علي انتهاك حدودها، وتهديد أمن مواطنيها، من أجل عيون إيران وذيولها في المنطقة، وفي نفس الوقت لم توجه لوم ولا حتى عتاب للحوثيين علي عدوانهم الآثم علي الحدود، في مأساوية تعكس تدهور الأداء الإعلامي للجماعة العجوز .
الجماعة الآن تجازف برصيدها وأرثها ومكانتها وعلاقاتها مع العديد من الأطراف الفاعلة في المنطقة بسبب الإصرار علي الرهان الإيراني، وذلك كله في فترة حاسمة تحتاج فيها لكل الجهود للملمة كم المشاكل الداخلية الكبيرة التي تعصف بالجماعة في المشرق والمغرب، والجماعة التي تميزت من قبل بقدرتها الفائقة علي استيعاب المشاكل التي تهددها، والتعاطي مع مستجدات المواجهات مع الجهات الرسمية، تواجه امتحاناً صعباً أغلب الظن أنها لن تتجاوزه إلا بخسائر ضخمة تجعل تعود لرشدها، وتنحاز لخيار الشعوب الرافضة للمشروع الإيراني في أوطانهم .