عائلة الحاج مصطفى الجياب رحلة عناء وتاريخ مشرق
في الستة عقود الماضية هنالك قلة قليلة من فلسطينيي الشتات الذين آلت بهم الظروف وتداعيات النكبة إلى أن يمروا بعدة مراحل وألوان من عذابات الغربة والبعد عن الأوطان إلى ظلم ذوي القربى وشتى أنواع اللئواء والمحن ؛ اصطلح على هذه الفئة القليلة " فلسطينيو العراق " .
هذا المصطلح وهذه التسمية التي برزت في السنوات الخمس الماضية من بين العديد من أهلنا في الشتات كان لها حضور كبير وظاهر لما تعرضت له من نكبات متكررة وأحداث متوالية وضربات متعددة قد تفوق نكبة الآباء والأجداد عام 1948 ، لكن يبقى لسان حال الجميع سنصبر ونواصل ونعيش بكرامة وعزة أينما كنا .
ونحن الآن مع نموذج مشرق وعائلة معروفة من العوائل الفلسطينية في العراق وتحديدا من مجمع البلديات ، يتم استحضارهم في كل المواسم والمناسبات لهم علاقات وصلات وروابط اجتماعية وثقافية واقتصادية واسعة ولهم وزن مرموق لدى المجتمع الفلسطيني في العراق .
الحاج مصطفى محمود مصطفى الجياب ولد في قرية إجزم عام 1928 ونشأ وترعرع في تلك القرية ذات الطابع الفلاحي والمعيشة البسيطة ليجدوا أنفسهم في امتحان واختبار كبير بعد عقدين على حياته ليتم تهجيرهم القسري من أرضهم وموطنهم وبلادهم وقراهم أثر نكبة عام 48 لتكون محطتهم المقبلة العراق .
نشأ الفلسطينيون في العراق منذ عام 1948 بعد الضرورة التي ألجأتهم لذلك ورغم صعوبة البيئة الجديدة بكل المقاييس تعايشوا مع الوضع الجديد وتميز فلسطينيو العراق بإرادة قوية وحيوية نادرة مكنتهم من التأقلم والتعايش مع العراقيين بل اكتساب العديد من الصفات العروبية والأصالة العشائرية العراقية ومنهم الحاج مصطفى الجياب ( أبو محمد ) .
حدث كان أشبه بصاعقة على الفلسطينيين هناك وهو احتلال العراق عام 2003 ، حيث بدأت مرحلة جديدة ومحنة عظيمة وأصبحوا في مفترق طرق متشعبة وخطيرة للغاية وكل الخيارات المتاحة مرة ومعقدة وصعبة .
عائلة الحاج مصطفى الجياب كان لهم نصيب من حالات القتل والتهديدات والتضيق المتواصل لهم ولأقربائهم ، وكان لهم بشكل مباشر معاناة وتعرضات عديدة في تلك السنوات الماضية من ذلك الخسارة المادية الكبيرة لبضائعهم عندما تم حرق العديد من المحال والمخازن التجارية في مجمع الكناني التجاري في سوق الشورجة .
الحاج أبو محمد أب لأحد عشر مولودا ( ثمانية رجال وثلاث نساء ) الأكبر محمد ( أبو أيمن ) ثم أحمد أبو رامي فخالد أبو أثير ثم عامر ( ثائر ) فناصر فلؤي ( حمزة ) ثم جياب رحمه الله الذي توفي في الثمانيات ثم عطا .
هذه العائلة من العوائل الفلسطينية المعروفة في المجتمع الفلسطيني ولديهم علاقات اجتماعية واسعة ولهم السبق في العديد من القضايا العامة والخاصة على مر الزمن ، عمل معظمهم في تجارة الملابس وكانت لهم محال تجارية ولهم صلات كبيرة مع تجار عراقين وعرفوا بحسن تعاملهم ومجاورتهم .
تكاد لا تجد فرحا أو حزنا في المجتمع الفلسطيني خصوصا في مجمع البلديات إلا وتجد للحاج أبو محمد حضورا ودورا بارزا فيه ، وكان له الأثر الكبير في حل العديد من المشاكل الاجتماعية حتى كان يعرف عندنا في المجمع بمختار الفلسطينيين ، وله علاقات طيبة مع جميع أبناء فلسطين في العراق ورغم كبر سنه إلا أنه كان متواضعا ويعاشر الكبير والصغير ويحترم الجميع والكل يحترمه ، وكان يعطي كل ذي حق حقه ، وكثيرا ما كان يستشير الأصغر منه في قضايا الشرع وغيرها حتى لا يقع في الخطأ ، وكان للحاج أبو محمد دورا بارزا لا سيما في السنوات الأخيرة في العديد من الزيارات والمهام التي تحملها بعض الشخصيات الفلسطينية للحد من استهداف الفلسطينيين ، وقد شارك في الوفد الشعبي الذي التقى مقتدى الصدر ! منتصف عام 2005 على أمل التخفيف من معاناة الفلسطينيين والحد من استهدافهم من قبل ميليشيا جيش المهدي .
تلك العائلة كسائر العوائل التي تعرضت لمضايقات وكان خروجها من العراق كأدنى الحلول وأسوأ الاحتمالات في ظل تزايد تدهور وضع الفلسطينيين هناك مع فرضية تحسن الوضع الأمني نسبيا في السنة الأخيرة ، وفضل أبناء الحاج أبو محمد المباشرة بالاجراءات الرسمية للخروج من بغداد بدأت بإصدار جوازات السلطة الفلسطينية كي يتمكنوا من المغادرة لكن لم يستطيعوا دخول سوريا أو الأردن فيها ، وكان بإمكانهم الحصول على جوازات سفر عراقية لكن كانت وجهة نظرهم عدم الاستفادة منها ولابد من الخروج والخلاص بشكل قانوني ومدروس فما كان منهم إلا أن قرروا السفر إلى تايلند ثم التسجيل لدى الأمم المتحدة هناك على أمل الانتقال بعدها إلى أي دولة أخرى يمكن لهم البدء بحياة جديدة والاستقرار هناك .
في تلك الفترة وتحديدا في منتصف عام 2006 تم تهديد الابن الأكبر محمد ( أبو أيمن ) من قبل الميليشيا الطائفية المسلحة بالكتابة على باب المنزل ، لتكون سببا في الإسراع بإجراءات السفر لتغادر ست عوائل العراق بتاريخ 14/8/2006 وهم كل من الحاج أبو محمد وزوجته الحاجة أم محمد وعائلة أبو أيمن وعائلة حمزة وعائلة عطا وعائلة أيسر أحد أبناء أبو أيمن وعائلة غسان البرة زوج ابنة أبو أيمن ، وبطبيعة الحال قد تكلفوا في هذه الرحلة الشاقة مبالغ كبيرة جدا ليصلوا إلى تايلند بتاريخ 16/8/2006 .
ومن باب الشيء بالشيء يذكر والحديث ذو شجون ، أرى لزاما أن أذكر الحاجة أم محمد وفقها الله لكل خير فقد كان لها همة عالية منقطعة النظير من خلال حضورها المتواصل والمستمر والمتميز لصلاة قيام الليل والتهجد لا سيما في ليالي العشر الأواخر من رمضان في عقد التسعينات وما بعده ، فرغم كبر سنها ومعاناتها من بعض الأمراض إلا أنها كانت في مقدمة الحاضرات في مصلى النساء في جامع القدس نسأل الله أن يحفظه ومصليه من كل سوء ، ونسأله أن يثبت ويحفظ الحاجة أم محمد ويزيدها إيمانا وطاعة وصبرا .
وصلت العوائل الستة إلى تايلند بتاريخ 16/8/2006 ومن ثم تقديم الأوراق الخاصة بهم في مكتب الأمم المتحدة ليتم إعادة توطينهم في دولة أخرى وكانوا يظنون أن هذه العملية لا تستغرق أكثر من سنة ، لكن جاءت الرياح بما لا تشتهي السفن حيث بدأت مرحلة جديدة من المتاعب والأمور التي ليست في الحسبان ، وفعلا تم التسجيل في الأمم المتحدة ليعطى لهم موعدا للمقابلة ثم تم تأجيله ثم تمت مقابلتهم ليقال لهم انتظروا استحصال الموافقات لمدة ثلاثة أشهر والتي استمرت لقرابة تسعة أشهر حتى أخبروا بالموافقة .
في تلك الفترة وبعد أن تم صرف مبالغ كبيرة فتح الأخوة هناك محل لبيع الملابس كي يعينهم ولو قليلا على المعيشة هناك لحين انفراج الأمور الخاصة بهم والانتهاء من إجراءات السفر وعدم الحاجة لأي جهة أخرى ، إلا أن الأمور أيضا لم تكن على أتم حال ولم يوفقوا فيه وخسروا بدلا من الربح والمعونة ، اضطروا لترك هذا المحل .
وبعد ستة أشهر من حصولهم على الإقامة الرسمية في تايلند أخبرتهم الأمم المتحدة بأنها لا تستطيع ضمان وضعهم القانوني في البلاد ولا حمايتهم فيما لو تخلفوا عن الإقامة ، وتبين أن بطاقة اللجوء الصادرة من الأمم المتحدة لا تسمن ولا تغني من جوع ، ليعاد عليهم مشهد القلق والخوف وعدم الاستقرار من خلال التهرب من أي شرطي يرونه ولو عرضا خوفا من المسائلة القانونية ، وهذا اضطرهم لمغادرة تايلند إلى دولة مجاورة لتجديد الإقامة وفعلا سافروا مرتين إلى بورما الحدودية والتي تبعد أكثر من ألف كيلومتر عن بانكوك ، إلا أن القلق والجهد النفسي والخوف من عدم السماح لهم بالدخول كان المخيم على الأجواء في تلك اللحظات فما الذي سيفعلونه في بورما لو حصل ذلك فعلا !!؟؟ .
وبعد خسارة المحل الأول وتركه حاولوا مرة أخرى فتح محلا أخر عسى أن يتم تعويض ما فقدوه ليقعوا في نفس المشكلة من الخسارة وعدم الاستمرار ، ومكثوا أكثر من سنة ونصف بدون عمل ولا يخفى على أي أحد المصرف الذي تحتاجه تلك العوائل الست ، حتى أنهم في كثير من الأحيان تعرضوا لرجال الشرطة والمسائلة عن الإقامة فيقعوا في مواقف حرجة للغاية ما اضطرهم لدفع مبالغ كبيرة كي يخلو سبيلهم .
وعندما كانوا يراجعوا بشكل مستمر الأمم المتحدة ويطلبوا منهم الاستعجال بإجراءات السفر كان الجواب ببرود أعصاب : لابد من الانتظار ، حتى أصبحوا في موضع حرج للغاية لا يستطيعوا الرجوع والاستمرار على هذه الحالة فيه من العصعوبات والتعقيدات ما الله به عليم ، وفي تلك اللحظات كانوا يصبروا أنفسهم عندما يفكروا بأهلهم وأقربائهم ومعارفهم في مخيمات التنف والوليد والهول ، ومن لازال محاصرا في العراق ويعانون الأمرين في ظل صعوبة في الظروف الأمنية والمعيشية وتعقيدات الأمور الحياتية اليومية ومستلزماتها ، حتى راودهم مرات عديدة التفكير بالرجوع إلى بغداد لما رأوه وتعايشوا معه من مخاطرة وعناء ومشقة الاستمرار هنالك ، حتى أصبحت تلك المرحلة في تايلند من أعقد وأعصب الفترات من حياتهم .
لكن كان الصبر له الأثر في ذلك حتى قاموا بمقابلة لجنة إعادة التوطين وبعد انتظار قرابة خمسة شهور تم إخبارهم بأن ملفهم أضيف إلى السفارة النيوزلندية لتتم التخفيف عنهم وتزيل الهموم التي أصابتهم والمشقة ، لتبدأ مرحلة جديدة وهي الانتظار وبعد معاناة سنة كاملة قابلوا في السفارة وأخبروهم بأن الرد سيكون ما بين ( 3-5 شهور ) هذا جعلهم يمروا بفترة قلق واضطراب كبيرين وبدأت الحسابات والخوف من الرفض إلا أن الأمور تيسرت ، وقد حمدوا الله عز وجل على تسهيلها ، حتى يقول لنا الأخ والعم أبو أيمن كم عانينا في العراق وسجنا ومررنا بظروف صعبة لكن لم أر ظرفا قاسيا مثلما رأينا في تايلند .
والحق يقال وشهادتنا على هذه العائلة بحسن تعاونهم ومساعدتهم في العديد من القضايا الخاصة والعامة بعضها نعلمه وكثير منه لا نعلمه ، لكن هي تجربة مريرة بكل المقاييس وهو نموذج مصغر للعديد من العائلات الفلسطينية التي عانت الغربة والشتات والتهجير حتى ضاقت بنا الأرض بما رحبت وأصبح كل جزء من العائلة في بلد أو مكان .
هذه العائلة التي لها تاريخ مشرق ومواقف تسجل لهم لم يكونوا بمنأى عن ما يقاسيه معظم فلسطينيي العراق من البعد عن الأقارب إلا أنهم أوفر حظا لتجمع عدد منهم في نيوزيلندا حيث التم شملهم من شقيقهم أحمد الجياب ( أبو رامي ) حيث قد وصل إلى نيوزيلندا بتاريخ 27/1/2009 كل من أيسر محمد الجياب وعائلته ( زوجته ) وغسان البرة وعائلته ( زوجته وتوأمين ) وكذلك وصل بتاريخ 29/1/2009 كل من حمزة الجياب وعائلته ( زوجته وثلاث بنات وولد ) وعطا الجياب وعائلته ( زوجته وولد وبنت ) ، ليبقى الحاج أبو محمد وزوجته وولده الأكبر أبو أيمن وعائلته بانتظار الانتهاء من إجراءات السفر والمغادرة لتبدأ مرحلة جديدة في النصف الجنوبي من الأرض في نيوزيلندا ويبقى شوقهم وحنينهم إلى أرضهم وبلدهم المغتصب المحتل من قبل اليهود راسخا وإن باعدتهم الأميال وتغلبت عليهم الصعاب وفرقتهم المحن .
تلك العائلة التي سيكون مستقرهم الجديد في نيوزيلندا لهم العديد من الأقرباء في المخيمات الصحراوية وبغداد وبعض الدول الأوربية والعربية ، فنسأل الله أن يحفظهم ويثبتهم على الحق ويسدد خطاهم ويفرج عن جميع الفلسطينيين عموما وأهلنا في العراق والمخيمات خصوصا إنه ولي ذلك والقادر عليه .
25/2/2009
أيمن الشعبان
باحث متخصص بشأن الفلسطينيين في العراق