إيران بين "الخاتميّة" و"النجاديّة"

بواسطة محمد أبو رمان قراءة 395

إيران بين "الخاتميّة" و"النجاديّة"

 محمد أبو رمان

تأتي الذكرى الثامنة والعشرون للثورة الإسلامية في إيران (1979) في الوقت الذي يشعر فيه حكام طهران وحرّاس الثورة بنشوة الانتصار والتقدم باتجاه مشروعهم القومي والتاريخي في التحول نحو قوة إقليمية تمتلك قدرة عسكرية معتبرة وحضوراً دولياً واضحاً. لكن السؤال: إلى أي مدى يمكن اعتبار "الصعود الإيراني" ثابت ومطّرداً، وليس مرحلة عابرة سرعان ما تتهاوى بها القواعد المهتزة التي بنيت عليها؟

تكمن المفارقة الحقيقية أنّ الفقراء والعمال والطبقات الكادحة الذين جاؤوا بنجاد إلى الحكم عام 2005 (كما جاءوا سابقاً بالخميني)، لم يأتوا به لبرنامجه السياسي واتجاهه الفكري المحافظ والمتشدد، بل لأنه الخيار الوحيد الأقرب إلى الفقراء وهمومهم، ولأنّ الخيار الآخر الأقوى (رفسنجاني) قد جُرِّب سابقاً، ولم يغيّر شيئاً في الواقع الإيراني، على الرغم من براجماتيته الشديدة ومرونته في الكثير من القضايا، فكثير من الإيرانيين يعتبرونه حليفاً لـ"البازار" ورجال الاعمال، على خلاف نجاد ابن الطبقات الفقيرة، الذي لم ينفصل عنهم، وعُرف بنظافة اليد حين كان رئيساً لبلدية طهران.

نجاد كان خياراً اضطرارياً للإيرانيين. فلم يكن إخفاق المشروع الإصلاحي انتصاراً للمحافظين والحرس القديم بقدر ما كان تجذيراً للأزمات البنيوية التي تعاني منها الجمهورية الإسلامية، تلك الأزمات التي لا تقف عند الجانب الاقتصادي بل تتعدّاه إلى الجوانب الأخرى الاجتماعية والثقافية والسياسية.

ثمة ضرورة منهجية حقيقية للوقوف عند أسباب إخفاق المشروع الإصلاحي لما لذلك من قدرة تفسيرية تساعد على بناء مقاربة أولية لمستقبل الثورة الإيرانية والخروج من إطار اللحظة الراهنة في قراءة المشهد إلى العوامل المختلفة التي تساهم في صوغه والتأثير عليه.

فقد جاء خاتمي إلى الحكم عام 1997 ليشكّل عباءة جامعة للتيار الإصلاحي الذي يتكوّن من شباب الجامعات والمثقفين اليساريين والليبراليين ورجال الدين الإصلاحيين وشريحة واسعة من أبناء الطبقة الوسطى والفقيرة الذين أضرّ حكم رجال الدين بمصالحهم. فوجد الجميع في رجل الدين الإصلاحي، صاحب الميول الليبرالية المعتدلة الواضحة، رمزاً يمكن أن يلتفوا حوله، على الرغم من الخلافات الواسعة بينهم.

مشروع خاتمي كان مفتاحاً للخروج الهادئ- السلمي والتدريجي من الاحتقان الداخلي الكبير؛ فعلى الصعيد الاقثصادي كان الوضع في غاية السوء، من حيث ارتفاع نسبة الفقر والبطالة والتضخم والشعور بالحرمان الاجتماعي والفجوة الطبقية الهائلة ليس بين نخبة السياسيين والاقتصاديين والعامة فقط، يتوازى ذلك مع إخفاق ذريع في التنمية الاقتصادية يظهر بوضوح من خلال الاعتماد الكامل على النفط (80% من إيراد الدولة من الصادرات)، في ظل أزمة متنامية بين المركز والأطراف (التي تعاني الفقر والتهميش).

على المستوى الثقافي والاجتماعي؛ فإنّ الشباب والمثقفين الذين جاؤوا بالخميني والثورة لتكون لهم طريق الخلاص أصبحوا هم من يحملون دعوة الخروج من "القبضة الحديدية" لرجال الدين، التي أدّت إلى نتائج عكسية تماماً أهمها ارتفاع كبير في نسبة المخدرات والدعارة والإيدز وازدهار العالم الاجتماعي السفلي والسري بين الشباب المتأثرين بثقافة الغرب والعولمة، في ظل حالة من الاحتقان العام في البلاد.

على الرغم من الانتصارات التي حققها الإصلاحيون في انتخابات الرئاسة عامي 1997 و2001 والانتخابات النيابية عام 2000، وبروز الصحف المعارضة والحركات الطلابية وتنامي التيار الإصلاحي وصعود حركة الاحتجاج على الوضع العام، وعلى الرغم كذلك من التحولات التي بدأ يرسمها خاتمي في الواقع الإيراني، إلاّ أنّ المحافظين ورجال الدين تمكّنوا من القيام بهجوم مضاد واسع من خلال المؤسسات السياسية والدستورية التي كانوا لايزالون يمسكون بها (مجلس صيانة الدستور، مرشد الجمهورية، القضاء، الأمن..).

بدأت عملية تضييق واسعة النطاق ضد الإصلاحيين شملت إغلاق صحف ومحاكمة صحافيين وكتاب، وصولاً إلى عملية إبعاد جماعي للمرشحين الإصلاحيين في الانتخابات النيابية عام 2004، مما أدى إلى برلمان يحكمه المحافظون، ويشكِّل عقبة جديدة أمام الرئيس خاتمي، وصولاً إلى الانتخابات الرئاسية الأخيرة التي أطاحت بالإصلاحيين بعد أن أنهى خاتمي حقه الدستوري (ولايتين) في الرئاسة الإيرانية.

أحد أبرز الأسباب في خسارة الإصلاحيين للانتخابات الرئاسية يتمثل بعدم وجود خيار بديل لديهم مكافئ لخاتمي، لكن هنالك أسباباً أخرى عديدة في مقدمتها اتهام شرائح واسعة من التيار الإصلاحي لخاتمي بالضعف واللين المبالغ في الرد على المحافظين وتغولهم على الدولة، مما انعكس على التيار الإصلاحي، وأدّى إلى تفكّكه وانقسامه على نفسه. كما أنّه -وعلى الرغم من الانفتاح الاقتصادي الذي قام به خاتمي- إلاّ أنّ الأوضاع العامة بقيت سيئة ولم تتحسّن.

على الجهة المقابلة، لم تؤتِ كل الخطوات التصالحية مع الغرب، التي قام بها خاتمي، نتائج ملموسة وكبيرة. قد تكون العلاقة مع أوروبا والمحيط العربي شهدت انفراجاً وتحسناً واضحاً إلاّ أنّ الولايات المتحدة استمرت في حصارها لإيران والضغط عليها ووضعها في محور الشر ورعاية الإرهاب، كما أصرّت الإدارة الأمريكية - متجاهلة التعاون الإيراني الواسع معها- على عدم الاعتراف بإيران قوة إقليمية في المنطقة، مما ارتد سلبياً على خاتمي وشعبيته الداخلية.

ما أريد استخلاصه: أنّ الشروط الموضوعية التي وُلد في رحمها تيار الإصلاح لا تزال قائمة، بل أكثر إلحاحاً. فما حصل هو عدم نجاح خاتمي وفريقه على مواجهتها، وقد ورث نجاد هذه التركة الثقيلة، لكنه أعاد توجيه السياسة العامة في التعامل معها بذكاء شديد، بحيث استثمر المناخ الدولي والإقليمي المواتي.

واستطاع نجاد مخاطبة المشاعر القومية الفارسية لدى الإيرانيين واستفزاز مشاعرهم الوطنية في مواجهة الغرب، كما أعاد البريق إلى الثورة الإيرانية (في الخارج) بتحديه الإدارة الأميركية والحركة الصهيونية، ولو بالخطابات النارية فقط، وساهم حليف إيران (حزب الله) في تحسين صورتها في المنطقة، على الرغم من سياساتها الطائفية ودورها - المثير لاستهجان الشارع العربي- في العراق.

قفز نجاد بالجمهورية الإيرانية خطوات إلى الأمام لتصبح قوة إقليمية، لكنه في الوقت نفسه لا يزال يهرب من استحقاقات كبيرة تتراكم (بخاصة على صعيد الوضع الداخلي)؛ إذ يزداد الوضع الاقتصادي سوءاً، والفجوة الطبقية أصبحت حادّة، مع شعور متجّذر بالحرمان الاجتماعي. وإذا كان ارتفاع أسعار النفط يشكل رافعة للاقتصاد الإيراني ولقوة البلاد الخارجية، فإنّ هذا السلاح ربما يرتد عكسياً إذا استطاعت الولايات المتحدة الحدّ منه، ولو من خلال عقوبات اقتصادية صارمة، مما يؤدي إلى تدهور الأوضاع الاقتصادية، وضعف قدرة إيران على تمويل ودعم حلفائها في المنطقة.

على الجهة الأخرى، تمكّن نجاد من استنهاض وحشد الطبقة المحافظة والمتدينة من المجتمع الإيراني وراءه، وقام بعملية تطهير في المؤسسات التعليمية والإعلامية ضد الإصلاحيين (الذين يتهمهم بالعمالة للغرب) لكنّ الاحتقان الاجتماعي وحدة الاستقطاب الثقافي تتجّذر وتزيد، وتكمن الخطورة أنّ طبقة الشباب والطلاب والمثقفين منحازون إلى الإصلاح والخيار العلماني والتحرر الاجتماعي والثقافي.

لا يبدو الوضع على المستوى الخارجي مثالياً، أيضاً، فحتى لو تمكنت إيران من تطوير قدراتها النووية والتحول نحو قوة إقليمية وبناء حلفاء إقليميين فإنها في المقابل محاصرة بمحيط يشعر بالقلق والتهديد منها، وتحظى بعداء أمريكي خاص، وتطبيق جديد لسياسة الاحتواء والمحاور، وهي إستراتيجية تقوم على الإرهاق والاستنزاف والصراع البارد والحروب بالوكالة، وكلها مفاهيم إستراتيجية تتطلب دولة قوية اقتصادياً، قبل أن تكون قوية عسكرياً، وتتمتع بإجماع داخلي، وقوة ناعمة (ثقافياً وإعلامياً) يبدو جلياً أن نهج الرئيس نجاد يفتقدها تماماً مع سياساته الداخلية المتشددة.

في سياق هذه القراءة المركّبة ثمة سؤال ملح: هل يشعر الإيرانيون بجدوى الثورة، ويحتفلون بذكراها أم أنّ المعيار الوحيد للنجاح أنّها أفضل من أيام الشاه أو ربما يرى البعض أنّها أسوأ؟!



مقالات ذات صلة