الثورة الإيرانية.. من التصدير إلى الوأد بأيدي الحوزة الشيعية
عمرو نبيل
وضعت التقارير التي تناولت الشأن الإيراني، قبيل أزمة الانتخابات الرئاسية الإيرانية، إيران في حجم سياسي أكبر من قدراتها الواقعية، واقتصر الحديث عن إيران – حينئذ – على وضعها الدولي والخارجي بوصفها قوة إقليمية، بل ودولية في بعض الأحيان، وأظهرت هذه التقارير النظام الإيراني على أنه نظام صلب ومتماسك داخليًا، ولا يواجه سوى التحديات الخارجية.
وكان آخر هذه التقارير تقرير كشف عن رصد الحرس الثوري الإيراني لمليارات الدولارات لتأسيس "حزب الله العالمي" انطلاقًا من القاهرة، كنواة لتوسيع شبكة الخلايا والتنظيمات العاملة لحساب إيران، لتنتشر في دول مثل مصر والمغرب والبحرين والكويت واليمن وسوريا وتونس وموريتانيا والأردن، وذلك لاختراق البلاد السنية، وتأصيل المد الشيعي فيها، وهو ما يمكنها من الضغط على النظم الإقليمية من ناحية، كما تكون قريبة من المصالح الأمريكية بالمنطقة من ناحية أخرى، ما يعني أن خيار استخدام القوة ضد إيران سيكون محفوفًا بالمخاطر.
غير أن الأمر أنقلب رأسًا على عقب مع تفجر أزمة الانتخابات الإيرانية، وعلى الرغم من أن الصراع الإيراني الداخلي يبدو في ظاهره، صراعًا بين المحافظين والإصلاحيين، إلا أن الأحداث التي شهدتها الساحة السياسية الإيرانية، في الآونة الأخيرة، كشفت حقيقة هذا الصراع، وأنه ليس صراعًا بين المحافظين والإصلاحيين فحسب، بل صراع داخل أروقة المحافظين، وداخل الحوزة الشيعية ذاتها، وهو الأمر الذي يحمل في طياته دلائل خطيرة، لا تمثل تهديدًا لمستقبل الرئيس الإيراني، أحمدي نجاد فحسب، بل تهدد مستقبل الثورة الإيرانية، وتكاد تنسف نظرية ولاية الفقيه برمتها، وإن كان ذلك – بالطبع – لن يكون على المدى القريب.
تصدع النظام الإيراني:
فعندما اندلعت الاحتجاجات الشعبية على فوز الرئيس نجاد، ومن ثمّ قامت قوات الباسيج بقمعها هدأت الأمور في الشارع الإيراني بعد فترة، فيما توالت التأكيدات بأن النظام الإيراني لن يهتز ولن يتأثر بمثل هذه التظاهرات، خاصةً وأن منصب الرئيس في النظام الإيراني لا يمثل السلطة الحقيقة، التي ينفرد بها المرشد الأعلى، علي خامنئي، غير أن هذا الهدوء الذي ساد الشارع الإيراني أخفى في سكناته حالة من الغيان السياسي، الذي طال جميع مؤسسات الدولة الإيرانية، بما فيها المؤسسات الأمنية التي تمثل صلب النظام الإيراني.
فقد قدم وزير الثقافة والإرشاد الإيراني، محمد حسين سفار هاراندي استقالته من الحكومة، وهو الأمر الذي هدد بفقدان حكومة نجاد لنصابها الدستوري، وعرّضها لأزمة ثقة في البرلمان، خاصةً مع دعوة كتلة الإصلاحيين في البرلمان الإيراني إلى حجب الثقة عن نجاد لما تواجهه حكومته من أزمات.
ولم تقتصر الأزمة السياسية الإيرانية على الحكومة والبرلمان، بل امتدت إلى أجهزة الاستخبارات الإيرانية، حيث أقال نجاد وزير الاستخبارات، غلام حسين محسني أجني، إضافةً إلى 20 من كبار المسئولين في وزارة الاستخبارات، بينهم اثنان من مساعدي وزير الاستخبارات، فيما كشفت وسائل إعلام إيرانية عن مشادة كلامية وقعت بين أجني ونجاد خلال اجتماع للحكومة.
ولم يسلم الحرس الثوري الإيراني، الذي يضم ما يقرب من 120 ألف رجل، ويمثل الدعامة الرئيسية للنظام الإيراني، من الانقسامات؛ فعناصر الحرس الثوري ليسوا – كما يعتقد الكثير – كتلة خالصة من المحافظين، بل هناك إصلاحيون ضمن عناصر الحرس الثوري، كان لهم دور هام في دعم الرئيس الإصلاحي السابق محمد خاتمي، كما أنه وحتى داخل محافظي الحرس الثوري، فهناك انقسام، خاصةً وأن الرئيس السابق للحرس الثوري، محسن رضائي كان أحد منافسي نجاد في الانتخبات الرئاسية، وهو – بالطبع – له من مؤيديه داخل الحرس الثوري، ذلك إضافة إلى أن عناصر الحرس الثوري الحاليين يصعب فصلهم عن الأحداث السياسية، نظرًا لأن من بينهم من التحق بالحرس الثوري، لا لأهدافٍ ثورية، ولكن لأهدافٍ سياسية، وسعيًا وراء السلطة والمال، خاصةً في ظل سوء الأوضاع في إيران، وتفشي البطالة، ولعل هذا الانقسام داخل صفوف الحرس هو الذي أدى إلى تراجع دوره في قمع الاحتجاجات الإيرانية، هذا الدور الذي تكفلت به قوات الباسيج، التي تحظى بثقة أكبر من النظام الإيراني.
ثورة على الثورة الإيرانية:
إن ما تشهده إيران حاليًا على جميع الأصعدة، بدءًا من احتجاجات الشارع إلى الانشقاقات داخل مؤسسات الدولة، إنما يمثل ثورة على الثورة الإيرانية، فالثورة الإيرانية قامت في الأساس لتخليص الشعب الإيراني مما كان يعانية في ظل طغيان نظام الشاه من الفقر والذل والمهانة والتمييز والتهميش، ولم تكن ثورة الشعب الإيراني في أساسها لغرض ديني، بل كل ما في الأمر أن الشعب الإيراني وجد في المبادئ الدينية، التي تنادي بالمساواة والعدل... إلخ، مبتغاه في الخلاص من استبداد نظام الشاه.
ونظرًا لأن الحوزة الشيعية هي التي تولت تنظيم الشعب الإيراني، الساعي للتحرر، وقامت بقيادته وتوجيهه، فقد حصدت هذه الحوزة ثمار ثورة الشعب الإيراني وثمار جهده وتضحياته ودمائه، وصبغت الثورة بالصبغة الأيديولوجية، في ظل ثقة الشعب الإيراني في رجال الدين إذا ما قورنوا بالشاه وأعوانه، الذين يدينون بالولاء للغرب على حساب مصالح الشعب.
غير أنه وبعد مرور السنين على الثورة فوجئ الشعب الإيراني بأنه لم يبارح النقطة التي بدأ منها ثورته، فعلى الصعيد الاقتصادي لم يحقق الشعب الإيراني أي خطوات تنموية، بل مازال يعاني من مشاكل الفقر والبطالة، وعلى الصعيد الاجتماعي تحول المجتمع الإيراني إلى مجتمع طبقي كما كان عليه الحال وقت الشاه، فقد استبدلت مناصب الشاه وأعوانه بمناصب دينية للمرشد وأتباعه، وعلى الصعيد السياسي يزج به حكامه في صراعات – وإن كانت شكلية - مع القاصي والداني، لا تزيده إلا عزلة، ولا تساعده على حل مشاكله، بل تفاقمها، في الوقت الذي تصب هذه الصراعات في صالح النظام، حيث يستخدمها في استعراض المزيد من المواقف البطولية الزائفة.
وجاءت الانتخابات الرئاسية الإيرانية – المشكوك في نزاهتها -، والتي تنسم فيها الشعب الإيراني الخلاص، وعلق عليها الآمال، غير أن رياح نتائجها جاءت بما لا تشتهي سفن الشعب الإيراني، فإذا بالتجاوزات، التي شابت العملية الانتخابية تتكشف من كل اتجاه، الأمر الذي أشعل فتيل الثورة على الثورة الإيرانية، التي قام بها الشعب الإيراني، فيما جنى ثمارها غيره.
اهتزاز رأس الهرم:
إن الصراع السياسي الحالي داخل إيران ليس مجرد صراع على منصب الرئاسة "الشكلي" في النظام الإيراني بين نجاد ومير حسين موسوي، أو بين الإصلاحيين والمحافظين، بل أنه صراع على رأس هرم السلطة في إيران، هذا الهرم الذي ظل ثابتًا على مدار عشرين عامًا، منذ تولى خامنئي السلطة في عام 1989، غير أن هذا الهرم اهتز، خلال الأزمة الحالية، وذلك بخروج قطط "قم" السمان بعد طول غياب، مكشرين لخامنئي عن أنيابهم.
فقد صرح دبلوماسي إيراني منشق بأن رجال الدين في "قم"، بزعامة "آية الله صانعي" و"آية الله منتظري"، قد اتخذوا قرارًا بالانتفاض على ولاية الفقيه الممثلة في علي خامنئي، وأن ما جرى في إيران كان مخططًا له، ولم يكن معركة من أجل الرئاسة، وإنما حركة شعبية بدعم رجال "قم" لقلب ولاية الفقيه، خاصةً وأن منتظري، الذي كان نائبًا للخميني قبل عزله عام 1988 للتمهيد لتنصيب خامنئي، عارض بصورة علنية الانتخابات الرئاسية وحكم خامنئي.
كما أفادت تقارير بأن هاشمي رفسنجاني، الرئيس الإيراني الأسبق، ورئيس مجلس تشخيص مصلحة النظام، وهو هيئة دستورية لها صلاحيات تعيين أو عزل المرشد الأعلى، يسعى إلى تشكيل ائتلاف من المراجع الدينية في "قم" ضد خامنئي، وكان رافسنجاني، الذي يوصف بـ "المنافس العنديد لخامنئي" قد صرح في علنًا في خطبة الجمعة بطهران بأن ثقة الإيرانيين في النظام الإيراني قد اهتزت، فيما قال الرئيس الإيراني السابق، محمد خاتمي "في الوضع الراهن، لم يتعرض الجزء الجمهوري (من إيران) للتحدي فحسب وإنما تم خدش الجزء الإسلامي منها أيضًا".
والمثير في الأمر أن الخلافات السياسية في إيران قد نشبت حتى بين المتحالفين سياسيًا وذوي المصالح المشتركة، فقد كشف مصادر إيرانية أن خامنئي منزعج ومستاء من نجاد بسبب طريقة تعامل نجاد مع رسالة خامنئي بخصوص إقالة نائب نجاد الأول وصهره، إسفنديار رحيم مشائي، وأن خامنئي شعر بالصدمة ولم يتصور أن يمتنع نجاد عن إطاعة أمر علني للمرشد لمدة أسبوع، وأن خامنئي والمقربين منه قرروا وضع تحركات نجاد تحت المجهر خلال الفترة المقبلة، غير أن نجاد قرر، بعد استقالة مشائي، تعينه مستشارًا له ومديرًا لمكتبه، في تحدٍ واضح لخامنئي، وهو الأمر الذي دفع بعض المحافظين لمطالبة خامنئي برفع حمايته عن نجاد لمساءلته على قراراته وسياساته في ولايته الثانية ما يعني إمكانية إقالته.
الحوزة تأد الثورة:
إن المتتبع للخط السياسي للثورة الإيرانية يجد أن هذه الثورة قد وئدت على أيدي الحوزة الشيعية ذاتها، وذلك على الرغم من محاولات النظام الإيراني المستمرة لتصدير الثورة، حيث أن هذه الحوزة التي أمسكت بزمام الثورة الإيرانية منذ نشأتها، قد غلّبت الجانب السياسي على الجانب الديني للثورة وللنظام شيئًا فشيئًا، حتى أضحى النظام الإيراني نموذجًا للديكتاتورية المخبأة في العباءة الدينية.
فقد لجأ النظام الإيراني، ومنذ عهد الخميني إلى إقصاء رجال الدين، الذي يبدون أي معارضة للمرشد، حيث تم سحب الدعم المالي والمعنوي عنهم، وبعدما كانت الحوزة الشيعية مؤسسة مستقلة، وذات موارد مالية مستقلة عن طريق الضرائب الدينية، أصبحت، ومنذ عهد خامنئي تابعة كليًا للحكومة، كي تكون تحت سيطرة النظام السياسي، كما تم إنشاء مركز لإدارة الحوزات الشيعية يخضع لإشراف مباشر من قبل خامنئي، وكذلك تم إنشاء محكمة خاصة لرجال الدين بإجراءات خاصة، وتتبعها سجون خاصة بها في جميع المدن الإيرانية، ولا تتبع الحكومة، بل يرأسها رئيس معين من قبل خامنئي.
هذا، وعلى الرغم من الزخم الذي ثار حول محاولات الغرب لإضعاف إيران حتى لا تكون قوة إقليمية، والحديث عن إسقاط النظام الإيراني، إلا أنه يتضح من خلال الحقائق، التي أظهراتها الأزمة الإيرانية الحالية، وما زالت تتكشف واحدةً بعد الأخرى، أن هذا النظام الإيراني ليس نظامًا دينيًا، وإنما هو نظام براجماتي يتعامل بلغة المصالح البحتة ويعرف جيدًا كيف يقيس موازين القوى من حوله، ونظام كهذا ليس بالسذاجة التي تدفعه للعداء مع الغرب ولا حتى الشرق بل هو نظام يقيم علاقاته على أساس القوة والمصلحة، ويعرف جيدًا مدى قوته ويتحرك في إطارها، ولذلك لم نجد أي تحرك واقي يتناسب مع التصريحات الإيرانية النارية المتكررة، فهذه التصريحات لإطراب الشعوب لكسب تعاطفها، فهذا النظام الشيعي لم يتحرك واقعيًا إلا ضد السنة داخل إيران وخارجها، فلم يحارب إلا العراق، ولم يمكر إلا بالدول السنية.
وإذا كانت الحوزة الشيعية قد استغلت معاناة الشعب الإيراني على أيدي الشاه واستخدمت ثورته لصالحها لا لصالح الشعب الإيراني، فإن الأحداث الحالية تشير إلى أن هذه الحوزة، والتي سعت لتصدير الثورة، ستكون على يديها لا يدي غيرها وأد هذه الثورة.