حركة صوفية تقيم دولة شيعية

بواسطة مجلة البيان قراءة 869
حركة صوفية تقيم دولة شيعية
حركة صوفية تقيم دولة شيعية

محمد فتحي النادي

إن الحركات الصوفية يغلب على الظن أنها حركات لا تنغمس بالسياسة، بل تتبرأ منها، وتنعزل عن الدنيا ومفاتنا وملذاتها، لكنَّ الراصد لهذه الحركات في التاريخ الإسلامي ليَلْحظ أن بعض الحركات الصوفية قد خرجت عن المألوف عنها من دعوات الزهد وإصلاح النفس إلى الانغماس في سياسة الدنيا بالقوة، والدخول في حروب وصراعات، وفي بعض الأحيان فرض رؤيتها على الناس فرضاً.

ومن الأمثلة على ذلك في العصر الحديث الدولة المهدية السودانية التي أقامتها الحركة المهدية الصوفية، والدولة السنوسية في ليبيا التي انبنت على أكتاف الحركة السنوسية الصوفية.

وإذا رجعنا بذاكرة التاريخ قليلاً لوجدنا حركة صوفية كان لها أثر كبير في العالم الإسلامي، هذا الأثر امتد في المكان والزمان.

هذه الحركة هي الحركة الصفوية التي انتسبت إلى صفيِّ الدين الأردبيلي (650 - 735هـ/ 1252 - 1334م).

وهو أبو الفتح إسحاق بن أمين الدين جبـرائيل الأردبيلي، الذي يقال: إنه ينتهي نسبه إلى حمزة ابن الإمام موسى الكاظم.

هذا الرجل ينسب إليه سلاطين الدولة الصفوية الذين حولوا إيران السنية إلى دولة شيعية[1].

وقد كان له عدد كبير من الأتباع والمريدين الذين نشروا دعوته في أماكن شاسعة ومتفرقة من العالم الإسلامي.

وهذا الرجل اختلف في مذهبه الاعتقادي والفقهي؛ فمن قائل: إنه سني العقيدة شافعي المذهب، ومن قائل بأنه إنما اتخذ التقية ديناً له.

ومن النصوص التي ترجح كونه سنيَّ الاعتقاد قول العصامي المكي: «كان الشيخ صفي الدين صاحب زاوية في أردبيل، وله سلسلة في المشايخ أخذ عن الشيخ زاهد الكيلاني، وتنتهي بوسائط إلى الإمام حجة الإسلام أحمد الغزالي»[2].

لكن الدكتور الصلابي يرى أنه أظهر التسنن وأبطن التشيع من باب التقية، فقال: «استطاع الشيخ صفي الدين عن طريق إحدى الفرق التي تزعَّمها أن يشق طريقه في المجتمع الإيراني، كما استطاع أن يكسب تأييد ومساندة الكثيرين من الإيرانيين وهو ما أدى إلى تحـول هذه الفرقة إلى الدعوة للمذهب الشيعي؛ حيث أشيع أن الشيخ صفي الدين وأولاده ينتمون إلى علي بن أبي طالب رضي الله عنه، ومن ثَمَّ لهم الحق في المطالبة بالحكم.

وكان صفي الدين قد لجأ إلى التقية؛ إذ كان مظهره يوحي بأنه سني الاتجاه، بل إنه من أتباع المذهب الشافعي، ولما تمهدت السبل أمام هذه الدعوة الشيعية أعلن أحد أحفاده الشاه إسماعيل الدعوة الشيعية؛ بل إن السلطان حيدر أكد صلة نسبه بالإمام موسى الكاظم، ومن ثَمَّ أصبحت الدولة الصفوية في إيران تعد نفسها من آل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم»[3].

وقد ذهب الكاتب عمر خليفة راشد إلى أن صفي الدين كان باطنيّاً، فقال: «ولقب (الصفوي) نسبة إلى الشيخ صفي الدين الأردبيلي، الذي كان يتزعَّم طريقة صوفية باطنية متطرفة، تتبنى الكثير من مبادئ التشيع الباطني المغالي»[4].

والذي أميل إليه أنه كان على مذهب أهل السنة والجماعة؛ إذ لو كان شيعيّاً لانتشر ذلك عنه؛ إذ إنه لن يستطيع كتمان مذهبه عن أتباعه ومريديه، وقد ذاع صيته في العالم الإسلامي، وقد مدحه هو وأولاده قاضي القضاة مجير الدين العليمي الحنبلي، فقال حين ترجم لحفيده علاء الدين علي: «الشيخ الصالح العابد علاء الدين أبو الحسن علي، ابن الشيخ العابد المسلك صدر الدين، ابن الشيخ الصالح صفي الدين الأردبيلي العجمي الزاهد العابد الحجة، شيخ الصوفية، وابن شيخهم، وكان والده من أعيان الصالحين ببلده. قدم إلى دمشق في سنة ثلاثين وثمان مائة قاصداً الحج، ومعه خلق كثير من أصحابه وأتباعه، وجاور بمكة، ثم قدم إلى بيت المقدس.

ويقال: إنه شريف علوي.

توفي بالقدس الشريف في أواخر جمادى الأولى سنة اثنتين وثلاثين وثمان مائة عن نحو ستين سنة، ودفن بباب الرحمة بلصق سور المسجد، وكان يوماً مشهوداً لدفنه، وبنى أصحابه على قبره قبة كبيرة، وهي مشهورة تقصد للزيارة»[5].

وقد ترجم له العليمي في أعيان الشافعية.

وقد حدد البعض بداية التشيع من حفيد صفي الدين الخوجة علي السابق ذكره، وهذا ما لا أميل إليه اعتماداً على الترجمة السابقة للعليمي[6].

أما الدكتور محمد بسام يوسف فيذهب إلى أن الشيخ إبراهيم ابن الخوجة علي قام «بتطوير طريقته الصوفية، ثم اعتناق المذهب الشيعي (الشيعة الإمامية)، وتحويل طريقته إلى طريقةٍ شيعيةٍ إمامية متعصِّبةٍ غالية.

 

وسار على دربه ابنه الأصغر (جنيد) الذي قُتِلَ في إحدى حروبه، فخلفه ابنه (حيدر) الذي لُقِّبَ بلقب (سلطان)، وأمر أتباعه بأن يضعوا على رؤوسهم (القلانس) من الجوخ الأحمر، تضم الواحدة منها اثنتي عشرة طيّةً، رمزاً للأئمَّة الاثني عشر عند الشيعة الإمامية، وقد قُتِلَ (حيدر)  - أيضاً - في إحدى حروب الثأر لوالده، وخلفه ابنه (إسماعيل)، الذي أعلن فيما بعد دولته الصفوية (في عام 1501م)، ووطَّد دعائمها، فامتدَّت من إيران إلى ما حولها، إلى أن وصلت بغداد»[7].

لكن الكاتب عمر خليفة راشد يذهب إلى أن جنيد بن إبراهيم (ت 861هـ)، هو أول من أعلن تبنِّيه المذهب الشيعي الاثنا عشري[8].

وقد حكم الدولة الصفوية تسعة ملوك:

«أولهم: الشاه إسماعيل الأول، كان مبدأ سلطنته سنة 906، وتوفي سنة 930.

وثانيهم: ابنه الشاه طهماسب قام بأمر السلطنة في 19 رجب سنة 930، وتوفي في منتصف صفر سنة 984.

وثالثهم: ابنه الشاه إسماعيل الثاني لم تطل مدته، توفي سنة 985.

ورابعهم: أخوه السلطان محمد المكفوف فقام بأمر السلطنة إلى سنة 996.

خامسهم: ثم فرض الأمر إلى ابنه الشاه عباس الأول، فقام به في نيف وأربعين سنة.

سادسهم: ابن ابنه الشاه صفي الأول وتوفي في 12 صفر سنة 1052.

سابعهم: ابنه الشاه عباس الثاني، وتوفي سنة 1078.

ثامنهم: ابنه الشاه صفي الثاني المعروف بالشاه سليمان، توفي سنة 1105.

تاسعهم: ابنه الشاه سلطان حسين، وهو آخر السلاطين الصفوية، أُخذ أسيراً، وحبس في سنة 1137 وقتل في محبسه في 22 محرم سنة 1140»[9].

والشاه إسماعيل الصفوي هو الذي أقر المذهب الشيعي الإمامي الاثنا عشري مذهباً رسميّاً للدولة، وفرضه بالقوة على الأغلبية الإيرانية الساحقة التي كانت تنتمي إلى مذهب أهل السنة والجماعة، وقتل في سبيل ذلك مئات الألوف من المسلمين من أهل السنة والجماعة.

وقد استقدم من جبل عامل في لبنان علماء الشيعة العرب، وولاهم مناصب القضاء والفتوى، وهم الذين حملوا على عاتقهم نشرَ المذهب الإمامي والتنظير له.

والدولة الصفوية نشأت مع بدايات الخلافة العثمانية، وكانت الصراعات بينهما على أشدها، وتقـاتل الطرفان، واستعان الصفويون بالأوروبيين لإشغال العثمانيين عنهم، الأمر الذي عطل الجهاد والتوسع ونشر دين الله في أوروبا.

وبذلك نرى أن التشيع نشأ في بلاد العرب، ورعاه العجم، ونظَّر له علماء الشيعة العرب.

وبإقامة الدولة الصفوية دولة شيعية في إيران في قلب العالم الإسلامي فإنهم بذلك قد فصلوا الجناحين السنيين عن بعضهما، وأصبحت إيران حاجزاً شيعيّاً بين الدول السنية.

وقد نشأت دول شيعية زيدية وإسماعيلية لكنها لم تكن بتأثير دولة الصفويين الإمامية.

وبإلقاء الضوء على تلك الدولة الصفوية نتعجب من مسألة ولاية الفقيه عند الخميني؛ فالدولة البويهية شيعية، والصفوية شيعية، لكن يبدو أن الخميني حاول أن يُحِل الفقهاء محل السياسيين في تولي مقاليد السلطة والحكم.

 


 

 


[1] انظر: الكنى والألقاب لعباس القمي، (2/424).

[2] سمط النجوم العوالي، (4/82).

[3] الدولة العثمانية، ص(177-178).

[4] مقالة: هذه هي الصفوية، موقع صيد الفوائد.

[5] تهذيب الأنس الجليل بتحقيقي، ص(440).

[6] انظر: الصفويون من البداية إلى النهاية، مجلة الراصد، العدد الثاني والأربعين، ذو الحجة، 1427هـ.

[7] مقالة: الصفويون والصفوية، موقع طريق الإسلام.

[8] مقالة: هذه هي الصفوية، موقع صيد الفوائد.

[9] الكنى والألقاب، (2/424-425) باختصار.

 

 

مجلة البيان



مقالات ذات صلة