العالم العربي.. فوضى مفروضة وخيارات مرفوضة!!
عصام زيدان
مفكرة الإسلام: اكتسى العالم العربي، بحالة غير مسبوقة، من الاضطرابات التي اتخذت في غالب الأحيان طابعًا مسلحًا كما هو مشاهد في العراق ولبنان وفلسطين واليمن، واتخذ بعدًا سياسيًا مشوبًا بنُذر عنفٍ قد تتصاعد في لحظات, كما الحال في عدة بلاد عربية أخرى.
وكان متصورًا من قبل, أن اليد الأمريكية وحدها تلك التي راحت تعبث بالمنطقة الخطرة، وتضع لها سقفًا فوضويًا مرتفعًا، وهو ما جاء مصكوكًا على لسان "كونداليزا رايس" وزيرة الخارجية الأمريكية، وعنوانًا لسياستها في المنطقة باسم "الفوضى الخلاقة".
رايس, تلك, رأت من قبل في المشهد اللبناني الخطر الذي يقف على شفا جرف يكاد أن ينهار المخاض الصعب الناجم عن فوضويتها الخلاقة؛ تبشيرًا بمولد شرق أوسط جديد، وعالم عربي مغاير لما كان، وهو ما يكاد ينطبق على الوضع في العراق وفلسطين.
كان ذلك البعث الفوضوي متصورًا ذهنيًا أنه حكر على المناظرين الأمريكيين التابعين لسلالة المحافظين الجدد, ولكن الإدارة المحافظة في إيران كسرت هذا الاحتكار الأمريكي, ودخلت بقوة هي الأخرى على خط "الفوضى الخلاقة" في صراع محموم مع الولايات المتحدة لجني الثمار المُرة لهذه الفوضى.
الفوضى الإيرانية ومشهد العظمة الإلهية:
تلك الفوضى الإيرانية كشف عنها وزير الخارجية الفرنسي "دوست بلازي" في مذكرات صدرت له مؤخرا.
وفي مذكراته تلك, نقل عن الرئيس الإيراني "محمود أحمدي نجاد" قوله في سبتمبر 2005: "علينا أن نتمنى أن تعم الفوضى بأي ثمن؛ ليمكننا بعدها أن نرى عظمة الله!".
وقال "بلازي": إن هذه الحادثة جرت في 15 سبتمبر 2005 في نيويورك خلال القمة العالمية حول إصلاح الأمم المتحدة. وذكر أن اجتماعًا بعدها ضم وزراء خارجية الدول الأوروبية الثلاث التي تتولى التفاوض في الملف الإيراني، وهي ألمانيا وفرنسا وبريطانيا والرئيس الإيراني على هامش القمة. وروى بلازي: "في وقت كانت المفاوضات تراوح مكانها، غيّر "محمود أحمدي نجاد" الموضوع فجأة وتوجّه إلينا بالقول: "هل تعلمون لماذا يجب أن نتمنى الفوضى بأي ثمن؟ لأن بعد الفوضى، يمكننا أن نرى عظمة الله!!".
وسواء صدق هذا النقل أم لا, فإن دلالته في الواقع لا يمكن التنكر لها بحال, فعصبة المحافظين في إيران، وعلى رأسهم "نجاد" تسعى هي الأخرى من ناحيتها لإشاعة أكبر قدر من الفوضى في المنطقة، والتي من خلالها يمكن أن تعيد ترتيب الأوضاع بما يضمن لها النفوذ الإقليمي الذي تتمناه تحت قيادة مهديها المنتظر.
فمن لبنان, ننطلق لنرى كيف استدار "حزب الله" الذراع الإيراني في البلد ناحية العاصمة بيروت، وغيّر من أولوياته من مجابهة مع "إسرائيل" في الجنوب، والتي طالما رأى أنها عصب بقائه واهتماماته؛ ليشيع الفوضى والدخان الأسود في بيروت، مطالبًا بـ"تعطيل" القرار السياسي، مهددًا بمزيد من الفوضى.
وفي العراق, جندت إيران حلفاءها من حزب الدعوة وغيره من الميليشيات المسلحة؛ لإشاعة المزيد من القتل والتهجير على الهوية لأهل السنة؛ ما ينذر بتغيير التركيبة الديموغرافية لبغداد, والفوضى هي العنوان الأبرز في ذلك البلد سياسيًا وعسكريًا.
وفي اليمن, فتنة أخرى يقودها الشيعة أيضًا من أتباع "حسين بدر الدين الحوثي"؛ تمهيدًا لقيام دولة خاصة تستقبل المهدي الذي لا يظهر إلا ببزوغ دولتين شيعيتين في المنطقة, هما إيران واليمن, كما أورد الشيعي علي الكوراني العاملي في كتابه "ظهور المهدي", مشيرًا إلى أن الذي يقود ثورة اليمن قائدها المعروف في الروايات باسم اليماني, وفي رواية أن اسمه حسن أو حسين، من ذرية زيد بن علي عليهما السلام .
كما نقل "الكوراني" مروية عن الإمام الباقر عليه السلام توضح الصورة التي يكون عليها حال المنطقة قبل ظهور المهدي، يقول فيها: ( لا يقوم القائم إلا على خوف شديد وزلازل وفتنة وبلاء يصيب الناس، وطاعون قبل ذلك، ثم سيف قاطع بين العرب، واختلاف بين الناس، وتشتت في دينهم، وتغير في حالهم، حتى يتمنى المتمني الموت صباحًا ومساء من عِظَم ما يرى من تكالب الناس وأكلهم بعضهم بعضًا).
منطلقات الفوضى الإيرانية وتقاطعاتها الأمريكية:
الفوضى التي تنطلق منها وتسعى إليها القيادة الإيرانية تستند في حقيقتها إلى منطلقات عقدية مرتبطة بأوان ظهور المهدي، الذي جعله الرئيس الإيراني محور اهتمامه منذ مجيئه إلى الرئاسة, والذي يرتبط في فكر الشيعة الأمامية بتفشي القتل والدمار حتى يظهر "المخلص" لينتشل العالم من تلك الفوضى المصطنعة.
ففي كلمته التي ألقاها في السادس عشر من نوفمبر 2006 أمام حشد من الخطباء الإيرانيين, قال نجاد: إن المهمة الرئيسة لحكومته تتلخص في "تمهيد الطريق للعودة المجيدة للإمام المهدي".
وأشار إلى أن الله سيرفع الظلم عن العالم، وأن عصر القمع والحكم الاستبدادي والظلم ولى، وموجة الثورة الإسلامية ستشمل قريباً العالم أجمع. وصرح في حين آخر, بأن إيران لديها دور شديد الأهمية لتمارسه على المستوى الإقليمي.
ومن مفردات الثورة الإيرانية (الخومينية ) التي يسير على هديها "نجاد" تبنى منهج إسقاط الأنظمة العربية، لإيجاد قاعدة تُـمهـد لظهور المهدي المنتظر.
البعد الديني ذاته انطلقت منه الإدارة الأمريكية التي تسيطر عليها عصابة "المحافظون الجدد" بأفكارها الصهيومسيحية.
فالرئيس الأمريكي "بوش"، ونائبه "ديك تشيني"، ووزير الحرب "دونالد رامسفيلد"، وغيرهم, لم يكن البعد الديني غائبًا عن ممارستهم الفوضوية في العالم، فبوش يُنظر عليه في تلك العصابة على أنه رجل الله الملهم, وتردد في الخطابات أن الله يرشده، ويوحي له!!.
وفي تصريح صدر لرامسفيلد قبل مغادرته البنتاجون مطرودًا, ادعى هو الآخر أنه ينطلق في تصرفاته من إلهام إلهي, وهو الذي ترك العراق يتخبط في فوضى عارمة, وقريبًا من ذلك الحال كانت أفغانستان.
العالم العربي..فوضى مفروضة وخيارات مرفوضة:
العالم العربي وقع فريسة هذا الفوضى التي تمارس تحت مظلة دينية مزعومة شيعية صفوية تارة, وصهيومسيحية تارة أخرى, ونراه قد استسلم للذبح بأي من السكينين, وكأنه فُرضَ عليه خياران لا ثالث لهما، كلاهما بالفوضى تدثر، وتحت الدمار والدماء يُمارس وما زال سياسته.
والمتأمل حقيقة يجد أننا أمام مفارقتين مدهشتين في المشهد الحالي:
المفارقة الأولى:
أن العالم العربي تعامل مع الخيارات المفروضة باعتبارها حتمية لا فكاك ولامناص عنها، فمن ارتضى بالمشروع الفارسي فقد أبرأ ذمته من المشروع الأمريكي الصهيومسيحي، ومن اختار هذا فقد أعلن البراءة من رجس المجوس ومخططاتهم.
هذه القابلية الحدية للاندماج في أي من المشروعين الاستعماريين, تعني أن الذات قد تلاشت تمامًا أو كادت، وأن مظاهر الضعف الحضاري قد بلغت أقصى مداها, حتى إن العالم العربي يدرك أين حتفه ثم هو يذهب إليه مختارًا، وضعفت عزائم الأنظمة عن أن تخطّ لذاتها خطًا يحقق حتى الحد الأدنى من التماسك وبقايا الدولة.
وإن كان المفكر الجزائري "مالك بن نبي" قد صك "القابلية للاستعمار" في زمانه دلالة على الأوضاع التي رآها، فنحن قريبون من مشاهد مغايرة نرى فيها "قابلية للانتحار"، متزايدة ومتنامية بين غالب الأنظمة عربية.
المفارقة الثانية:
أنه رغم الاعتراضات الجمّة من قِبل الكونجرس الأمريكي بمجلسيْه الشيوخ والنواب على مسلك الإدارة الأمريكية في المنطقة, وكذلك العديد من الساسة والخبراء أصحاب الآراء المتزنة والحصيفة البعيدة، وبعض المتبرئين من فكر المحافظين الجدد مثل "فرنسيس فوكاياما" نجد أن العديد من الدول العربية, بل السواد الأعظم منها قد أعلنت ورحبت بتلك الإستراتيجية وهذه السياسية (البوشية ) الفوضوية، ويبدو أنه تمشى في ركابها حتى الرمق الأخير؛ رغم أن نهاية الطريق واضحة جلية, والفوضى ستُغرق الكل.
ما يبغى أنه نقوله في النهاية أن كلا المشروعين لا ينظر إلى العالم العربي إلا من زاوية الرقعة المستباحة وفراغ القوى المزمن، ومن ثم تعارضت مصالح الإمبراطورية الأمريكية مع الفارسية الصاعدة, فيما فقد العالم العربي توازنه وقواه الرئيسة، وبات يدور في فراغ شاسع لا يجد فيه استقرارًا.
كلا المشروعين خطرٌ على الأمة والعالم العربي محدق, وبات ذلك العالم أحوج ما يكون إلى "مركز" يلملم شعثه وينتشله من حافة الهوية بقوة، وبمشروع يعبّر عن الذات ويستلهم روح الحضارة الماضية مستوعبًا الأخطار المحدقة..
ولم يكن "صلاح الدين" محررًا للأرض قبل أن يكون محررًا للذات العربية والإسلامية من الاستلاب والهزيمة النفسية والضعف والتبعية.