ابو محمد الغزي
16-4-2012
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف المرسلين سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين أما بعد:
قال حمتو: « نحن نختلف مع الشيعة في مسائل جوهرية وخطيرة ولكن ليس كل ما يقوله المخالف يجب رده..».
أقول: الكلام في هذا المقام على وجوه:
الوجه الأول: الاكتفاء بالجمل العامة والألفاظ المطلقة سبيل من يريد طمس الحقائق وتعمية الصواب على الخلق، والأصل المتبع هو بيان تلك المسائل الجوهرية التي نختلف فيها مع الرافضة وتحذير الناس منها، فهل هي في أصول الدين أم في فروعه؟ وهل هي مما يسوغ فيها الخلاف أم لا يسوغ؟
الوجه الثاني: إذا كان الخلاف بين السنة والشيعة جوهريا وفي أصول الدين وفي مسائل متعددة فيلزم من هذا أن يكون التقارب نوع من العبث وضرب من الخيال، والواجب في هذا المقام إقامة الحجة على المخالف وتذكيره وإقامة العقوبة اللازمة عليه إذا أصر وعاند وتوفرت الشروط وانتفت الموانع.
والمعروف عن الدكتور أنه ممن يدعو إلى التقريب والتهوين، فهل ما يقوله هذا التزام بالحق الذي نعتقده أم لف ودوران ومصادرة على المطلوب؟!
الوجه الثالث: قوله ليس كل ما يقوله المخالف يجب رده كلام مجمل فإن أراد بالمخالف هنا من نازع في مسألة فرعية تجاذبت فيها الأدلة وتعارضت أو خفي النص عليه فقال برأيه أو ظهر عنده معارض راجح أو كان له تأويل بوجه صحيح، فمثل هذا المخالف يقبل قوله إن وافق الحق وإن خالف فإنه معذور مأجور.
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: « وَلِيُعْلَمَ أَنَّهُ لَيْسَ أَحَدٌ مِنْ الْأَئِمَّةِ -الْمَقْبُولِينَ عِنْدَ الْأُمَّةِ قَبُولًا عَامًّا- يَتَعَمَّدُ مُخَالَفَةَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي شَيْءٍ مِنْ سُنَّتِهِ؛ دَقِيقٍ وَلَا جَلِيلٍ.
فَإِنَّهُمْ مُتَّفِقُونَ اتِّفَاقًا يَقِينِيًّا عَلَى وُجُوبِ اتِّبَاعِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَعَلَى أَنَّ كُلَّ أَحَدٍ مِنْ النَّاسِ يُؤْخَذُ مِنْ قَوْلِهِ وَيُتْرَكُ, إلَّا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَلَكِنْ إذَا وُجِدَ لِوَاحِدِ مِنْهُمْ قَوْلٌ قَدْ جَاءَ حَدِيثٌ صَحِيحٌ بِخِلَافِهِ, فَلَا بُدَّ لَهُ مِنْ عُذْرٍ فِي تَرْكِهِ. وَجَمِيعُ الْأَعْذَارِ ثَلَاثَةُ أَصْنَافٍ:
أَحَدُهَا: عَدَمُ اعْتِقَادِهِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَهُ.
وَالثَّانِي: عَدَمُ اعْتِقَادِهِ إرَادَةَ تِلْكَ الْمَسْأَلَةِ بِذَلِكَ الْقَوْلِ.
وَالثَّالِثُ: اعْتِقَادُهُ أَنَّ ذَلِكَ الْحُكْمَ مَنْسُوخٌ»( ).
وإن أراد بالمخالف من نازع في مسألة من قواطع الإسلام وأصول الدين التي اتفق عليها أئمة الدين فإن مثل هذا لا يعتبر قوله البتة، ولهذا فإن من عرف بمخالفة الأصول الثابتة في الكتاب والسنة لا يعتبر خلافه ويجري الإجماع مع مخالفته كما هو مبسوط في أصول الفقه.
يقول حمتو: « أفرأيت إن قال لنا المخالف لا إله إلا الله نقول له أنت مخطئ كذاب، ليس كل ما يقوله المخالف يجب رده».
أقول الرد عليه من وجوه:
أولا: ليس كل من قال لا إله إلا الله فهو مصيب إذا لم يكن قائما بحقها وشروطها فإن كثيرا من المنافقين يقولونها ليعصموا بها دماءهم وكثير ممن يقولها لا يفقه معناها ويقع في نواقضها، فلكلمة التوحيد حقوق وشروط فمن لم يحققها لم تنفعه عند الله تعالى، وهذه الشروط نظمها العلامة الحكمي في سلم الوصول فقال:
وَبِشُرُوطٍ سَبْعَةٍ قَدْ قُيِّدَتْ ... وَفِي نُصُوصِ الْوَحْيِ حَقًّا وَرَدَتْ
فَإِنَّهُ لَمْ يَنْتَفِعْ قَائِلُهَا ... بِالنُّطْقِ إِلَّا حَيْثُ يَسْتَكْمِلُهَا
الْعِلْمُ وَالْيَقِينُ وَالْقَبُولُ ... وَالِانْقِيَادُ فَادْرِ مَا أَقُولُ
وَالصِّدْقُ وَالْإِخْلَاصُ وَالْمَحَبَّهْ ... وَفَّقَكَ اللَّهُ لِمَا أَحَبَّهْ( )
وهذه الشروط إنما هي في الباطن وفيما بين العبد وربه وأما في أحكام الدنيا فيحكم على من قال لا إله إلا الله بالإسلام إذا لم يأتي بناقض من نواقضها كالشرك بالله.
ثانيا: لا ريب أن المخالف المقصود في هذا المقام هم الرافضة، ومن تأمل في أحوالهم في التوحيد وجدهم من أبعد الناس إخلاصا فيه وأكثرهم شركا وعبادة مع الله تعالى.
يقول إمامهم المجلسي عن أئمتهم: "فإنهم حجب الرب والوسائط بينه وبين الخلق"، وكما بوب شيخهم المجلسي في كتابه المذكور آنفاً باباً بعنوان: "باب أن الناس لا يهتدون إلا بهم ـ يعني: بالأئمة ـ وأنهم الوسائل بين الخلق وبين الله، وأنه لا يدخل الجنة إلا من عرفهم"( ).
ويقول أيضا: "إذا كان لك حاجة إلى الله عز وجل فاكتب رقعة على بركة الله، واطرحها على قبر من قبور الأئمة إن شئت أو فشدها واختمها واعجن طينا نظيفا واجعلها فيه، واطرحها في نهر جار أو بئر عميقة أو غدير ماء، فإنها تصل إلى السيد عليه السلام، وهو يتولى قضاء حاجتك بنفسه"( )
وقال الكليني والمجلسي: "خلق الله محمداً وعلياً وفاطمة فمكثوا ألف دهر، ثم خلق جميع الأشياء فأشهدهم خلقها، وأجرى طاعتهم عليها، وفوض أمورهم إليها، فهم يحلون ما يشاؤون ويحرمون ما يشاؤون"( ).
وقال الكليني أيضا: "إن زيارة قبر الحسين تعدل عشرين حجة، وأفضل من عشرين عمرة وحجة"( ).
وانظر إلى ما قاله الخميني: " يستشفى من الطين، طين قبر سيدنا أبي عبد الله الحسين عليه السلام للاستشفاء، ولا يجوز أكله بغيره ولا أكل ما زاد عن قدر الحمصة المتوسطة ولا يلحق به طين غير قبره، حتى قبر النبي صلى الله عليه وسلم والأئمة عليهم السلام"( ).
ثم قال حمتو مبينا المنهج الذي يستند عليه في مثل هذه الحوادث: «لنا عقول تميز الوقائع والأحداث والروايات»
أقول: لو ترك هذا الأمر للعقل المجرد، لكان لكل واحد أن يقول ما شاء بحجة أن له عقلا ، ومثل هذا ينشأ عنه فساد عريض في الشريعة بالجملة، والأصل في مثل هذه الأحوال الاعتماد على القوانين العلمية في سبر الروايات ونقدها كما هو مقرر في علم مصطلح الحديث، فلا يقبل قول مجرد بلا إسناد، ولا يقبل إسناد حتى يرويه ثقة عدل عن مثله إلى منتهاه من غير شذوذ ولا علة.
وأما عرض الروايات والأحداث على العقول بدون ضابط وميزان فإنما هو سبيل أهل الأهواء، وكثير منهم في هذا الزمان نحى هذه النزعة عند دراسته للأحداث التاريخية، بل حتى وصل الحال ببعضهم إلى طرد هذا في العقائد والأحكام بتقديم المعقول على المنقول بحجة قطعية الأول وظنية الثاني، والحق أنه لا يتعارض صحيح النقل مع صريح العقل، ولكن التعارض يكون بادي الرأي في العقول وعندها يجب إعمال النظر والفكر للاهتداء إلى معرفة الحق.
ثم يقول: « بعض الناس يقول لماذا إثارة هذه الفتنة فتلك فتنة سلم الله منها سيوفنا فلتسلم منها ألسنتنا..» ويجيب على هذا بقوله: « في المنهج العلمي يقول الدكتور محمد عمارة كلمة عجيبة عندما تمسكنا بهذه المقولة ولم نتكلم عنها تكلم عنها المستشرقون والمستغربون وأعداؤنا كتبوا لنا تاريخنا بأقلامهم المسمومة فقرأنا تاريخنا بأقلام غيرنا»
أقول الرد عليه من وجوه:
الوجه الأول: هذه المقولة التي ردها الدكتور حمتو قالها الإمام العدل والخليفة الراشد عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه وتتابع عليها علماء الإسلام قاطبة وتلقوها بالقبول فلا أدري أين يضع هذا الرجل نفسه ؟!
وسأسوق كلام أئمة الدين في هذا السياق، فقد أخرج أبو نعيم في الحلية من طريق الشَّافِعِيُّ، قَالَ: قِيلَ لِعُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ: مَا تَقُولُ فِي أَهْلِ صِفِّينَ. قَالَ: «تِلْكَ دِمَاءٌ طَهَّرَ اللَّهُ يَدَيَّ مِنْهَا، فَلَا أُحِبُّ أَنْ أَخْضِبَ لِسَانِي فِيهَا»( )
وقد روى الإمام الشافعي هذه القصة مستحسنا لها ومؤكدا على ما تضمنتها( )
و سئل الحسن البصري عن قتالهم فقال : قتال شهده أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم و غبنا، وعلموا وجهلنا، واجتمعوا فاتبعنا، واختلفوا فوقفنا( ).
وقال البغوي: «وَاخْتَارَ السَّلَفُ تَرْكَ الْكَلامِ فِي الْفِتْنَةِ الأُولَى، وَقَالُوا: تِلْكَ دِمَاءٌ طَهَّرَ اللَّه عَنْهَا أَيْدِيَنَا، فَلا نُلَوِّثُ بِهَا أَلْسِنَتَنَا»( ).
يقول ابن حجر: «واتفق أهل السنة على وجوب منع الطعن على أحد من الصحابة بسبب ما وقع لهم من ذلك ، و لو عرف المحق منهم لأنهم لم يقاتلوا في تلك الحروب إلا عن اجتهاد و قد عفا الله تعالى عن المخطئ في الاجتهاد ، بل ثبت أنه يؤجر أجراً واحداً ، و أن المصيب يؤجر أجرين» ( ).
و هكذا نأخذ من مجموع كلام هؤلاء الأئمة ، أن الموقف مما شجر بين الصحابة رضي الله عنهم هو الإمساك و عدم الخوض ، و هذا هو الذي دل عليه الحديث الثابت كما عند الطبراني وغيره أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : «إذا ذكر أصحابي فأمسكوا»( ) .
الوجه الثاني: ينبغي فهم المراد من كلام هؤلاء الأئمة على الوجه الصحيح، وبيان ذلك أن يقال بأن هذه الجملة تحتمل أمرين لا ثالث لهما أحدهما عدم الخوض مطلقا في أمر الفتنة بين الصحابة رضي الله عنهم حتى ولو كان على وجه صحيح.
والاحتمال الآخر هو ترك السباب والشتائم والاقتتال الذي نتج عن هذه الفتنة، وهذا المعنى هو المراد قطعا، ويرجحه أن هؤلاء جميعا قد نقلوا لنا ما جرى بين علي ومعاوية رضي الله عنهما وتحدثوا في ذلك رأيا ورواية، فليس المراد من هذا القول وأشباهه عدم الحديث مطلقا، فإن أهل السنة متفقون على أن الحق مع علي رضي الله عنه وهو أقرب الطائفتين إليه وأن معاوية رضي الله كان مخطئا قد جانبه الصواب ولكنه اجتهد فأخطأ، وليت شعري كيف يقال بأن هذا مخطئ وهذا مصيب مع فرض عدم الخوض في أصل القضية؛ فإن هذا محال
الوجه الثالث: القول بأن أهل السنة لم يتحدثوا عن تفاصيل هذه الفتنة -مما فسح المجال لأعداء الإسلام أن يتكلموا فيها بما يشاؤون- ما أبعده عن الحق والصواب والعدل؟
ولو طالع هذا الرجل مدونات التاريخ الإسلامي لعرف أنه يهرف بما لا يعرف، وهؤلاء المستغربون الذي يتشدق بهم إنما بنوا طعوناتهم على مصنفات التاريخ الإسلامي أصالة، ومن أعظمها تاريخ ابن جرير الطبري وطبقات ابن سعد وحلية الأولياء لأبي نعيم وتاريخ ابن الأثير وتاريخ ابن كثير المسمى بالبداية والنهاية والذي اختصره من تاريخ البرزالي وكذا تاريخ الإسلام للإسلام للذهبي والسير له.
وقد صنف كثير من متقدمي العلماء في هذا الأمر كابن العربي في العواصم من القواصم وشيخ الإسلام في مجموع فتاواه وكتابه الفريد في الرد على ابن المطهر الحلي الذي سماه منهاج السنة النبوية، وفي هذه القدر كفاية لرفع غياية الجهل؟