التأطير الدستوري والفقهي الإيراني لاحتلال العالم العربي

التأطير الدستوري والفقهي الإيراني لاحتلال العالم العربي
التأطير الدستوري والفقهي الإيراني لاحتلال العالم العربي

د. نبيل العتوم  

رئيس وحدة الدراسات الإيرانية

مركز أمية للبحوث والدراسات الإستراتيجية 

     تطرح الكثير من التساؤلات حول طبيعة المشروع الإيراني، وهل يقوم على فكر توسعي استئصالي، يستهدف دول المنطقة العربية ” السنية “، وهل المشروع الإيراني مشروع إسلامي تقوده نخبه مسلمة هدفها نصرة الدين والملة؟ وهل إيران فعلاً دولة إسلامية؟ وكيف يمكن التعامل معها؟

لا شك أولاً بأن إيران تحاول من خلال ثورتها   ترجمة أطر دستورية، وفق أسس فقهية ومذهبية عنصرية، والتي تهدف لإحكام سيطرتها على العالم الإسلامي، والهيمنة عليه بأي شكل، والتوسل بأي ذريعة.

     تنطلق هذه المقالة التحليلية من اشكاليةٍ تركّز على فهم كيفية تأطير إيران لاستراتيجية الهيمنة والنفوذ على العالم العربي، وكيف جَسّدت هذه الثورة ذلك من خلال الإطار الدستوري الذي ابتكرته؟ وما هي النماذج التي تناولت كيفية بناء الإمبراطورية الشيعية بعد نجاح الثورة الإيرانية؟ كل ذلك بهدف إدراك المقاربات التي وضعتها دولة الولي الفقيه، حتى تجسيد ذلك على أرض الواقع، وكيف يمهّد ذلك للفكر الاستئصالي والتوسعي الذي تقوم عليه الثورة الإسلامية، بهدف استكشاف ماهية هذه الدولة، والأسس التي تقوم عليها.

     بداية اعتبرت إيران نفسها -حسب وجهة نظر الخميني- قاعدة الانطلاق نحو تحقيق الوحدة الإسلامية؛ وبالتالي تشكيل الحكومة الإسلامية على قاعدة الإسلام الشيعي، وهذا المبدأ طُبق تحت شعار “صدور انقلاب إسلامي”، ومعناها بالعربية تصدير “الثورة الإسلامية”([1])، حيث أكّد الخميني على أن تشكيل الحكومة الإسلامية في إيران هي مجرد الخطوة الأولى-النواة- بهدف إنشاء الحكومة الإسلامية العالمية التي تحقق العدل، إذ أثبت مسألة ولاية الفقيه دستورياً وأطّرها مؤسسياً، وبهذا وُضعت موضع التنفيذ، فقد جاء في الدستور: “انطلاقا من قاعدة ولاية الأمر والإمامة المستمرّة فإن الدستور يمهّد الأرضية لتحقيق قيادة الفقيه جامع الشرائط الذي تعترف به الجماهير كقائد، حتى تضمن عدم انحراف المؤسسات والأجهزة المختلفة عن مسؤولياتها الإسلامية الأصلية، فمجاري الأمور تبقى بيد العلماء الأمناء على حلاله وحرامه”. وعلى قاعدة هذه الأفكار أقامت المؤسسة الدينية بزعامة الخميني جميع مؤسسات الدولة السياسية وهيئاتها الثورية الجديدة التي مارست السلطة من خلالها ([2]).

     وعلى هذا الأساس فقد تميزت أفكار الخميني بإعطاء أهمية كبيرة للعلاقات مع العالم الخارجي، حيث أكّد على أهميّة الوحدة لكن ضمن رؤية وتصور خاص، حيث طرح الخميني مفهوم الاتحاد الكونفدرالي مع الدول العربية([3])، لكنه في مواضع أخرى عديدة رغم طرحه لهذا التصور إلا أننا نجده لا يعترف بالحدود الجغرافية بين الدول، مُعتبراً أن هدف هذه الحدود التفريق بين أبناء الأمة الإسلامية، ومؤكدا على ضرورة التخلص من الهيمنة العالمية التي تسعى إلى زرع الفرقة فيما بينها([4])، وهذا التصور الذي طرحه الخميني يُشكل تناقضاً واضحاً؛ ففي الوقت الذي يدعو إلى الوحدة بين إيران والدول الإسلامية من خلال الشكل الكونفدرالي المتعارف عليه من خلال النظم السياسية والقانون الدستوري، حيث من المعلوم أن هذه الشكل يحافظ على حدود الدول واستقلالها، إلا أن الخميني – في الوقت ذاته – لا يعترف بالحدود الجغرافية بين هذه الدول، وهذا يُبين النوايا المبيّتة للسياسة الإيرانية التي تسعى للسيطرة والهيمنة على العالم العربي والإسلامي من خلال زرع السم بالدسم.

     أما النقطة الأخرى والمثيرة في فكر الخميني: فهي المسألة المُتعلّقة بنفي الظلم، واعتبار أن أصل العلاقات الدولية في الدين الإسلامي يقوم على مسؤولية إيران في رفع هذا الظلم ([5])، حيث يعتبر أن هناك مسؤولية تقع على عاتق الثورة الإسلامية بأنها ستكون إلى طرف جميع المظلومين في العالم؛ بهدف رفع الظلم عنهم ([6])، إذ يعتبره الخميني مفهوماً جديداً في العهد الحديث، حيث مكّنت إيران من صياغة سياسة خارجية أكثر استقلالية وأقلّ تبعية، لكن يبقى مفهوم الثورة الإيرانية للظلم وإزالته موضع تساؤل، فكيف ستتدخل لإزالته؟ ولصالح من؟ وما هو هدفه؟ وكيف انعكست هذه السياسة من خلال مداخل الأزمات الموجودة حالياً في المنطقة، وبخاصة موقفها من الأزمة العراقية، واللبنانية، والأفغانية …إلخ وتدخلها لصالح دعم التيارات الشيعية التي تُمارس عنفاً طائفياً لم نجد له مثيلًا في تاريخ العراق ولبنان وأفغانستان …والقائمة تطول.

     ومن المسائل التي أثارها الخميني -أيضًا-والتي أحدثت ضجّة كبيرة في العالم العربي والإسلامي، وعكست النوايا الحقيقية للثورة الإيرانية الشيعية هي دعوته إلى تحطيم الكيانات القائمة، وإزالة جميع الأنظمة، من خلال الدعوة إلى خلق ثورة سياسية إسلامية. من هنا فإن هذه المبادئ هي التي حكمت علاقات النظام الجديد بالدول المجاورة وخاصة ما يتعلق منها بنظرية ولاية الفقيه، وأبعاد هذه الفكرة التي شوهت السلوك الخارجي الإيراني الذي سعى إلى تفعيلها من خلال استراتيجية الهيمنة والتوسع.

     إن تطوير الخميني لمفهوم نظرية ولاية الفقيه قد أدى إلى أن تصبح هذه الفكرة محور الإحياء الإسلامي للثورة الإيرانية، وأصبحت معياراً هاماً لشرعية النظم السياسية الأخرى، وهذا بدوره أثّر عليها، حيث نظرت الدول الأخرى إلى الثورة على أنها باتت تُشكل مصدراً لتهديدها، ومن هنا مثلَت الرؤية السابقة للخميني مدخلاً أساسياً ومهماً لتبني إيران مبادئ فكريّة وحركيّة تجاه الدول الأخرى، وكان للقيادة الإيرانية تصورها الخاص للدور الذي يجب أن تقوم به الثورة في البيئة الخارجية (الإقليمية والدولية)، وجعلت من تصدير الثورة مرادفاً لشموليتها.

     ومن هنا كان لشخصية الخميني وأفكاره أثرها السلبي على علاقات إيران مع محيطها الإقليمي، وبحسب تعابير جوزيف كوستنر: كان وصول الخميني إلى السلطة في إيران تدشينا لعصر جديد للشيعة في الخليج العربي والمنطقة، وبحسب فحوى هذه النتيجة الافتراضية، فإن الإلهام الثوري الإيراني قد فخخ الوعي الشيعي باتجاه تفجير الأوضاع السياسية، وبذلك أصبح الشيعة في البلاد العربية -وفق وجهة نظر آيات الله العظام في قم وخراسان، وحسب استراتيجيات بناء الإمبراطورية الشيعية الموعودة-طابوراً إيرانيًا خامسًا في بلدانهم.

    يمكن القول: بإن الخميني كان يضع الخطط والاستراتيجيات له ولأتباعه من بعده بهدف إقامة حزام شيعي للسيطرة على ضفتي العالم الإسلامي، وكان هذا الحزام يتألف من إيران والعراق وسوريا ولبنان، وعندما يصبح سيداً لهذا الحزام يستخدم النفط وموقع الخليج للسيطرة على بقيّة العالم الإسلامي. وقد كان الخميني مقتنعاً بأن الأمريكيين سيسمحون له بتنفيذ ذلك! بهذه الكلمات أجاب ” أبو الحسن بني صدر ” أول رئيس إيراني عقب ثورة الخميني عن سؤال وُجه له وكان السؤال: هل كان الإمام الخميني يحدثك عن علاقة مع الجوار العربي، ومع دول الخليج العربية تحديداً؟ وهل كانت لديه أطماع في التقدّم عسكريًا تجاه هذه الدول من أجل تصدير الثورة مثلاً؟ أجاب: يبدو أن حلم الخميني الذي يطمع بمساعدة مقدّمة من الإدارة الأمريكية لتحقيق أهدافه في التوسع والتقدم، أُريد لها أن تتحقق في عهد “بوش الابن” والذي يضم ّفي إدارته بعض عناصر إدارة ريغان.

    ويشار هنا إلى  أن الخميني رفض -بحسب شهادة كثير من المراجع الفارسية-  كل الوساطات والعروض التي قدمها صدام حسين لإيقاف الحرب (الإيرانية العراقية)، حيث منيت جميعها بالفشل، لأنّ الخميني لم يكن راغباً في إنهائها، بل وجد أن الحرب هي حيوية بالنسبة لإيران([7])، وكان يتحدّث لعدد من المقربين له بأن هدف الثورة الإيرانية النهائي هو ضرورة إسقاط الأنظمة التي يعتبرها طاغوتية، تمهيدًا لتحقيق فكرة الحكومة الإسلامية العالمية العادلة، وأن وقف الحرب كمن يتجرع السم ([8])، وقد أقنعه رفسنجاني بوقف هذه الحرب، نظرًا للظروف الإقليمية والدولية، ولأسباب متعلقة بالخوف على الثورة الإيرانية واستمرارها، كما يذكر رفسنجاني ذلك بنفسه ([9])، وبحسب تصريح رفسنجاني ([10]) الذي قال فيه: لقد كان وقف الحرب نتيجة للضغوط المختلفة، وحفاظاً على الثورة الإسلامية حتى تستعيد عافيتها من جديد بهدف الديمومة والاستمرار([11]).

     الخلاصة أن أفكار الخميني جميعها تدور حول قضيّة الحكم والهيمنة والتوسع، فالحكم يجب أن يكون للفقيه، والشروط الواجب توفّرها في هذا الحاكم هي العلم، والمقصود العلم الشيعي، وبالقانون والعدالة، ويستمد الفقيه الشيعي سلطاته ليس من أي جهة دنيوية بل من الله. والذي يطابق الأفكار الخاصة بالخميني مع الممارسة اليومية له يستنتج أن المقصود بذلك الفقيه هو شخص الخميني الذي يجب أن تكون إرادته فوق كل إرادة، وسلطانه فوق سلطة الشعب ([12])، فلقد أصرّ الخميني على اسم إيران وربطها بمفهوم مذهبية الدولة |([13])، وقد اعتمد في إيران الثورة في تثبيت الكثير من المعالم  والرموز الخطرة التي لم تنتبه لها جميع الدراسات العربية، للتذكير بإمبراطورية هذه الدولة وفارسيتها وزرداشيتها، كل ذلك بهدف ترسيخ تاريخ هذه الإمبراطورية في أذهان الشعب الإيراني حتى بعد انتصار الثورة الشيعية بدعم وتأييد  فتاوى الخميني وأعوانه، مثل: بقاء تسمية العملة الإيرانية بالتومان ([14])،أما الأخطر من ذلك فهو استمرار اعتماد الأشهر الإيرانية والأعياد القديمة التي ترتبط  بالديانة الزرداشتية والأساطير المتعلقة بها لغاية اليوم، وإصرار الثورة الشيعية على إبقائها والتمسك بها ([15]).

     ولتأطير ذلك قانونياً ودستورياً فقد ترجم الدستور الإيراني الحديث فكرة الحكم الإمبراطوري وحدوده الأيدولوجية مجددا لكن وفق أطر دستورية وقانونية، وبغطاء مذهبي قومي  لا يعرف سوى العصبية ([16])، وبما أنه يعكس تلك الخلفية الإمبراطورية التي جاءت نتاجاً وتجسيداً للواقع غير المستقر والمتناقض أصلاً، حيث إن المجتمع الإيراني قد امتاز على مرّ العصور بعدة خاصيات أهمها: ظاهرة عدم الاستقرار السياسي والاجتماعي، وكذلك ظاهرة الحكم الاستبدادي العسكري على الأغلب، فضلا عن البعد التاريخي لتأثير الديانات السابقة للإسلام في إيران، واستمرار هذا التأثير الموروث في بناء المجتمع الإيراني، وهنالك خاصية أخرى امتاز بها المجتمع الإيراني ولا يزال هي ظاهرة التخلّف، وهذه الظاهرة تؤدي إلى التمسك بالسلفية المذهبية التقليدية، فإذا كان الدستور يعكس هذه البنيات فمن الطبيعي أن  يفتقر إلى التجانس والنقاء، وعلاوة على ذلك فإن البنى الثقافية في إيران هي نتاج للثقافة الغربية التي تعلّق بها الإيرانيون منذ القدم، حتى أنّهم كانوا يؤكدون على جنسهم الآري الأوروبي، وهذا التعلق خلق نوعا من التبعية الثقافية الإيرانية للغرب، والأخير حاول ضرب التراث الإسلامي من خلال خلق ثقافة هجينة بديلة في الثقافة الإسلامية هي الثقافة الفارسية التي تدّعي الإسلام من خلال المذهب الشيعي، وبما أن الثقافة هي دخيلة على إيران، وأصبحت لها تأثيرات موضوعية وذاتية في خصوصية بناء المجتمع الإيراني، لذلك فإن الدستور الجديد إذًا كان فعلاً يعكس هذه البنى، فإنه يكون في الشوط الأخير فيه صبغة غربية أوروبية بعيده كل البعد عن تعاليم الإسلام وقواعده في الحكم أو في القوانين الأخرى ([17]).

     وقد ورد في الدستور: أن هنالك جزمًا وإصرارًا على “أنه -أي الدستور-يجب أن يعكس تسمية وأهداف إقامة الجمهورية الإسلامية، ويعبر عن ذلك من خلال كافة البنى والعلاقات السياسية والاجتماعية والثقافية والاقتصادية للمجتمع والدولة وللثورة ومؤسساتها، ويجب أن يرسم في النهاية الطريق لتركيز قواعد الحكومة الإسلامية، وأن يطرح نهجا جديدًا لنظام حكومي إسلامي يقوم على أنقاض النظام الطاغوتي السابق”.

    وانسجاماً مع ذلك لم يقف الأمر عند هذا الحد، حيث نجد أن الدستور الإيراني يُبيح لدولة الحلم الإمبراطوري التدخل في الشؤون الداخلية للدول الأخرى، حيث نجده قد نصّ على ما يلي: “في الجمهورية الإيرانية الإسلامية، تعتبر الحرية والاستقلال ووحدة أراضي البلاد وسلامتها أمورا غير قابلة للتجزئة، وتكون المحافظة عليها من مسؤولية الحكومة و جميع أفراد الشعب، لا يحق لأيّ فرد أو مجموعة أو أي مسؤول أن يلحق أدنى ضرر بالاستقلال السياسي أو الثقافي أو الاقتصادي أو العسكري لإيران، أو ينال من وحدة أراضي البلاد باستغلال الحرية الممنوحة، كما أنه لا يحق لأي مسؤول أن يسلب الحريات المشروعة بذريعة المحافظة على الاستقلال ووحدة البلاد، ولو كان ذلك عن طريق وضع القوانين والقرارات” ([18]).  وهذا يعني: أن الدستور الإيراني في الوقت الذي يعطي للسلطات الإيرانية حق التدخل المباشر في شؤون الدول الأخرى يمنع منعاً باتاً التدخل في الشؤون الوطنية الإيرانية، ويحافظ على الاستقلال السياسي ووحدة أراضي البلاد.

   فعندما يتعلق الأمر بالتوسع الخارجي فإن الرابطة الإسلامية “وحدة المذهب الشيعي” تُسوغ لإيران التدخل في شؤون الآخرين عنوة، لكن حينما يتعلق الأمر بإيران تبرز المصلحة القومية الفارسية الإيرانية، وليس الإسلام لتكون حامية إيران بحدودها ومصالحها.

      ويتحدث الدستور الإيراني عن المسلمين وفق وجهة نظره، حيث “يُعتبر المسلمون أمة واحدة من دون الناس، وعلى أساس تضامن الشعوب الإسلامية ووحدتها، فإنها ستواصل سعيها من أجل تحقيق الوحدة السياسية والاقتصادية والثقافية في العالم الإسلامي” ([19])، كل ذلك باسم الوحدة الإسلامية، وهذا حسب التصور الإيراني الذي يعطي شرعية  لإيران لوضع إطار مشروع للتدخل والاحتواء والسيطرة والهيمنة، ومرة أخرى تأتي الأولوية المطلقة لتقديم مصالح إيران القومية التي يدعو دستورها للمحافظة على حدودها، وعدم التفريط بها، حيث ينص الدستور الإيراني على ما يلي: “يحظر إدخال أي تغيير في الخطوط الحدودية سوى التغييرات الجزئية مع مراعاة مصالح البلاد، وبشرط أن تتم التغييرات بصورة متقابلة، وأن لا تضر باستقلال ووحدة أراضي البلاد، وأن يُصادق عليها أربعة أخماس عدد النواب في مجلس الشورى الإسلامي. وفي مواضيع أُخرى يؤكد الدستور على حق إيران في التدخل، رغم أنه يحاول نفي ذلك: “تعتبر جمهورية إيران الإسلامية سعادة الإنسان في المجتمع البشري كله قضية مقدسة لها، وتعتبر الاستقلال، والحرية، وإقامة حكومة الحق والعدل حقاً  مشروعاً لجميع الناس في أرجاء العالم كافة، وعليه فإن جمهورية إيران الإسلامية تقوم بدعم النضال للمستضعفين ضدّ المستكبرين في أية نقطة من العالم، وفي الوقت نفسه لا تتدخل في الشؤون الداخلية للشعوب الأخرى” ([20])، هذا الحق في التدخل الذي يؤكده الدستور مراراً هو بمثابة اعتراف صريح بأن إيران سواء كانت بويهية، عبيدية، صفوية شاهنشاهية أو خمينية فإنها تقوم على هدف أساسي هو التوسع، انطلاقاً من السيطرة على العالم الإسلامي والهيمنة عليه تحت شعار دعم المستضعفين.

     وتأسيساً على ما سبق فالقارئ للدستور الإيراني يُلاحظ ازدواجية مكشوفة؛ ففي حين أنه يؤكد على الدفاع عن مصالح إيران الوطنية وحدودها ضدّ المسلمين وغير مسلمين، نرى الدستور الإيراني يتضمن نصوصاً أساسية تسمح لإيران بالتدخل في شؤون الدول الأخرى تحت شعار دعم المسلمين (المستضعفين) في البلدان الأخرى، إذ ترد الفقرة الاتية: “في مجال بناء القوات المسلحة للبلاد وتجهيزها، يتركز الاهتمام على جعل الإيمان والعقيدة أساسًا وقاعدة لذلك، وهكذا يصار إلى جعل بنية جيش الجمهورية الإسلامية وقوات حرس الثورة على أساس الهدف المذكور، ولا تلتزم هذه القوات المسلحة بمسؤولية الحماية وحراسة الحدود فحسب، بل تحمل – أيضاً- أعباء رسالتها الإلهية، وهي الجهاد في سبيل الله، والنضال من أجل بسط حاكمية القانون الإلهي في العالم”.

     من الواضح هنا من هذه الفقرة أن القوات المسلحة الإيرانية تُعدّ للغزو الخارجي ولاستعمار الآخرين باسم الإسلام الإيراني الشيعي الصحيح وفق وجهة نظرهم، لكن ما غاية إيران من كل ذلك؟ سنجد أن الهدف الإيراني النهائي من كل ذلك جعل هذا القرن قرناً إيرانياً، حينما يخلص الدستور الإيراني إلى ذلك من خلال النتيجة التي يسعى إلى تحقيقها: “على أمل أن يكون هذا القرن قرن تحقق الحكومة العالمية للمستضعفين وهزيمة المستكبرين كافة” ([21]).

  لكن السؤال ما هو المقصود بالمستضعفين؟ ومن هم المستكبرون؟ حيث ورد في الدستور ما يلي: “إن إيران تنظم سياستها الخارجية على أساس المعايير الإسلامية والالتزامات الأخوية تجاه جميع المسلمين والحماية الكاملة لمستضعفي العالم” ([22]).

  في الوقت الذي يعتبر فيه دستور الثورة ومراجعها الدينية أن المستكبرين في العالم الإسلامي هم الذين لا يطبقون الحكم الإسلامي الشيعي النقي ([23]). نلاحظ في هذه الفقرة أن إيران تبيح لنفسها حق التدخل الكامل في شؤون كل دولة تحت شعار حماية مستضعفي العالم كافة، ونتيجة لذلك برزت  سياسة خارجية جديدة أطلقتها الثورة الإيرانية، حيث سعت من خلالها إلى بناء مجال حيوي مذهبي يكون أساساً لإمبراطوريتها الشيعية الموعودة، ومن هنا  فقد برز اتجاه إقليمي ودولي يستهدف محاصرة إيران الثورة نظراً لخطورتها، ومحاولة عزلها عن البيئة التي تعيش فيها، ومنها المنطقة العربية التي تمثل إحدى المجالات الحيوية والمهمة للتدخل الثوري الشيعي الزاحف من إيران، وأصبحت سياسية احتواء الثورة والإطاحة بها تقع على سلم أولويات دول المنطقة، وبرز إلى العلن اصطفافات إقليمية لمحاولة الحد من تأثيرها من خلال استغلال كافة الظروف الإقليمية والدولية على حد سواء، نظراً لما تمثله إيران الثورة والدولة من خطر يستهدف المنطقة وشعوبها، ويمس جوهر الدين الإسلامي ممثلاً بأهل السنة والجماعة، خصوصاً بعد أن أعلن الخميني – قائد الثورة الإيرانية ومفجرها – أن أحد أهم وظائف الثورة وأهدافها هو مبدأ تصدير الثورة، تمهيدا للإطاحة بأنظمة الحكم العربية، وتوحيدها  ضمن المجال الحيوي لدولة القلب المذهبي وتحت عباءة الولي الفقيه وصولجانه.

    أما النماذج التي تناولت كيفية بناء الإمبراطورية الشيعية بعد نجاح الثورة في إيران فقد تمثلت بالمدارس التالية:

أولاً: المدرسة البراغماتية في بناء الإمبراطورية الإيرانية: المذهب مقابل الأيدولوجيا “النموذج الروسي”: يطلق على أنصار هذا الرأي البراغماتيون الذين يوظفون الإسلام كغطاء لبناء إمبراطورية إيرانية ذات طابع قومي مذهبي؛ فهم يؤمنون بأهمية توظيف الأمة الإيرانية لكافة إمكاناتها القصوى من أجل النمو داخل المجتمع الدولي، لذا فهم يريدون كل شيء من أجل الداخل ومن أجل الأمة القاطنة فيه، وتعتقد هذه الجماعة بأن الهدف من التمسك بالإسلام إنما هو في الواقع لتدعيم موقف إيران وتدعيم قوتها، كما أنهم يؤمنون بأنه إذا ما قامت إيران بنشاط دولي في العالم الإسلامي يقوم على أساس مساندة حركات التحرر الإسلامية، وعلى تصدير ثورتها الإسلامية، فهي في الواقع تحقق هدفاً مبدئياً يضمن هذا التوسع، وُيسهم في الغزو المعنوي الذي ُيضفي القوة على إيران.

     تطبيقًا لذلك، إذا ما امتلكت إيران قواعد شعبية وأيديولوجية في لبنان، وقدمت تمويلاً مذهبياً لأفغانستان، واكتسبت نفوذا مذهبيًا ومعنويا مماثلًا في باكستان، فإنها في الواقع ستصبح جميعها قواعد غير قومية وغير محدودة لإيران، ومن هنا فإنه يتوجب عليها أن تستفيد منها لأقصى درجة لغاية  فرض هيمنة أكبر إذا اقتضت الضرورة، وهكذا يكون من الطبيعي أنه إذا أصبح لإيران قاعدة مثل لبنان، فإنها ستكون بمثابة دعم لها خارج حدودها، تستفيد منها وقتما تشاء، أو أنها مثلا تستفيد من "حزب الله" في توجيه ضربة ضد مصالح الدول التي لها عداوة معها، ومما لا شك فيه أن إيران في هذه الحالة سوف لن تكون مجرد دولة، بل ستصبح تياراً عالمياً يتمتع بالهيمنة والقوة خارج حدودها.

 ويحاول بعض منظري السياسة الخارجية الإيرانية الربط بين هذا الأمر ونجاح روسيا في بناء إمبراطورية كبيرة، فوفق وجهة نظرهم  فإن  الاتحاد السوفيتي الاشتراكي انتهج هذا النهج لأمد طويل، على المستوى التطبيقي في سياسته الخارجية، وكان ذلك من أسباب قوته وهيمنته بوصفه قوة عظمى في ميدان السياسة الخارجية ذات البعد الأيديولوجي، وما كان تأسيس الكومينترن والكمينفورم وتوظيفهما، وتقديم الدعم اللامحدود لكوبا ولجميع الحركات الثورية الشيوعية في العالم- إلا تطبيقا لهذه الرؤية وتحقيقا للهدف الذي ذكر سالفاً، حيث أرسى الاتحاد السوفيتي دعائمه من خلال هذه  الاستراتيجيات، وقام بنشر نفوذه في أنحاء العالم، لا سيما في أوروبا، إذ أسس في دول مثل فرنسا وإيطاليا أعظم الأحزاب الشيوعية الموالية له، والتي كان من خلالها يثير الفوضى العمالية التي تؤثر بحدة على صناعة القرار في هذه الدول وقتما تشاء، وبها  استطاع الروس – أيضا- إرباك الوضع السياسي للأعداء. في الواقع كان الاتحاد السوفيتي ينتفع من الأيديولوجيا الماركسية-الشيوعية بوصفها أداة من أدواته الفاعلة في سياسته الخارجية وفي إدارة علاقاته الخارجية.

     أما فيما يخصّ الحكومة الإسلامية وسياستها الخارجية، فقد جرى هذا النمط الجدلي حولها ولا يزال، حيث إننا نعلم أن الإسلام دين الأمة الإسلامية، وأن كل من يؤمن بهذا الدين في أي مكان في العالم يعدّ من هذه الأمة، ومن ثم تصبح للمجتمعات الإسلامية الأخرى حقوق وواجبات على عاتقه. فلقد خرق الإسلام الحدود الجغرافية في جميع أحكامه وقوانينه ووصاياه، وتخطى حدود الدولة الواحدة، ومن ثم فهو لا يهتم بتقسيم الأمة في إطار الحدود المتفق عليها دولياً، ذلك لتحكمه في أتباعه وحمايتهم ورعايتهم أنى كانوا، لذا نجد أن القول المأثور إذا سمع المسلم استغاثة أخيه المسلم ولم يغثه فليس بمسلم هي الأساس لفكرة الإسلام اللاحدودي وغير القومي والعالمي.

     ولقد تمّ التأكيد على هذا في بدايات عمر الثورة تأكيداً شديداً، لدرجة أن أعدادا كبيرة من مسلمي الدول المجاورة-لا سيما أفغانستان وبنجلاديش وباكستان والعراق-ترددوا على مكاتب تمثيل جمهورية إيران الإسلامية في بلادهم، ودخلها عدد آخر منهم طلبا للتجنس بالجنسية الإيرانية، ومطالبين بحقوق المواطنة اعتمادا منهم على مبدأ أن الإسلام لا يعرف الحدود.

ثانياً: المدرسة الدينية ” نظرية التكليف الإلهي”: نموذج الدولة الإسلاميةتركّز هذه النظرية على ضرورة العمل بالتكاليف الدينية بغض النظر عن العواقب أو النتائج المترتبة على ذلك، ويعتقد أنصار هذه النظرية أن ما يهم في سبيل الوصول إلى أهداف السياسة الخارجية القائمة على الشريعة الإسلامية المقدسة، هو تطبيق القوانين الإلهية، ولا يجب علينا في هذا الصدد أن ننظر إلى العواقب أو النتائج المترتبة على ذلك.

     أصّل أنصار هذا الرأي البعد الأيديولوجي للسياسة الخارجية الإيرانية وطموحاتها المتعددة، حيث تعتقد بوجوب الحيلولة دون انعكاس المتغيرات والظروف الحالية في العالم على أي من مبادئ ومرتكزات السياسة الخارجية للبلاد وطموحاتها، ويعتقد أنصار هذا الرأي بوجوب “النصرة” بمعنى أنه إذا استجار أي من الإخوة المسلمين من أي مكان في العالم بإيران فعليها أن تهب لمساعدته ونجدته، والتباطؤ في ذلك غير جائز شرعا، والعذر فيه غير مقبول على الإطلاق. وهنا يجدر بنا الإشارة إلى جملة من القضايا والأمور، فوجود قاعدة “الوسع” أي أن كل مسؤول أو حكومة إسلامية مسؤول في حدود وسعه، جعل جميع الالتزامات والواجبات والتكاليف التي يلقيها الشرع على عاتق حكام الدول الإسلامية وعلى عاتق المسلمين محدودة بمرتكز محور “الوسع”، فالحكم القائم مكلف بتقديم العون للمسلم قدر “وسعه”، وعليه واجب التلبية[24].

أن النظريات المتعلقة بمشروعية حدود سلطة الجمهورية الإسلامية الإيرانية الخارجية والتي تؤطر سيادتها على دول خارج نطاق حدودها الجغرافية وفق أسس مذهبية خالصة،  كانت ولا زالت تشكل أساسا مهماً لفهم سلوك السياسة الخارجية الإيرانية ، حيث أجازت إيران لنفسها وفق هذه النظريات وضع أطرٍ وتصورات تبيح لنفسها بناء إمبراطورية ، ذات حدود مذهبية خالصة ، إذ  وضعت هذه النظريات تصورات مذهبية، قومية، وسياسية حول كيفية بنائها  لإمبراطورية مذهبية تكون هي بمثابة المركز والمرجع للعالم الإسلامي، و منحت هذه النظريات “إيران” صلاحيات وسلطات خارج حدودها على اعتبار أنها دولة الإسلام الحقيقي التي تجسد نواة العالم الإسلامي ومركزه القيادي.

  وهذا بالتأكيد يتضمن تحديد الخصائص التاريخية الجو استراتيجية مذهبية ضمن تتابعها المذهبي الصرف سعياً لتحليل رؤية الشيعة "لأهداف المهدي"، وكيفية تمهيد الأرضية اللازمة لعودته، وكيف تتعامل إيران اليوم مع دول الهلال الخارجي التي تمثل مناطق توسع "للمهدي الشيعي" القادم؟ وما هي الأساليب التي تتوسل بها للتأثير على واقع هذه الدول للتسريع بعودته الميمونة؟ وكيف تتعامل مع مداخل الأزمات بهدف توظيفها لخدمة أهدافها المزعومة، وحتى رفع سقف المؤشرات للتدليل على قرب ظهوره، كالتسريع في التخريب والقتل، ونشر الهرج والمرج، على اعتبار أن "المهدي الشيعي" لن يظهر، إلا إذا اقترن ظهوره بهذه المتغيرات؟  وكذلك كيف تنظم إيران “دولة مركز انطلاق” "المهدي" علاقاتها المتشعبة مع دول الهلال الخارجي، وتمهيد الأرضية التي تمكن "المهدي" من إحراز التقدم العسكري والمذهبي دون مشاكل، وهذا الأمر يتضمن بناء إيران لقواعد ارتكاز ومصدّات ستكون جاهزة للتحرك بمجرد ظهور "المهدي" لمساعدته في أداء مهمته، بحيث يمكن الاستفادة منها كذراع قوي لتكوين مصدّات داخل هذا الدول حماية ليس لمصالح دولة القلب المذهبي، بل اانسجاما للحفاظ على دورها المستقبلي في الإسهام في بناء إمبراطورية "المهدي الشيعي" التي ستحكم العالم؟

       لا شك بأن هناك مجموعة أخرى من العناصر الأساسية التي تُمثل عوامل قوة لإيران وفق نظرتهم المذهبية للإمبراطورية المهدوية القادمة، فهي تشمل محددات جغرافية لدولة القلب المذهبي تتمثل بفعالية الموقع وأهميته بالنسبة "للمهدي الشيعي"، حيث سوف تدعم إيران قوة "المهدي" من خلال بنائها دولة القلب المذهبي، بحيث ستكون جاهزة للانطلاق، بعد أن تصبح دولة المركز أقوى دولة عسكرية واقتصادية في المنطقة، فمرونة الموقع وقوة إمكاناته، سوف تمكن دولة القلب المذهبي في أن تصبح حلقة الاتصال بين القلب والأطراف (الهلال الإقليمي والخارجي)، هذا فضلا عن فعالية هذا الموقع وإمكاناته ومكوناته في بناء دعائم مصدات دفاع مذهبي داخل الدول  التي ستكون هدفا لفتوحات "المهدي الشيعي" القادم من بلاد فارس.

    كذلك ما يتمتع به هذا الموقع  وما أكسبه لإيران من أهمية تتمثل بمواردها العسكرية (التقليدية وفوق التقليدية) الاقتصادية، والروحية، وما تتملكه من موارد داخلية وخارجية كامنة، وكذلك فإن للجزر الإيرانية سماتها، وخاصة أن تكوينها لوحدات جغرافية سوف تشكل نقاط ارتكاز تمنع تقاطعها الطبيعي مع الحدود السياسية للهلال الخارجي الذي سوف يشكل خطوطاً دفاعية مذهبية من الدرجة الأولى، ولهذا فهي متحفزة للاستفادة من الموارد القادمة من الأقليات الشيعية والإيرانية في دول الهلال الإقليمي وإمكاناتها المختلفة، وتدوير هذه الموارد لدعم جهود "المهدي" لتحرير الشعوب من خلال تشيعهم، ومن هنا فإن إحدى أهم اهتمامات دولة القلب المذهبي الشيعي هو السعي للسيطرة على موارد إضافية جديدة من دول الهلال الإقليمي التي دخلت فعليا ضمن مجالها الحيوي المذهبي وفي مقدمتها العراق ونفطه، وهذا يفسر أهداف إيران من صياغة حركة اقتصادية فعالة بين مركز دولة القلب المذهبي الشيعي والجيوب الشيعية بصور وأشكال مختلفة ليكون العراق أول خطوط الإمداد المذهبي، ويمثل في الوقت نفسه أقوى المصدات التي تسعى دولة القلب المذهبي “إيران” لبنائها.

    ووفق هذه الرؤية فإن هذا يفسر – أيضا – سعي ايران إلى تأسيس” قواعد ارتكاز ومداخل نفوذ” في المقتربات الجغرافية داخل الهلال الداخلي والخارجي، بهدف تجنب التعرض المباشر للعدو لحظة اندلاع أية نزاعات جديدة، وعدم التعرض” لمركز المجال الحيوي” في حال تهديده نتيجة نشوب أية أزمة مستقبلية، وهذا الأمر لم يتحقق دفعة واحدة أو بين عشية وضحاها، بل استفادت الجمهورية الإسلامية بصورة هادئة ومرحليا  من الظروف الداخلية الإيرانية، وكذلك المتغيرات الإقليمية والدولية للتفرغ بهدف بناء هذا المجال وعلى مراحل متعددة من خلال تداخلها وتفاعلها مع مداخل الأزمات الإقليمية الموجودة في المنطقة، ومستفيدة في الوقت نفسه من الظروف الدولية التي باتت تستهدف الإسلام السني، وتقديم الشيعة أنفسهم كبديل،  كل ذلك بهدف تهيئة الظروف والأدوات لنجاح "المهدي الشيعي" الذي سيخرج العالم من الظلمات إلى النور.

    ومن هنا نجد أن إيران تنطلق من خلفيات إمبراطورية مذهبية وخرافية حاقدة على دول العالم السني، وأنها مستعدة للتحالف مع الشيطان في سبيل تحقيق هدف السيطرة على المنطقة من خلال رؤية مهدوية تُقسّم العالم إلى أقاليم جغرافية، ومن هنا فإننا سنبحث هذه الأقاليم، والإطار الجغرافي والزماني للإمبراطورية الشيعية الموعودة، وما هي مقوماتها، ودور إيران فيها؟ وسوف نبحث هدف إيران “دولة القلب المذهبي” من تبني استراتيجية داخلية تهدف لمحاصرة أهل السنة والجماعة في إيران على اعتبار أن هذه الجماعة تُشكل خطراً كبيراً على دولة القلب المذهبي وعلى دولة "المهدي" التي سوف تظهر.

          لا شك أن حركة إيران نحو تفعيل المجال الحيوي المذهبي سوف يؤدي إلى تغيير جذري في علاقات الدول العربية معها؛ لأن “فرضية الصدام المذهبي” ستكون محققة بامتياز هذه المرة، فالعالم العربي وشعوبه تتابع بدقة حركة السياسة الإيرانية، وإذا كانت فكرة مضي إيران في تفعيل فكرة المجال الحيوي ستجيب على الأسئلة المطروحة من زاوية من زواياها وتفسر لنا سلوكها السياسي، إلا أنها سوف تؤدي إلى تصاعد درجة الصراع على مقياس متعدد الدرجات بين الدول العربية التي يستهدف مجالها الحيوي بصورة خطيرة.

     يمكن القول: بأن فكرة المجال الحيوي المذهبي سوف تؤدي إلى ردّ فعل عربي وشعبي مضاد لمقاومة هذه الفكرة تمهيدا لاحتوائها، وسوف يبرر الصراع في إطار عنوان “هوس التهديد المذهبي” لأنه وفقًا لهذه الرؤية سيحاول المذهب الشيعي التكيّف للتمدّد حتى يحقق النمو وبشكل يضمن له القدرة على الصراع والاستمرار، وبالتالي لن يبقى سوى الأقوى والأكثر قدرة على المواجهة، وحتما سيكون الهلال العراقي “المختبر الجيوبولتيكي” الذي يمثل أولى ساحات المواجهة المذهبية.

 أما تحقيق النصر الاستراتيجي فمعناه “هدم التوازن المذهبي” في العراق والمنطقة من أساسه، والخطوة الثانية هي بناء دولة “أم القرى” التي ستشكل العراق إحدى المقاطعات التابعة لها، وبالتالي إعادة المنطقة إلى حرب باردة مذهبية من جديد، وعليه فمن صالح الأطراف العربية ألا يكون هناك غالب ولا مغلوب مذهبي في العراق، أما مصلحة الغرب عموما هو العكس، واللبيب من باطن الاستراتيجيات يدرك ويفهم أبعاد ذلك.

       وهذه الصياغة “الجيومذهبية” ([25]) تتضمن تعميم فرضية أساسية على الإقليم الجغرافي الشرق أوسطي تتلخص في حق كل دولة التوسع مذهبياً خارج حدودها الوطنية بعد أن تصبح هي المركز، تبعاً لقدرتها على النمو والاستمرار استراتيجيا ضمن “سياسة الحسم المذهبي” على جولات تنتهي بضربة” جيواستراتيجية مذهبية” قاضية، وخروج المغلوب نهائيا، والحالة العراقية بادية للعيان.

دولة أم القرى حسب هذا التصور تعني أن إيران هي نواة مركز الإسلام العالمي، وهي تُمثل الدولة القائدة التي تفرز زعيماً تكون له السلطة والصلاحية والولاية على الأمة الإسلامية جمعاء، على اعتبار أن الدين والعقلانية والوجدانية تقتضي تشكيل أمة إسلامية واحدة، و وتتطلب اختيار حكومة لتمثيل هذه الأمة، استناداً إلى التجربة التاريخية للدولة الإسلامية، والتي وصلت إلى أوج تقدمها وتفوقها وتمدنها بفضل ذلك، وعلى هذا الأساس ليس من مصلحة الأمة الإسلامية أن يطول التفرق  لأن الأصل هو الوحدة، وهذا هدف سيتحقق – حسب نظرية أم القرى – من خلال ضرورة بروز الوعي والاهتمام بهدف إحياء الإسلام (الشيعي) على اعتبار أنه هو السبيل الوحيد لحياة الإنسان والجماعة، و السعي وبذل الجهود لإقامة الحكومات الإسلامية في الدول المختلفة ووفق تصور المذهب الشيعي كخطوة أولى، وهذا سوف يكون من خلال الدور المحوري للشعوب في تشكيل هذه الحكومات، وتوظيف مختلف الوسائل والطرق سواء كانت انتخابات، استفتاءات …، وفي بعض الأحيان قد تؤدي النهضة وثورة الشعوب (الانتفاضات) والخروج إلى الشوارع إلى هذه النتيجة، ولا ضير في ذلك إذا كان يحقق الهدف المنشود منه، وهو إقامة الحكومة الإسلامية في النهاية  التي ستكون تابعة لصولجان ولي الفقيه.

تُدرك إيران  بأنها باتت تقاتل نيابةً عن أمريكا والغرب و"إسرائيل" في هذه اللعبة لتضيف إلى ما راكمته الثورة الإسلامية من إنجازات، ولتدمير الأمة الإسلامية  السنية منذ وصولها  للسلطة؛ سيما بعدما أصبحت  المساهم الأول في تدمير العراق وسوريا  واليمن  ولبنان وأفغانستان  … والقائمة تطول، متوهمة بأنها ستستطيع أن تضعها تحت جناحيها مستنسخة في ذهنها الأحلام الشاهية الإمبراطورية، ولعل ما سمح لأحلامها أن تبالغ في تحليقها، وصول الحوثيين و"حزب الله" والعلويين والشيعة في العراق وأفغانستان ونماذج أخرى من العينات العشوائية والعبثية   إلى السلطة  في بعض دول المنطقة، إلى جانب حالة الوهن والتفكك العربي غير المسبوقة ؛ ما أغراها باعتماد مشروعها  القائم على الطائفية والتوسع في خطوة تنطوي على حماقة سياسية كبيرة ، ومسلك عدواني مخيف .

ما ساعد دولة ولي الفقيه فقد تبدى في ثلاثة أمور:

أولهما: اعتقاد دولة الولي الفقيه أن التاريخ يمكن أن يُعيد نفسه من خلال إعادة بناء مجد الإمبراطورية الفارسية من جديد؛ فالدولة الإيرانية بإمكانها التوسع والهيمنة مستغلة الفراغات السياسية، وحالة السيولة الطائفية المحيطة بها سواء كانت إقليمية أم دولية.

الأمر الثاني أن الولي الفقيه  أحسن تقدير امكانيات الخصم العربي المتهاوي أصلاً، لأنه  بالفعل خارج دائرة التأثير السياسي والعسكري لهذا قام بتعزيز رهاناته للقضاء  على  ما تبقى من أطلال الأنظمة السياسية من خلال  دعمه ودفعه للأقليات الشيعية والخلايا النائمة و للحركات الإرهابية من الذئاب البشرية  من (داعش والقاعدة)و  وما شاكلهما، لتنهش  في الداخل العربي وفي عمق أزماته، الأمر الذي منحها  فرصة للفتك بجسد  الأمة  العربية  وفق هندسة مذهبية وطائفية، تمهيداً لبناء الدولة الإقليمية العظمى بحلول 2030م، وأهلها للدخول في مزاد  بازار التسويات كما كان يحلم لتحقيق أكبر قدر من المكاسب وتحويل التحديات والمخاطر إلى فرص ينبغي اقتناصها .

والأمر الثالث أن ما حصل عليه النظام الإيراني من مكتسبات ومزايا سياسية وجيواستراتيجية من خلال إشعال فتيل الأزمات الإقليمية وتدمير الأمن العربي على امتداده؛ كلها مزايا تصب في خانة المصالح القومية الإيرانية، كما عبر عن ذلك قائد الحرس الثوري الإيراني الجنرال “محمد علي جعفري” قبل أيام عديدة.

فضلاً عما سبق فقد شكلت البوابة العراقية والسورية ممراً مثالياً للعبور إلى المتوسط لاستكمال حلقات بناء الهلال الشيعي لتشييد الكردوار الإيراني؛ وفرصة مثالية لتكسير أضلاع المثلث السني، تمهيداً للإجهاز عليه إلى غير رجعة.

ولو قرأ الولي الفقيه تاريخ الدولة الفارسية بتعمق لاستخلص العبر والدروس، وفي مقدمتها أن التاريخ كان بالمرصاد لمنع الفرس من العبور خارج الحدود المفترضة لهم؛ النتيجة الحتمية أن الولي الفقيه سيسعى لتحقيق حلمه الطائفي “المقيت”   من خلال الخيار “التدميري، الذي يعتمد على توسيع حدود بث العنف والفوضى وتصدير الخراب إلى عموم المنطقة منطلقاً من العراق وسوريا ولبنان واليمن مع تعديلات حتمية في العناوين.

-المراجع-

[1] – (خميني، صدور انقلاب، تهران، مؤسسة نشر إمام، 1993، ص 73-74)

[2] – (مقدمة قانون أساسي إيران، ص22).

[3](خميني، كلمات قصار، ص 134-135).

[4](الخميني، مواقف وآراء، نشر قومس، 1378، ص 17-18).

[5] – (صحيفة نور، جلد 2، ص 115، جلد 14، ص 66، جلد 17، ص 252).

[6](صحيفة نور جلد 10، ص 230، جلد 13، ص 45، جلد 22، ص 265)

[7] – (خميني، جنك وجهاد: از بيانات وإعلاميه هاي إمام خميني: دفتر دوم جنك وجهاد، تهران، جابخانه سبهر. هناك آلاف البينات للحث على الاستمرار في هذه الحرب، وشبهها بعاشوراء، إن المشكلة التي تبرز هنا أن كل حادثة تشبه بجهاد الحسين بن علي -رضي الله عنه).

[8] – (صحيفة نور، مجلد 12، ص 13-14).

[9] – (رفسنجانى، مصاحبه با روزنامه كيهان، 15/7/1994).

[10] – (كان رفسنجاني يرأس عدة مؤسسات في إيران ومن ضمنها مجمع تشخيص مصلحة النظام الذي يرسم السياسات العامة في إيران، ويعتبر رفسنجاني مهندس العلاقات مع الولايات المتحدة و"إسرائيل"، ففي عهده تمت أكبر عملية بيع سلاح بين إيران وإسرائيل، عرفت بفضيحة إيران غيث الذي كان رئيسا للجمهورية الإيرانية).

[11] – (هناك كتاب مهم تحدث عن هذا الموضوع بشكل مفصل، وهو كتاب للعسكري الأمريكي الذي أوكلت له مهمة التنسيق مع الإيرانيين، وهو أوليفر نورث، عنوان الكتاب: تحت النار، ترجمة إلياس فرحات، دار الحرف العربي، 1993).

[12](يقول الخميني: ينبغي للفقهاء أن يعملوا فرادى أو مجتمعين من أجل إقامة حكومة شرعية تعمل على إقامة الحدود، وحفظ الثغور، وإقرار النظام. وإذا كانت الأهلية تلك منحصرة في فرد، كان ذلك عليه واجبا عينيا، وإلا فالواجب كفائي. خميني، صحيفة نور، مرجع سابق، جلد 5، ص 78-79).

[13] – (وتعني كلمة إيران باللغة الفارسية مكان الآريين، وهو العرق الإيراني المتفوق، حيث يفتخر بذلك الإيرانيون، ويعتبرون أنفسهم مثلهم كمثل الشعب الألماني الذي طالما اعتز هتلر بهذا العرق، والآريون طائفة اختلطت بين الهنود والأوربيين، وقد قسموا إلى ثماني طوائف. هذا هو التعريف الذي تذكره المصادر الفارسية. معجم فرهنك المعين، المجلد الخامس، ص 206).

[14] – (الثومان كلمة عسكرية معناها باللغة الفارسية تقسيم عسكري بمعنى فرقة مكونة من عشرة الآف جندي، حتى يبقى مفهوم القوة والشوكة والغلبة والتفوق ماثلا في ذهن الشعب الإيراني، معجم المعين، مجلد1، ص102).

[15] – (تقسم الأشهر الإيرانية إلى (12) شهرا، وكل شهر من هذه الأشهر يرمز إلى إحدى معالم الديانة الزرداشتية، فشهر فروردين وهو الشهر الأول من السنة الفارسية يرادفه الحادي والعشرين من آذار، ومعناه باللغة الفارسية آلهة الأطهار التي عبدها الفرس قديما، وشهر أرديبهشت معناها: آلهة القدسية، وخردلد: هو آلهة المياه والأشجار، تير: آلهة الحيوانات، مرداد: آلهة الشتاء، شهريور: آلهة البحار، مهر: آلهة الشمس والنار، آبان: آلهة الماء، آذر: آلهة النار، دي: آلهة الخريف، بهمن: آلهة الجمال.  وهناك معان آخرى لهذه الأشهر، حيث أوردت المراجع الفارسية التي تناولت هذا الموضوع بأن هذه الأشهر ترمز إلى بيوت النار الكبرى التي عبدها الفرس، فريدون هرمداس، تاريخ قديم إيران، تهران، انتشارات تاريخي جلد يكم، ص 91-94، جلد دوم ص 217-218).   أما ما يلفت النظر فهو إحياء إيران الثورة الشيعية اليوم للعادات الزرداشتية القديمة والتي تمثل طقوسها من خلال عيد النوروز ( نوروز باللغة الفارسية معناها يوم جديد، وهو اليوم الأول من السنة الفارسية الإيرانية، ويطلق عليه الفرس تسمية آخرى وهي عيد بهار، وإحدى أهم أسباب  ظهور هذا العيد هو أنه في هذا التأريخ انتصر زرادشت على الشيطان، وهناك جوانب تذكرها كثير من المراجع الفارسية وهي ترتبط بأساطير لا متسع لذكرها الآن، وتعني بهار باللغة الفارسية هو الربيع، وما يرتبط بهذه النار من طقوس زردشتية مثل: إشعال النار، والقفز من فوقها، والدعاء بالقول يانار خذي مرضي واصفراري، وامنحيني نورك وبهاءك.  وتعرف هذه الطقوس به مرسم أتش افروزي ومعناها حفل إشعال النار، وما يرتبط بهذا العيد من طقوس زرتشية مثل: جهار شنبه سوري، وهو آخر أربعاء من شهر إسفند آخر شهر من السنة الإيرانية، ومن المراسم إشعال النار في البيوت لحرق الآثام والذنوب، وتطهير المنزل من الشؤم والنجاسة العام الماضي، ويتم إخراج النار لخارج المنزل، ويحرم إطفاء النار حتى تنطفئ هي لوحدها، أما اليوم الثالث عشر من عيد النوروز فيعرف باللغة الفارسية بسيزده بدر، وفي هذا اليوم يجب الخروج من المنزل إلى الحدائق والأماكن العامة؛ لأن هذا اليوم هو يوم شؤوم بالنسبة للفرس، ويجب فيه تأجيل جميع المناسبات والأفراح، ويستحب وضع ما تم زراعته في إناء قبل بداية عيد النوروز في الماء نظرا لقدسية الماء في الديانة الزرتشتية والنار،  لدرجة جعلت  المناسبات هي الأعياد القومية للشعب الإيراني ، انظر للمزيد : د. نبيل العتوم ، الأساطير في الكتب المدرسية الإيرانية ، مركز العصر للدراسات الاستراتيجية والمستقبلية ، لندن ، 2014).

[16](جاء في الدستور أن دستور جمهورية إيران الإسلامية يعكس البنية الثقافية والاجتماعية والسياسية والاقتصادية للمجتمع الإيراني القائم على أساس المبادئ والقواعد الإسلامية، المرجع: مقدمه قانون أساسي إيران).

[17](مقدمة قانون أساسي، ص 11).

  ) – [18]قانون أساسي، المادة التاسعة)

[19](قانون أساسي إيران، المادة الحادية عشرة).

[20] – (قانون أساسي إيران، المادة 154).

[21](مقدمة قانون أساسي إيران).

[22] – (قانون أساسي، المادة الثالثة، الفقرة 16).

[23](سعيد شكوهى، تأثير انقلاب إسلامي بر روابط إيران باكشورهاى عربى، مجلة علوم سياسي، شماره 147، تير ماه، 1374، ص 34-35).

 [24] – (بيزن ايزدى، در آمدى بر سياست خارجى إيران، قم، مركز انتشارات دفتر تبليغات إسلامى حوزه علميه، قم، 1377، ص 60-66. جواد لاريجانى، مقولات في الاستراتيجية الوطنية، ترجمة وتحليل د. نبيل العتوم دار الدراسات العلمية، مكه، 2013).

[25] – (اصطلاح يعني العلاقة بين الجغرافيا والمذهب).

_________

 

المصدر : مركز أمية للبحوث والدراسات الاستراتيجية

7/11/1439

20/7/2018

 

 



مقالات ذات صلة