قراءة في مستقبل حزب الله اللبناني

بواسطة علي حسين باكير قراءة 590
قراءة في مستقبل حزب الله اللبناني
قراءة في مستقبل حزب الله اللبناني

قراءة في مستقبل حزب الله اللبناني

علي حسين باكير

يعيش حزب الله الآن مرحلة صعبة جدّا قد تحكم عليه بأن يصبح مجرّد حزب سياسي لبناني شأنه شأن باقي الأحزاب على الأرض اللبنانيةّ و هو ما سيجرّده من ذراعه العسكري الذي اكسبه شهرة تعدّت حدوده و قدراته و أدخلته في معادلات إقليمية و دولية كبيرة.

هذا و قد لاحظنا من خلال قراءاتنا سواء لمواقف الكتّاب أو الناس العاديين في الوطن العربي و خارج لبنان, أن هناك صورة مختصرة و نمطيّة عن حزب الله تسوقها العاطفة و تغيب عنها الواقعية من خلال اجتزاء الأحداث ورؤيتها من منظور منفصل عن سياقها التاريخي, ودونما النظر إلى الخلفيات والأبعاد المحيطة لنشأة هذا الحزب وحدود الأدوار المنوط به, وهو ما يجافي ويغالط طبيعة التحليل السياسي المنطقي و ربما يعود جزء من ذلك أيضا إلى تعقيد المشهد الداخلي اللبناني الذي يصعب فهمه بشكل واضح على العديد من الناس أو المراقبين من الخارج. و من هذا المنطلق نسعى لإعطاء فكرة دقيقة وواضحة عن حزب الله من المنظور الداخلي اللبناني و ربطها بالجانب الإقليمي و الدولي كي تتضّح صورته بشكل جلي أمام المتابعين و المهتمّين بشأن الحزب و مصيره في المستقبل في ظل التحولات الإقليمية و الدولية الراهنة و التي تنعكس بقوة على الساحة اللبنانية.

حزب الله الماضي:

* نشأة حزب الله:

خلافا للاعتقاد السائد, فانّ حزب الله كتنظيم سياسي جاء بعد ولادة الذراع العسكري بمعنى أن الانطلاقة العملية للحزب كانت عام 1982 , فيما ولد الحزب السياسي بعد ذلك بثلاث سنوات أي في العام 1985. و من المغالطات الشائعة أن حزب الله كان مسئولاً عن عملية التفجير التي ضربت مقر قوات المارينز الأمريكيين والفرنسيين والتي أدت إلى انسحاب القوات الأمريكية من لبنان, و قد أكد الأمين العام الأول لحزب الله صبحي الطفيلي مرّات عديدة أنهم لم يقوموا بهذه العملية وأنّ إحدى الجهات سبقتهم إلى هذا الشرف العظيم !

على العموم لقد جاءت ولادة الحزب في ظروف حروب خارجية وداخلية عنيفة شهدها لبنان, و قد كان لإيران الدور الأبرز في ولادة الحزب اثر انتهاء دور حركة أمل الشيعية وبعد أن تورّطت في مجازر كبيرة في حق الفلسطينيين في لبنان والذين كان البعض يعتبرهم جيش السنّة في لبنان, ولم تعد حركة أمل بشقّها العسكري قادرة على ترويج الخط الإيراني, فكان لا بد من إنشاء حزب آخر ينقل إيران إلى المنطقة ويربطها بالقضية الفلسطينية ويسمح لها بموطئ قدم و يجعلها على صلة مباشرة بالأحداث فكان أن تمّ إنشاء حزب الله.

* علاقة حزب الله بإيران:

لا نغالي إن قلنا أن حزب الله هو حزب إيراني في لبنان , ففي البيان التأسيسي للحزب والذي جاء بعنوان "من نحن و ما هي هويتنا؟" عرّف الحزب عن نفسه فقال: "...إننا أبناء أمّة حزب الله التي نصر الله طليعتها في إيران, وأسست من جديد نواة دولة الإسلام المركزيّة في العالم ...نلتزم بأوامر قيادة واحدة حكيمة عادلة تتمثّل بالولي الفقيه الجامع للشرائط و تتجسد حاضرا بالإمام المسدّد آية الله العظمى روح الله الموسوي الخميني دام ظلّه مفجّر ثورة المسلمين و باعث نهضتهم المجيدة..", و قد عبّر إبراهيم الأمين (قيادي في الحزب) عن هذا التوجّه عام 1987 فقال "نحن لا نقول إننا جزء من إيران؛ نحن إيران في لبنان، ولبنان في إيران".

و يجب على المتابعين أن يرصدوا هذا الشق جيدا كي يفهموا فيما بعد أين تكمن مفاتيح حزب الله, خاصّة أن العديد من الناس لا يعلمون أن الأمين العام الحالي لحزب الله حسن نصر الله هو الوكيل الشرعي لعلي الخامنئي, بمعنى انّه ظلّه في لبنان و هذا يتعلّق بنظرية الولي الفقيه والتي تفرض على أعضاء الحزب و مناصريه في لبنان أتباع مرشد الجمهورية الإيرانية في كل توجيه يقوله.

على أية حال عملت إيران على الاهتمام بالحزب اهتماماً كبيراً وعلى تصنيع سيرته والحرص على مثاليتها للاستفادة منها فيما بعد, و تكفّلت إيران بالدعم المالي للحزب و الذي كان العامل الأوّل في اجتذاب المقاتلين إلى صفوفه وجاء في كتاب الحروب السرية:"بلغت الأجرة الشهرية للمقاتل خمسة آلاف ليرة لبنانية، وهي أعلى أجرة تقاضاها مقاتل في لبنان عام 1986، لدرجة أن مقاتلي أمل راحوا بـهدف الكسب يهجرون صفوف الحركة للانخراط في حزب الله".

وبدا فيما بعد أن هناك توزيعاً للأدوار الشيعية في لبنان, ففيما تقوم "أمل" بتمثيل الشيعة سياسيا و الحفاظ على حقوقهم, يتولى حزب الله الأعمال العسكرية بعيدا عن السياسة والشؤون الداخلية, و منعا من التطاحن على المغانم و المكاسب الداخلية و خوفا من تشوّه صورة الحزب و عدم الاستفادة منها فيما بعد, قامت إيران بالتكفّل بجميع احتياجات الحزب المالية و التي بلغت عام 1990 بثلاثة ملايين دولار ونصف المليون حسب بعض التقديرات, وخمسين مليون عام 1991، وقُدِّرت بمائة وعشرين مليوناً في 1992، ومائة وستين في عام 1993, وتشير بعض المصادر إلى ارتفاع ميزانية ''''''''حزب الله'''''''' في عهد رفسنجاني إلى 280 مليون دولار. هذه الميزانيّة الكبيرة جعلت الحزب يهتم فقط بالأوامر التي تملى عليه دون التّدخل في نزاعات داخلية ضيّقة و ساعدته على توسيع قاعدته المقاتلة و الشعبية فاشترى ولاء الناس و حاجتهم و ضمن ولاؤهم و إخلاصهم له فهم منه و هو منهم.

وهكذا بدأت تظهر تباعًا المؤسسات الصحية والاجتماعية والتربوية، فمؤسسة "جهاد البناء" تضم مهندسين وفنيين وعمالاً، مهمتها منذ 1988 مسح الأضرار الناجمة عن الاعتداءات الإسرائيلية، وترميم وإعادة بناء ما تهدم من منازل، إلى حفر الآبار والملاجئ والمساهمة في بناء المستوصفات والمدارس، وإعداد الدورات التدريبية الزراعية. كما قدمت خدمات بيطرية في الجنوب والبقاع عبر مركز الطب البيطري التابع للمؤسسة، وتوزيع حوالي 120 ألف نصبة مثمرة .

وكذلك فعلت "الهيئة الصحية الإسلامية" في مجال الخدمات الطبية في حالتي الحرب والسلم منذ إنشائها في 1984، فعملت على نشر مراكزها ومستوصفاتها ومستشفياتها في المناطق الفقيرة؛ بحيث بلغ عدد فروعها في بيروت والبقاع والجنوب حوالي47 فرعًا. أما جمعية "مؤسسة القرض الحسن" فتأسست في 1982 وهدفها إحياء القروض غير الربوية وتقديمها للمحتاجين".

وتعمل "جمعية الإمداد الخيرية الإسلامية" التي تأسست في 1987 من أجل "الوصول إلى اكتفاء العوائل ذاتيًا، ورفع مستواها التربوي والعلمي ورعاية العجزة وكفالة الأيتام". وتهدف "مؤسسة الشهيد" إلى الاهتمام التربوي والتعليمي والاجتماعي بأسر الشهداء من خلال متابعة أوضاعهم وهم في داخل أسرهم عبر العلاقة المتواصلة مع المؤسسة والعاملين فيها.أما المؤسسة "الإسلامية للتربية والتعليم" فحديثة العهد نسبيًا إذ يعود تأسيسها إلى عام 1993، وقد عملت أيضا على تأسيس المدارس في معظم المناطق اللبنانية لرعاية أبناء الشهداء وتعليمهم، وإعدادهم إعدادًا عقائديًا إسلاميًا.

كما شجعت المقاومة ودعمت هيئات أهلية مؤيدة لها كهيئة "دعم المقاومة الإسلامية" التي قامت بحملات لجمع التبرعات، والتبرع بالدم، وعقد الندوات، وإقامة المعارض في المناطق المختلفة في لبنان للتعريف بأهداف المقاومة، وجمع التبرعات لها، وتبليغ رسالتها وحشد التأييد لها، وخصوصًا في أوقات العدوان، أو في أثناء العمليات النوعية الكبيرة التي تقوم بها ضد قوات الاحتلال.

هكذا بات الحزب جزءًا من المعادلة الاجتماعية- السياسية في لبنان، وتجنب بذلك أن يبقى حالة عسكرية خاصة أو معزولة. و قد ساعد هذا الخيار الاجتماعي السياسي لحزب الله على بلورة سياسات "التكيف" التي اعتمدها في مواجهة التحولات السياسية الداخلية من دون أن تبدل أولويات الحزب في المواجهة الدائمة لجيش الاحتلال.

و يمكن تلخيص المنافع المتبادلة بين الحزب و إيران في أنها تكمن بالنقاط التالية:

أولا: يقوم الحزب بتصدير مفاهيم الثورة الإيرانية بكافّة مضامينها الدينية و الاجتماعية إلى البيئة اللبنانيّة و تلتزم إيران مقابل ذلك بجميع الأعباء المالية و المترتبات التي يتطلبها هذا العمل.

ثانيا: تقوم إيران بتأمين السلاح و العتاد الكامل لحزب الله لتحرير جنوبه (ليس مقاتلة إسرائيل) و ذلك ضمن معادلة داخلية محدودة لا يمكن تجاوزها إلا بالخطابات والاستعراضات و الكلام, و الهدف من ذلك أن يلقى حزب الله شهرة كبيرة في العالم الإسلامي تمهّد الطريق له لتصدير مفاهيم الثورة الإيرانية من تحت البساط و دون أية مشاكل أو حزازيات, والهدف إعطاء ثقل لإيران في المنطقة العربية و العمل على اختراقها تمهيدا للسيطرة عليها في المستقبل.

ثالثا: يؤمّن وجود حزب الله بذاته و كونه تابعاً لإيران موطئ قدم للسياسة الإيرانية التي تسعى إلى استغلال مسألة معاداتها لإسرائيل إلى ابعد حدود على الرغم من بعدها الجغرافي, و يعتبر حزب الله صلة الوصل في الموضوع, و يشكل ورقة عالية للمساومة على أي وضع من الأوضاع المصيرية التي تتعلق بإيران في أي وقت من الأوقات على اعتبار أنها تستطيع تفجير الوقت عندما تريد و تهدأته عندما تريد أيضاً. بالإضافة إلى أدوار أخرى متحركة تفرضها كل مرحلة من المراحل سنتحدث عنها لاحقاً.

* علاقة حزب الله بسوريا:

أمّا عن علاقة الحزب بسوريا, فهي علاقة قويّة جدا ما كان الحزب ليستطيع أن يقف على قدميه على كافة الصعد المادية و العسكرية و السياسية و أن يستفيد من المساعدات التي تعطيها إياها إيران لو كانت سوريا معارضة للخط الإيراني. إذا أن سوريا كانت بمثابة الختم الذي يتيح للتأشيرة الإيرانية الدخول إلى الأراضي اللبنانيّة. و قد سعت سوريا للاهتمام بحزب الله اهتماما خاصّا و هيأت له جميع المتطلّبات لاحتكاره العمل العسكري و استثنته من تطبيق بند اتّفاق الطائف القاضي بحل المليشيات العسكرية و سحب سلاحها و أمّنت له الدعم السياسي و الغطاء الإقليمي و ساهمت في تدريب العديد من عناصره. و اعتبر هذا الدور امتداد للتحالف السوري الإيراني, حيث رأت سوريا في إيران حليفاً استراتيجيا خاصّة اثر العداء المستحكم بين البعث السوري و البعث العراقي, و من الطرائف في هذا الموضوع أن الخميني و أنصاره من حزب الله كانوا يعتبرون البعث العراقي كافراً في حين أن البعث السوري كان من أقوى حلفائهم!! و حرصت على الاهتمام بالحزب بسبب المعرفة المسبقة أيضاً للنظام السوري بمدى التغلغل الإيراني في لبنان الذي شكل عمقا استراتيجيا لسوريا, ومن ثم كان الحرص السوري على مد الجسور مع شيعة لبنان وحصوله على فتوى من موسى الصدر بانتماء ''''''''الحركة العلوية النصيرية'''''''' للمذهب الإمامي الشيعي, وهو ما يعنى قدرا من الشراكة المذهبية مع إيران من ناحية ومع شيعة لبنان من الطرف الآخر. و قد قامت سوريا بعد ذلك بداية بمحاربة المجاميع المسلحة الفلسطينية عند دخولها إلى لبنان و نزع سلاحها، ثم قامت بضرب خناق على جميع الأحزاب السنّية التي تمتلك السلاح و اغتالت العديد من العلماء من بينهم المفتي حسن خالد كما يقول العديد من المراقبين, وكان ذلك قد أحدث صدمة كبيرة لدى الجماعات السنّية دفعتهم للانكفاء في ظل افتقارهم إلى أي دعم من أي جهة و المحاولات المتعددة لعزلهم عن فلسطين و عن دعم المقاومة الفلسطينية, في حين قامت سوريا في المقابل بتمجيد حزب الله و الترويج لصورته في صفوف السنّة السوريين و اللبنانيين لكي يبتعدوا عن نموذج الإخوان المسلمين الذين ارتكبت القوات السورية مجازر ضخمة في حقّهم من قبل و لإرسال رسالة مفادها أن شاهدوا كيف يسمع و يطيع الحزب الشيعي ما نمليه عليه فلماذا انتم تختلفون عنه؟!

على العموم كانت سوريا تريد ورقة في مواجهة إسرائيل بطريقة غير مباشرة تجنّبها خوض حرب خاسرة معها و تمكّنها من التفاوض بشروط أفضل, و لكن الأهم من هذا و ذاك أن تكون هذه الورقة شيعية, لانّ الورقة الشيعيّة يمكن التحكّم بها من خلال مرجعيتها ولأنّها لا تتصرّف من تلقاء نفسها و هذا ما لا يتوفّر في أي جماعة سنّية لاختلاف العقائد والأهداف, فالجماعات السنّية التي تجاهد هي غير معنيّة بمصالح الأنظمة و اهتماماتها وصلحها مع إسرائيل ولا تلتزم بالتالي بأي قرار خارجي يملى عليها, و ليس هدفها نشر مذهبها أو الترويج له أو لأي دولة بقدر ما هو مقاتلة العدو و تحرير الأرض. و هكذا وجدت سوريا ضالّتها في حزب الله.

و يمكن تلخيص المنافع السورية المتبادلة مع حزب الله في:

أوّلا: تأكيد و تنمية التحالف بين سوريا وإيران من خلال دعم حزب الله, إذ أن الدعم السوري لحزب الله يؤكّد متانة العلاقة مع إيران والالتزام بخطّها.

ثانيا: يعتبر حزب الله ورقة مهمّة جداً في العلاقة بين سوريا وإسرائيل أن كان لجهة تحسين شروط المفاوضات حول السلام الشامل أو إعادة الأراضي المحتلّة أو لجهة تجنّب مواجهة عسكرية بين إسرائيل و سوريا , حيث يستطيع الحزب توجيه ضربات لإسرائيل دون أن تكون الأخيرة قادرة على الرد على سوريا لعدم وجود أي دليل حسي يخوّلها القيام بالانتقام من سوريا. (تغيّرت المعادلة واطر اللعبة بعد الانسحاب الإسرائيلي من جنوب لبنان)

ثالثا: يضمن الحزب بالمقابل وصول المساعدات عبر سوريا , كما انّه يضمن قيام السوريين بتذليل أية عقبات أو اعتراضات داخليّة في لبنان على توجّهه على اعتبار أن للوجود السوري تأثير كبير على كافّة الفرقاء في لبنان.

رابعا: يوفّر وجود حزب الله في لبنان عناء قيام سوريا بفتح جبهة لديها على صعيد المقاومة في الجولان مثلا لأنّ الذين سيقاومون حينها لن يهتمّوا كما شرحنا لأهداف النظام كما أن الرد الإسرائيلي سيكون على الجيش السوري حينها و ليس على المقاومين.

بالإضافة إلى منافع أخرى كل في مرحلتها.

حاضر حزب الله:

بعد حوالي خمس سنوات من انسحاب إسرائيل من جنوب لبنان, لا بدّ لنا من قراءة ثانية لما تبدو عليه الأمور وللمجرى الذي سلكته, وإذ أننا لا ننكر دور حزب الله في إلحاق الخسائر ببعض الجنود الإسرائيليين إلا أنّه لا بدّ لنا من القول أن الانسحاب لم يتم بسب هذه الخسائر و إلا لو كان الأمر كذلك لانسحبت إسرائيل من قطاع غزّة منذ زمن بعيد ذلك أن خسائرها البشرية و الاقتصاديّة في قطاع غزّة تفوق ما أصاب الإسرائيليين في جنوب لبنان أضعافا مضاعفة. لا نريد أن نبخس القوم حقّهم و لكن نتساءل, لو كانت هجمات حزب الله وحدها هي السبب, إذا لماذا لم تنسحب إسرائيل من مزارع شبعا أيضاً على الرغم من أن حزب الله يصل إلى هذه المنطقة أيضاً و أصاب بعض الإسرائيليين فيها؟! أياً كان الأمر فما بعد الانسحاب الإسرائيلي ليس كما قبله.

* حزب الله بعد الانسحاب الإسرائيلي:

لقد كان الانسحاب الإسرائيلي انجازاً كبيراً و لكنّه في نفس الوقت خلق واقعاً جديداً على أساس أن الإسرائيليين كانوا يحاولون من خلال هذا الانسحاب إعادة رسم معالم اللعبة الجديدة و خطوطها و قد نجحوا في ذلك إلى حد بعيد, كانت اللعبة الجديدة تقتضي تحقيق العديد من الأهداف منها:

أولا: قيام إسرائيل بسحب ذريعة احتلال الجنوب من تحت بساط حزب الله الذي أزعجها كثيرا, فالانسحاب يعني انّه لم يعد هناك من مبرر لوجود الحزب طالما انّه يقول أن دوره ينحصر في تحرير أرضه.

ثانيا: إدخال العمق السوري في المعادلة الجديدة من خلال القول بأنّ أي هجوم من حزب الله من الآن و صاعدا سيقابله رد إسرائيلي على المواقع السورية في لبنان أو في العمق السوري أن اقتضى الأمر و هذا ما حصل فعلاً فيما بعد.

ثالثا: التمهيد للخروج السوري من لبنان على أساس أن كل من الطرفين كان يتمسك بخروج الآخر كمقدمة لخروجه هو, كما أنّ الانسحاب الإسرائيلي يتيح للقوى الكبرى و خاصّة أمريكا مصداقيّة اكبر عند ضغطها على سوريا للخروج من لبنان , و هذا ما حصل بالفعل في عام 2005.

و في الحقيقة فقد بدى واضحا أنّه و منذ انسحاب القوات الإسرائيلية من جنوب لبنان في مايو / أياّر من العام 2000 أنّ إطار اللعبة المصاغة إقليمياً بين سوريا و إيران من جهة و إسرائيل من جهة أخرى و المسموح لحزب الله التحرك ضمنه قد بدأ يضيق شيئاً فشيئاً ممّا همّش من دور الحزب و فعاليته و صيته الدعائي الذائع الانتشار , و اضطّره إلى تقليص عملياته المؤثرة لصالح أخرى أكثر دعاية. فبدأ الحزب من بعد الانسحاب الإسرائيلي بالاعتماد على ما يسمّى "الخبطات الإعلامية". و نعطي على كلامنا هذا شاهدين مهمّين:

الأوّل: موضوع تبادل الأسرى مع إسرائيل, فمن كان يتابع قضيّة تبادل الأسرى السابقة و التي تصب في نفس الاتجاه المتّبع, رأى عند انتهاء إتمام الصفقة أنها كانت مجرّد "ضوضاء إعلامية" لم يستفد الشعب الفلسطيني منها أي شيء, و كل ما هناك أن الحزب أراد تسليط الأضواء عليه من جديد بعد أن سبق و فقدها و أصبح نسياً منسياً, فقد أصدر نادي الأسير الفلسطيني آنذاك بيانا أوضح فيه أن معظم السجناء الفلسطينيين الذين أطلق سراحهم كانت مدّة أحكامهم ستنقضي في غضون أقل من شهر و بعضهم عدّة أيّام, و أن الباقي تمّ إطلاق سراحه لانّ السجون الإسرائيلية كانت تعاني من ازدحام شديد, و قد أبدى النقّاد عندها انزعاجهم من استغلال الحزب لهذه العمليّة و تصويرها على أنها انتصار لحسابه, فيما تمّ الكشف فيما بعد أن عدداً من الجثث التي استلمها الحزب على أساس أنها رفاه لشهداء لبنانيين كانت في حقيقة الأمر رفاه شهداء فلسطينيين و عندها بدت إسرائيل هي المنتصرة في هذه الصفقة.

الثاني: طائرة الاستطلاع "مرصاد 1 " و التي لا تخرج بدورها عن هذا الإطار الذي بدأ الحزب يعتمد عليه, و التي لم تكن سوى فقّاعة دعائية لإخفاء أمور أخرى بعيداً عمّا يجري في ساحات العراق و فلسطين. فيما كان التوقيت للعملية آنذاك يتزامن مع اتّخاذ الناس وجهة نظر معيّنة تجاه الشيعة بناءا على موقفهم في قبول الاحتلال في العراق و عدم انخراطهم في المقاومة المسلّحة, و المباركة الإيرانية للأعضاء المعينين من قبل أمريكا في مجلس الحكم و الموافقة على الخطط الأمريكية في المنطقة , و كون الحزب أداة إيرانية و أمينه العام وكيلا شرعيّا في لبنان لمرشد الثورة الإيرانية السيّد علي الخامنئي, كان لا بد من القيام بهذه الخطوة لتلميع الصورة التي أخذت عن الشيعة وقتها في العالم العربي و للتغطية على التعاون الإيراني الأمريكي و التنسيق الحاصل بينهما في تلك المرحلة, في وقت كانت فيه الجيوش الأمريكية تنكّل بأهلنا في الفلّوجة و الموصل و غيرها من مناطق المقاومة الشرسة في حين كانت المراجع العليا للطائفة الشيعيّة قد دخلت في سبات عميق دون أي تعليق ممّا أثار سخط العديد من الجهات في داخل العراق و في خارجه أيضا للموقف الشيعي ممّا يجري على أيدي القوّات الأمريكيّة خاصّة بعد أن تمّ الإعلان في عدد من التقارير أن أكثر من 80% من الحرس الوطني الذي يشارك في المجازر الأمريكية في الفلوجة هم من أتباع المرجع الشيعي السيستاني و الميليشيات الشيعيّة الأخرى , و حيث باركت إيران (الحليف لحزب الله اللبناني) عبر الرئيس الإيراني خاتمي ما يجري من تحرك للحكومة العراقية و القوّات الأمريكية فيما يسمّى محاولة ضبط الأوضاع, فما كان من حزب الله إلا أن حاول لفت و شد الانتباه عبر عمليّة "مرصاد 1" و تلميع الموقف الشيعي في الفترة الراهنة و التخفيف من السلبيات الظاهرة فيه عبر المشاركة فيما يسمى يوم القدس العالمي.

هذا فيما بات التوقيت الذي يعتمده الحزب لتحقيق "خبطاته الإعلامية" يشير أكثر فأكثر الى أنّ الحزب يفتقد الاستقلاليّة في القرارات المتّخذة, و أنّه مجرّد أداة أو ورقة إيرانية بدأت تفقد الكثير من فعاليّتها بعد الانسحاب الإسرائيلي من جنوب لبنان و إعلان أمريكا الحرب على ما يسمّى الإرهاب, و من الأمثلة على عدم قدرة الحزب على الرد فعليّا و عمليا على أي عملية اختراق إسرائيلية بريّة و بحريّة و جويّة للأجواء اللبنانيّة أو على أي تهديد إسرائيلي لحلفاء الحزب "سوريا و إيران" هو وقوف الحزب مكتوف الأبدي حين كانت الطائرات الإسرائيلية تقصف المواقع السوريّة في لبنان أو عندما قصفت تلك الطائرات مواقع تبعد فقط عدّة كيلومترات عن العاصمة دمشق في منطقة "عين صاحب".

* حزب الله و القضية الفلسطينية:

بطبيعة الحال, فانّ حزب الله من المنظور اللبناني هو حزب طائفي, بمعنى انّه يهتم بشؤون طائفته فقط و قد حرص حزب الله قدر الأمان على عدم إظهار هذا الوجه إلى المسلمين في الخارج حفاظا على صورته النمطية في عقليّتهم التي تعتمد العواطف, و عمد إلى جعل تركيزهم على مسألة خروج الإسرائيليين من جنوب لبنان و على إخفاء مدى قوّة الروابط مع إيران و على إخفاء وجهه الطائفي التي يحمله معه, و خير دليل على كلامنا انّه مثلا يحرص على أن يخلو "الآذان" في فضائية المنار من جملة "علي وليّ الله", فيما يضمّنها الآذان على المنار الأرضية, كما انّه يحرص على عدم تناول رموز السنة في مختلف العصور بسوء على فضائيته , و لكنه على أرضيته لا يوفّرهم, و فيما يدعو إلى الأخوة و الاتحاد مع المسلمين و نبذ الطائفية, يقوم كوادره بتوزيع كتيبات فاخرة خاصّة في الجامعات و التجمّعات و هي مختومة بختم (التعبئة التربوية حزب الله) تحتوي على شتائم و ألفاظ نابية و لعان بحق رموز السنّة التاريخيين و ذلك جهاراً نهاراً دون رادع و خاصّة في مناسباتهم, و أمثلة كثيرة لسنا بصدد ذكرها. لكن نقول انّه في كل المواضيع لا بدّ للحزب من استغلال اسم القضيّة الفلسطينيّة و التذكير بأنّ الحزب سيقف دائماً إلى جانب الانتفاضة الفلسطينية. إلى أن جاء إعلان الأمين العام بشكل واضح في خطابه في 25 أيار 2005 و الذي كشف فيه للمرّة الأولى عدد الصواريخ التي يمتلكها حزب الله في إطار التهديد و الوعيد و الويل و الثبور لإسرائيل حين أشار إلى أن شمال فلسطين كلّها تقع تحت مرمى صواريخه, إلا انّه استدرك لاحقاً بالقول أن الصواريخ دفاعيّة, و هذا ما يشير إلى أن المسألة دعائية و هو ما دأب حزب الله إلى فعله منذ أن غيّر الانسحاب الإسرائيلي من وظائفه, فترداد مسألة القضية الفلسطينية هو لابتزاز إسرائيل و إلزامها على البقاء في إطار اللعبة, و الدليل أن الحزب يعلم تماماً أن الاتفاقيات التي وقعها مع إسرائيل و منها "اتّفاقية نيسان" لجمته و فصلت الأرض الفلسطينية عنه و حرّمت شمال "إسرائيل" على قذائف و صواريخ حزب الله, لدرجة أن اتّهمه البعض اثر تحوّل موقفه منذ الانسحاب الإسرائيلي بأنّه حامي لحدود إسرائيل و مدافع عنها و هذا ما جاء على لسان الأمين العام الأوّل لحزب الله صبحي الطفيلي الذي قال: "لو كان أناس غير حزب الله على الحدود -يقصد الفلسطينيين و أهل السنّة- لما توقّفوا عن قتال إسرائيل مطلقاً, و الآن إذا أرادوا الذهاب يعتقلهم الحزب و يسلّمهم إلى الأمن اللبناني و تقولون لي انّه لا يدافع عن حدود إسرائيل!!" و تزامن هذا الكلام الخطير مع مقال للعميد سلطان أبو العينين أمين سر حركة فتح في لبنان, نشرته جريدة "القدس العربي" في 5/4/2004 بعنوان: " حزب الله يحبط عمليات المقاومة الفلسطينية من الجنوب" قال فيه: " حزب الله قال سنكون إلى جانبكم عند المحن، ولكننا منذ ثلاثة أعوام نعيش الشدائد ولم نعد نقبل شعارات مزيفة من احد. ففي الأسبوع الأخير أحبط حزب الله أربع محاولات فلسطينية علي الحدود و قامت عناصر حزب الله باعتقال المقاومين الفلسطينيين وتقديمهم للمحاكمة, وأكد العميد أبو العينين أن الانسحاب الإسرائيلي من الجنوب اللبناني في أيار تم ضمن ترتيبات أمنية واتفاق امني بأن لا تطلق طلقة واحدة علي شمال فلسطين من جنوب لبنان، وهذا الاتفاق يطبق منذ الانسحاب الإسرائيلي، فلم يتمكن أي مقاوم من اختراق الحدود الشمالية وجرت أكثر من محاولة من جميع الفصائل الفلسطينية وجميعها ضبطت من حزب الله وقدمت إلى المحكمة" و أضاف " أن حزب الله يريد المقاومة كوكالة حصرية له وحصرا في مزارع شبعا، ولا ينتظر أحدا من حزب الله أن يقوم بقصف شمال فلسطين بالصواريخ وأنا شاهد علي ما يجري. وأشار إلى أن سيطرة حزب الله علي المقاومة من الجنوب اللبناني نابعة من اتفاقيات وترتيبات أمنية، أي اتفاقيات مع إسرائيل بواسطة طرف ثالث، وقال: علي الشعب الفلسطيني أن لا يعول لا علي حزب الله ولا علي حزب الشيطان، بل عليه الاتكال علي نفسه فقط لان لحزب الله أولوياته ومواقفه السياسية، وهو يريد أن يقاتل بآخر فلسطيني منا علي ارض فلسطين ونحن نريد من حزب الله موقفا صريحا وواضحا".

مستقبل حزب الله:

ليست المرة الأولى التي يطرح فيها مستقبل حزب الله على بساط البحث، ففي كل مرّة يحدث فيها تطوّر إقليمي أو دولي يخصّ لبنان أو إيران أو سوريا, يتم طرح موضوع حزب الله و مستقبله, خاصّة أن مصير الحزب ليس مرهونا بالساحة اللبنانية وحدها كما سبق و رأينا, فهو له امتدادات خارجية و قراره ليس داخلياً محضاً و له مرجعية الولي الفقيه. و على العموم فقد كان طرح مصير حزب الله في ثلاث مرات سابقة هي:

الأولى: مع ظهور احتمالات التسوية السلمية على المسار السوري الإسرائيلي في وايت بلنتيشن في عهد الرئيس الأميركي السابق بيل كلينتون, حيث طرحت قضية الحزب بسبب علاقته مع سورية وتوظيفه في إطار الإستراتيجية السورية تجاه إسرائيل.

الثانية: أثناء إعلان إسرائيل عزمها الانسحاب من جنوب لبنان, حيث طرحت تل أبيب شروطا تتعلق بتسوية أوضاع الحزب, وذلك في إطار المسار اللبناني الإسرائيلي, لكن القضية لم تحسم نتيجة لانسحاب إسرائيل الانفرادي دون اتفاق مع الحكومة اللبنانية.

الثالثة: في منتصف التسعينيات مع حدوث توتر في العلاقات السورية الإيرانية, حيث كانت هناك علاقات قوية لسورية مع الولايات المتحدة التي كانت تضغط في اتجاه وقف دعم دمشق للحزب باعتباره منظمة تهدد أمن إسرائيل.

الرابعة: بعد اغتيال الحريري و انسحاب القوات السورية, حيث بدأت تطرح قضية الحزب بشكل متصاعد داخل وخارج لبنان .

لكنّ المستقبل و أن كان من الصعب علينا التنبؤ بما سيحمله, إلا انّه بالضرورة قد لا يخرج عن ثلاث سيناريوهات لوضع الحزب مستقبلا فيما يخص الإصرار على نزع سلاحه وفق القرار 1559.

* السيناريو الأوّل: نزع سلاحه عبر مساومات داخلية:

و يفترض هذا السيناريو أن يتّفق معظم الفرقاء اللبنانيين على أن ينزع حزب الله سلاح اعتمادا على عدد من الحجج منها:

أولا: إن اتّفاق الطائف قد نصّ صراحة على سحب سلاح جميع الميليشيات اللبنانية (بما فيها تلك التي كانت تقاوم الاحتلال أيضاً مثل أمل و الشيوعي و غيرهم) و أن استثناء حزب الله من هذا النص كان بقرار سوري و بدعم إيراني, و حيث أن القوات السورية انسحبت و إن الجميع متمسك بتطبيق اتّفاق الطائف فانّه يجب على حزب الله أن يسلّم سلاحه.

ثانيا: بما أن الجميع يطالب بدول ذات سيادة و استقلال, فمنعا للتدخلات الخارجية التي قد تنجم عن قيام الإرادة الدولية بتطبيق باقي بنود القرار 1559 القاضي بسحب سلاح حزب الله ضمنيا, فانّه من الضروري فتح ملف حزب الله الآن بعيدا عن الالتفات للضغوط الخارجية, لأنه مسألة تمس سيادة ومستقبل لبنان, فلا يعقل أن يظل الجناح العسكري للحزب , ويظهر أنه دولة داخل الدولة, وأن الديمقراطية والسيادة تقتضي إزالة جميع صور التسلح غير الرسمي, وأن الجيش اللبناني والشرطة هي الجهة الوحيدة فقط التي ينبغي لها أن تحتكر القوة, وتستخدمها في حماية النظام الداخلي وفرض القانون, والدفاع عن سيادة واستقلال لبنان.

ثالثا: لا يمكن لحزب الله من الآن و صاعداً أن يكون ممثلاً داخل الحكومة وأن يكون لديه جناح مسلّح, لأنّ ذلك سيثير حساسيات الطوائف الأخرى فحزب الله في النهاية جزء من المجتمع اللبناني و حتى لو تجاهلنا تصرفاته و بيئته , فاّنه يبقى في النهاية طائفيا و هذه هي واقع الحال في لبنان, لذلك إن أصر على حصّته عليه أن يتخلى عن سلاحه.

و يتوافق هذا السيناريو مع مغريات أمريكية بالدرجة الأولى و فرنسية فيما بعد بأن يتم إعطاء حزب الله دوراً سياسيا كبيرا في لبنان على غرار الأحزاب الشيعية في العراق مقابل أن يقوم بالتخلص من أسلحته أو يجد لها مخرجاً ملائماً. لكن يبدو أن المشكلة في هذا السيناريو أن الفرقاء اللبنانيين الذي كانوا يطالبون بنزع سلاح حزب الله توزعوا بين مؤيد و معارض نتيجة مساومات و تحالفات داخلية مصلحية, فضاع الهدف الأساسي أو اجّلوه على ان لا يتورطوا هم به ليتركوا فيما بعد للمجتمع الدولي أن يقرر.

على العموم و في جميع الأحوال يبدو أن هذا السيناريو صعب التحقيق إلى الآن, أو قد يتم تدريجياً و على دفعات.

* السيناريو الثاني: نزع سحاب حزب الله عبر انسحاب إسرائيلي من شبعا:

في حال فشل السيناريو الأوّل فهناك معلومات تقول أن أمريكا قد تلجأ إلى سيناريو آخر تقنع بواسطته إسرائيل بأن تنسحب من مزارع شبعا بغض النظر عن صاحب الحق و الملكية فيها سواء كانت سوريا أم لبنان, و بذلك تنتفي حجّة حزب الله بأنّه يقاوم من اجل دفع إسرائيل إلى الانسحاب من مزارع شبعا و بذلك يفقد حزب الله مبررات وجوده.

و هذا السيناريو يستخدم في حال اتّفقت القوى اللبنانية على أن تتجنب الخوض في مسألة سلاح حزب الله و بالتالي تجنيبه مفاعيل القرار الدولي و إفشال مخططات تفكيك حزب الله, و الخيار الوحيد أمام إسرائيل و القوى الدولية في حال استمرت الحكومة اللبنانية بتأكيد لبنانية مزارع شبعا و التحفظ على قول الأمم المتحدة بهذا الخصوص و في حال قامت سوريا بتقديمها اعترافا خطّيا بلبنانية مزارع شبعا (على الرغم من أن سوريا كانت قد صرّحت رسميا في مرات عديدة سواء عبر وزير الخارجية فاروق الشرع أو عبر وليد المعلم أو عبر مندوبها في الأمم المتّحدة أنّ مزارع شبعا لبنانية) أن تقوم إسرائيل بالانسحاب من مزارع شبعا كحل أخير للموضوع و بالتالي تسقط حجةّ وجود أراضي لبنانية محتلة و عليه لا يبقى هناك أي مبرر شرعي و قانوني لوجود حزب الله كمنظمة عسكرية مقاومة.

هذا فيما سيتزامن الانسحاب الإسرائيلي من مزارع شبعا مع تسليمها لقوات الطوارئ الدولية العاملة في جنوب لبنان ، وقيام الأمم المتحدة بالإجراءات المطلوبة لتحديد هويتها وتسليمها إلى أصحابها مع إعلان دولي بأن الأراضي اللبنانية كلها أصبحت محررة. و بالتالي توسيع مهام قوات الطوارئ الدولية لتصل إلى حدود مراقبة الوضع على كامل المساحة الجغرافية من منظار الأمم المتحدة وبدعم دولي كامل والبدء في مرحلة إنقاذ الاقتصاد اللبناني والعمل على تحضير مشاورات دولية غير معلنة لتنشيط الاستثمار في لبنان.

لكنّ المشكلة في هذا السيناريو أن إسرائيل ما لم تكن متأكدة من أنّ الدولة اللبنانية ستحكم سيطرتها على مناطق الحدود إضافة إلى قوات الأمم المتحدة فإنها لن تقوم بالانسحاب من شبعا, لأنّه في حال سحب سلاح حزب الله و انسحاب إسرائيل فانّ المنطقة ستتعرض لفراغ قد يتيح للمقاتلين الفلسطينيين في لبنان بدء عمليات مسلحة ضد إسرائيل, و لذلك فانّ بقاء حزب الله في هذا الوضع أفضل فهو يتكفّل في ضبط اللعبة و عدم دخول أي جهة أخرى على الخط من لبنان خاصّة إذا كانت من السنّة الغير ملتزمين بأي لعبة أو إطار سياسي و المستعدين للتصعيد حتى الانفجار.

*السيناريو الثالث: صفقة أمريكية – إيرانية تنهي وضعه العسكري:

لا طالما خلط الكثيرون بين الشعارات التي يجري تداولها بين إيران و أمريكا فأطلقوا الأحكام على أساسها و استنتجوا أن البلدين في حرب غير معلنة, و الحقيقة تقول أن هناك تعاون غير معلن يصل إلى حد التحالف في بعض المواضيع و يغيب في مواضيع أخرى, و لن نعيد شرح الموضوع و التعاون الإيراني مع الأمريكيين في أفغانستان و العراق و غيرها من الملفات و المواضيع. و لكن نقول أن إمكانية حصول صفقة إيرانية- أمريكية قد يحصل بنسبة عالية جداً, و المناوشات التي تحصل بين البلدين من حين إلى آخر ما هي إلا أسلحة في سلّة الضغوط التي يلجا إليها كل بلد لزيادة مكاسبه, و في النهاية تتم القسمة بينهم.

و ليس من المستبعد بناءا على ذلك أن تقوم الولايات المتحدة الأمريكية بعقد صفقة مع إيران, تقدم واشنطن بموجبها تنازلات لطهران فيما يتعلق بملف برنامجها النووي وعدم إحالته لمجلس الأمن الدولي, مقابل أن توقف إيران دعمها القوي, خاصة اللوجستي, لحزب الله وبالتالي يؤدي ذلك لإضعافه وسهولة الضغط عليه باتجاه نزع أسلحته.

* ماذا عن أمريكا و مغازلة الشيعة؟!

هناك من يرى انّه من مصلحة أمريكا و إسرائيل في الوقت الراهن الإبقاء على حزب الله ,لأنّه يشكّل عامل و صمّام أمان للحدود اللبنانية الإسرائيلية خاصّة في وقت تتصاعد فيه ما يسمى بالقوى الجهادية السلفية التي لا تقيم أي معيار للتوازنات الإقليمية أو المحلية أو الداخلية و التي لا تخشى شيئا في سبيل دك أمريكا و إسرائيل, و يعتمد هؤلاء في تحليلهم على أن عدد من الأمور في نظرتهم هذه تجاه حزب الله و منها:

أولا: بالنسبة لهم , الحزب يسيطر على مناطق تواجده بالكامل و بالتالي فانّ أطراً اللعبة معروف بينه و بين إسرائيل و لا يسمح لأي احد بالتدخل فيه و من بينهم من يدعي أنهم حلفاؤه و هم الفلسطينيون (كما سبق و اشرنا أعلاه اعتقل الحزب العديد من المقاتلين الفلسطينيين) و بالتالي فانّ التعامل مع الحزب واضح, على عكس ما سيتركه انسحابه من هذه المناطق.

ثانيا: أنّ الحزب "براغماتي", بمعني انّه يقبل الحوار و التفاوض و التبادلات حتى لو كان خاسرا بها كما حصل في تبادل الأسرى الشهير بين إسرائيل و حزب الله على الرغم من أن الحقيقة قد أظهرت أن إسرائيل هي التي استفادت من هذا التبادل إلا انّه تمّ تصوير العكس. و لو ترك الأمر لغير حزب الله من المجموعات التي قد تستغل وجود أي ثغرة للقيام بعملياتها, لما تفاوضوا و لا قبلوا كل أنواع الحوار , و بالتالي هذه ميزة لحزب الله علينا استغلالها. (هكذا يطرحون وجهة نظرهم).

ثالثا: أنّ الحزب أعلن في عدّة مرات و بشكل واضح انّه لا يتدخل في الشؤون خارج أراضي لبنان و أن مهمته هي تحرير أرضه و ليس تحرير فلسطين كما كان يزعم من قبل, و كان هذا الاعتراف صريحا و واضحا في خطاب نصر الله الأخير في 25 أيار 2005. بينما أي من الأحزاب الإسلامية غير مستعدة عن التضحية بحقها في فلسطين و تحريرها من الاحتلال الصهيوني الغاشم.

و ينادي أصحاب هذا التوجه إلى التقارب مع شيعة العالم لأنّ التعامل معهم يتم على أساس المصالح و ليس المبادئ, و أن الشيعة على الرغم من شعاراتهم إلا أنهم في حقيقة الأمر متعاونون جداً و منفتحون.

ويعتبر الباحث السياسي أغسطس نورتون, وهو صاحب مؤلفات عدة عن "حزب الله" والحركات الشيعية، أن "توجه الإدارة إلى التعامل مع الأقلية الشيعية في العالم الإسلامي" انطلاقا من "علاقتها برئيس الحكومة العراقية إبراهيم الجعفري رئيس حزب الدعوة الإسلامي في العراق الذي ارتبط اسمه بتفجير السفارة الأميركية في الكويت عام 1983"، مرده أن واشنطن "بدأت تعي التغييرات السكانية في المنطقة وأن الشيعة يشكلون نصف المسلمين في الدول الممتدة من لبنان إلى باكستان". ويصنف نورتون الذي أمضى أواخر التسعينات في لبنان، الجبهة اللبنانية بأنها "الثالثة ضمن إستراتيجية التقرب من الشيعة بعد العراق وإيران، وتحديداً في مرحلة ما بعد الانتخابات العراقية".

و على هذا الأساس فقد يجري تبديل في الإستراتيجية و يصبح حزب الله حليفا كما أصبح حزب الدعوة و فيلق بدر حلفاء للولايات المتّحدة في العراق بعد أن كانوا يدعون عليها بالويل و الثبور من إيران, سبحان مغيّر الأحوال فلا تتفاجؤا إن حصل ذلك!!

و على أية حال, فان مستقبل الحزب مرتبط بالمتغيرات الإقليمية و الدولية , وهو ليس مسألة داخلية كما يحب البعض أن يصفه , و قد رأينا مدى التشابك و التداخل في مختلف القضايا و الأمر مفتوح في النهاية على كل الاحتمالات.



مقالات ذات صلة