ماذا بعد البقيع؟ أداء دون المسؤولية (2-2)
ربيع الحافظ
بمعزل عن المواقف السياسية للدولة السعودية، وأخطائها، فإن بقاء سدانة الكعبة، وسقاية الحاج، وعمارة المسجد الحرام في كنف المدرسة المذهبية التي صانت المشاعر وحفظت الشعائر وأفشت التوحيد في ربوع جزيرة العرب، هو خط أحمر، بكل ما يقتضيه هذا الخط من مقتضيات. وأن الذود عنه عقد بين طرفين، الأول: المسلمون، والثاني: الدولة السعودية، التي شرفها الله تعالى، ثم شرفها المسلمون واتمنوها على مقدساتهم.
من سوء حظ الدولة السعودية أنها تحارب إعلاماً آيديولوجياً عقائدياً بإعلام تجاري أجير، يتقلب مع تقلبات السياسة، اقتطع من شريحة اجتماعية وسلوكية وآيديولوجية لا تلقى قبولاً في المجتمع العربي حتى وإن اختارت الصواب يوماً، وإذ يريد هذا الإعلام كسب الجمهور العربي في هذه المعركة، فإنه يخوض معه معركة مفاهيم وقيم شرسة في موقع آخر، ما يجعل السعودية تخسر مرتين؛ مرة مع خصمها إيران، وأخرى مع خصوم خصمها، الذين هم سواد الأمة، وتفشل في إشراكهم في معركة سهلة المعالم، فلا يكسبها هذا الإعلام إلا شماتة الشامتين. ليس هذا ما يقلق الإنسان العربي والمسلم، وإنما وقوع معركة المشاعر في الخندق الخاسر في الحرب الإعلامية وحرب التعبئة الجماهيرية.
في نفس الاتجاه، فإنه عند ضعف الدول، وارتخاء قبضتها الأمنية، وهو ما نحن فيه ومقبلون عليه، لن يكون القانون سيد الموقف، ولا قوات الأمن، مهما كبرت هذه القوات وحسن إعدادها وكثرت نياشينها، وإنما من يملك الشارع ويتقن إدارة الغوغاء، وهذا ليس من اختصاص الدول، وإنما المشروع الطائفي، الذي أداته الإعلام الجماهيري، وذخيرته الغوغائية، وسوقه العوام والمنافقون، وميدانه الشارع والساحات العامة، وإذا ما أعادت القوى الكبرى تعريف حصانها الأسود وسط هذه التحولات ـ وهو ما تفعله عادة ـ انهارت قلاع الملح، وإيران الشاه نفسها أقرب مثال.
لقد كانت الكعبة قبل الإسلام رمزاً سياسياً لقريش بين القبائل العربية، وهي اليوم جاهاً دينياً وسياسياً أخيراً للعرب بين الشعوب الإسلامية. بوصول شعارات المشروع الطائفي الفارسي إلى مكة، ودنوّه جغرافياً منها، يكون هذا المشروع قد بلغ أبعد نقطة في صراعه مع الكيان السياسي العربي، بعد أن قوض دوله شمالي جزيرة العرب، تحديداً العراق وبلاد الشام.
مثلت قريش قمة البراغماتية في إدارة صراعها مع الرسول صلى الله عليه وسلم (نعبد ربك عاماً وتعبد آلهتنا عاماً، إن أردت ملكاً ملّكناك، أو مالاً أعطيناك، أو نساءً زوّجناك،) لكن كان لديها خطوط حمراء، وهاجسها الأكبر هو صورتها عند العرب،كان سؤال: ماذا ستقول عنا العرب؟ يؤرّقها، وتجديدهم عقد السدانة لها ـ وإن ضمنياً ـ كان على رأس حساباتها، فلا يسعها أن يُرى أصحاب محمد في محيط البيت يؤدون طقوسهم الغريبة.
ما لم يتبدل قبل الإسلام وبعده، هو أن سدانة البيت شرف للسادن، وأن رضا الحاج حق عليه، وقد راعت قريش هذه المعادلة بحساسية ظهرت باستشعارها الحاد لما يفسدها، وردات أفعالها، وقرائتها الثاقبة لجديد الوحي، وتفننها الإعلامي في محاولة تشويه شخصية خصمها أمام ضيوفها، الذي سجله القرآن الكريم (شاعر، كذاب، كاهن، مجنون، كاتب أساطير)، وأقلمتها للصراع بعد أن أصبح الإسلام إقليمياً، بتحالفاتها مع العرب، ومحاولة تفريق دم الرسول صلى الله عليه وسلم بينهم، وعندما أحست أن البيت العتيق بعمارته وكسوته باقٍ في كنفها، لكن أهليتها الروحية والسياسية باتت على المحك، وأنها تموت موتاً بطيئاً، خرجت إلى الحرب.
ليست هذه عملية إلقاء أطواق نجاة لنظام سياسي أحاطت به الأزمات من كل جانب، ويتراجع في كل يوم إلى مواضع دفاعية جديدة، حتى باتت البلاد تشهد خطباً وتجمعات شيعية في الهواء الطلق تدعو إلى الانفصال تتفرج عليها الأجهزة الأمنية، وهو ما لا يمكن أن تتهاون إيران بمثله في الأحواز العربية المحتلة، فضلاً عن أن يحدّث أحوازي نفسه به، ولكن سيناريو انهيار الدولة، وشيوع الفوضى، وانفراط عقد المجتمع، كما في العراق، ليس خياراً بحال من الأحوال، ليس في السعودية فقط، ولكن الخسارة هنا مضاعفة: خسارة محلية، وخسارة مقدسات إسلامية.
إعتداء الشيعة على البقيع ليس شأناً محلياً سعودياً، ومن غير مصلحة السعودية أن يكون كذلك، إيران هي من يريده أن يكون ذلك، ليكون الجسد الذي تطعنه سعودياً وهابياً، وليس عربياً إسلامياً، هي جيشت القبائل، لكنها تريدها معركة مع قبيلة واحدة، تهجوها ولا يهجوها أحد، ولا يرى على نصل خنجرها غير دمها.
إخراج معركة المشاعر المقدسة من ثنائية "السعودية ـ إيران"إلى ثنائية "المسلمون ـ إيران"، يعني تعدد منصات الهجاء المضاد، وتنوع قافيته، وحيازة مفاتيح العقل العربي والمسلم المختلفة. إيران أخذت باستراتيجية تعدد المنصات، وأطلقت يد منظمات مجتمع مدني إسلامية وقومية عربية وغير عربية، أغدقت عليها بسخاء، وتوغلت في العقل العربي والمسلم.
المشروع الطائفي الإيراني مشروع عالي الأداء، متطور الخطاب، يمازج بين القومية والمذهبية بذكاء كبير، التعامل معه وتفكيك مركباته محله منظومات البحث والتخطيط (Think Tanks) وليس من اختصاص الصحفيين وقراء نشرات الأخبار، مع الاحتفاظ لأدوارهم.
تعامل الدولة السعودية مع اعتداء البقيع لم يحز على إعجاب الإنسان العربي والمسلم، قلقه هو أن تضيع المقدسات التي في عصمتها ثمناً لوهن سياسي يلم بها. إدارة المشاعر المقدسة هي مسؤولية الدولة السعودية، لكن إدارة معركة الدفاع عنها هي مسؤولية طرفي العقد.
المصدر: المصريون