مرح البقاعي
29-3-2014
"وصلنا إلى مرحلة قمنا فيها بنقل الدم بشكل مباشر من مريض إلى مريض، دون فحص لدم الشخص الذي تم سحبه منه، تجنبا للتخثر في غياب أكياس الدم اللازمة للحفظ، وذلك عن طريق إبر كبيرة (سرنغات) قياس 60".
هذا ما دوّنه مركز توثيق الانتهاكات في سوريا على لسان الناشط الإغاثي بشار (الممرض المسعف في مخيم اليرموك) مخيم الموت، حيث لم يبق سوى مشفى واحد قادر على استقبال المرضى والجرحى هو مشفى فلسطين، وفيه طبيب واحد هو طالب في كلية الطب لم ينه دراسته الجامعية بعد.
فقد قامت قوات النظام السوري بقصف مشافي ومستوصفات المخيم كافة، بينما تعرّض معظم الأطباء للاعتقال أو الاستهداف المباشر بسبب تقديمهم العلاج والرعاية الطبية للثوار ومقاتلي المعارضة.
"
حصار اليرموك هو حصار لمخيم للاجئين الفلسطينيين تعهّدت سوريا بحمايتهم ورعايتهم، وهي رعاية ملزمة تحت طائلة المسؤولية والعقوبات المترتبة بالقانون الدولي وضمن الأعراف الأممية
"
الحصار الذي أطبقه النظام السوري على مخيم اليرموك، بعد قصف مدنييه ومنشآته الحيوية بصواريخ مقاتلات الميغ، وإمطار أحيائه بالبراميل المتفجرة من طائراته العمودية، ومنع المواد الغذائية من الدخول إليه لعام كامل، يصل إلى موقع جرائم الحرب التي تقع بحق المدنيين الآمنين في مناطق سكناهم.
فكيف بنا إذا كنا نتحدّث عن مخيم للاجئين الفلسطينيين تعهّدت الحكومة السورية بحمايتهم ورعايتهم على أراضيها، وهذه الرعاية ملزمة تحت طائلة المسؤولية والعقوبات المترتبة في القانون الدولي وضمن أعراف وكالة غوث اللاجئين في الأمم المتحدة.
هدنة جنيف
منذ انعقاد مؤتمر جنيف الأول وصدور بيانه المتضمن بنودا ستة، في مقدّمتها بند يطالب النظام بفك الحصار عن المدنيين بشكل عاجل وفتح ممرات آمنة لإيصال المواد الإغاثية لهم، لم نجد ضغطا دوليا حقيقيا يمارَس على النظام من أجل تطبيق هذا البند الملحّ الذي يقع تحت عنوان مبدأ "مسؤولية حماية المدنيين" وهو المبدأ الدولي الذي أقرته الجمعية العامة للأمم المتحدة في العام 1995.
ولم يستطع سفراء مكلفون من الأمم المتحدة والجامعة العربية تنفيذ هذه المهمة التي بقيت حبرا على ورق، ابتداء بمبادرة كوفي أنان، ووصولا إلى جنيف2 مع الأخضر الإبراهيمي.
انعقد مؤتمر جنيف2، تحت ضغوط دولية عظمى مورست على المعارضة السورية من أجل حضوره، لاعتقادٍ من الولايات المتحدة، وعدد من الدول الأوروبية، بأنه في الإمكان دفع النظام لتنفيذ مقررات جنيف الأول التي لم يمتثل لها بعد أن وافق على مضامينها.
وكان في مقدمة البنود التي وضعتها المعارضة على الطاولة، مشروع عاجل لفتح ممر إنساني إلى مناطق تسيطر عليها قوات المعارضة في حمص، وسط توقعات للمراقبين أن يكون فتح ممرات المساعدات أحد أهم إنجازات جولات المفاوضات في جنيف2.
واقترح الإبراهيمي مشروع "الهدنة" الإنسانية من أجل الوصول إلى المحاصرين في مناطق النزاع في حمص القديمة، وتقديم ما يحتاجون له من غذاء ولباس وطبابة بعد أن مضى أكثر من عام على حصارهم وتجويعهم.
التقط النظام الفكرة بسرعة ورأى فيها منفذا دوليا له يستطيع من خلاله أن يتعامل مباشرة مع الأمم المتحدة لتطبيق نموذج للهدنة في حمص، وعزل المعارضة عن الاتفاق الجانبي الذي أجراه مع الأونروا.
فصّل النظام الاتفاق على مقاسه وتلبية لأغراضه، بمعنى أنه كان يُخرِج المحاصرين من مواقع حصارهم ليزجّهم في معتقلات للتحقيق معهم، ولم يوصل المعونات الغذائية والطبية إلى داخل النقاط الساخنة كما وعد، بل كان اصطفائيا في توصيل المعونات، بل قام بإطلاق النار بشكل متقطع حين خروج المحاصرين لإرهابهم وإبعاد موظفي الأمم المتحدة عن المشهد فيتمكّن، منفردا، من أن يعيث فسادا ويستقوي على المدنيين الذين لا حول لهم ولا قوة.
"
نظام الأسد "راعي المقاومة والمقاومين" يحظر على الفلسطيني حمل أي نوع من أنواع الأسلحة الفردية على الأراضي السورية، حتى سكّين المطبخ محددة بقياس معيّن بحيث لا تتحول إلى سلاح بيده!
"
وهكذا أراد النظام أن يقصي قرار المعارضة في العملية الإغاثية المرافقة للهدن وأن يتفرّد بالعمل حسب ما تقتضيه حاجته الأمنية، وقياسا إلى مصالحه السياسية، في كل منطقة على حدة.
اليرموك بين فكي كماشة
تحت سطوة هذا الفرز الانتقامي جاء فك الحصار عن مخيم اليرموك ليسجل كاستمرار لمشروع "الهدن" المناطقية التي يديرها النظام ومليشياته بشكل انتقائي عنصري، مرفوقا بالعنف والتنكيل بمن يخرجون من حصارهم، وزج معظمهم مباشرة في معتقلات للتحقيق معهم في ظروف مذلّة لا تمت لحقوق الإنسان بعامة، وحقوق المدنيين في حالة الحروب، بصلة.
وقامت قوات النظام مدعومة من مليشيات فلسطينية للقيادة العامة وفتح الانتفاضة، بمقايضة جوع ومرض المدنيين المحاصرين بحالة أمن مؤقتة، تمكن النظام خلالها من إعادة نشر قواته في المناطق التي كانت خارج سيطرته قبل الهدنة، ونقض شروط الهدنة بمنع إيصال المواد الغذائية والطبية للمحاصرين في المخيم، واعتقال العشرات منهم أثناء خروجهم، وإطلاق يد المليشيات الفلسطينية المسلّحة من أزلامه لينتشروا بين المدنيين ممن بقوا في المخيم إثر موجات النزوح المتكرّر منذ اندلاع المعارك في محيط مدينة دمشق وريفها، مدجِّجا أفراد تلك المليشيات بالسلاح الثقيل بصورة استثنائية أدهشت المراقبين!
فهذا النظام "راعي المقاومة والمقاومين" يحظر على الفلسطيني حمل أي نوع من أنواع الأسلحة الفردية على الأراضي السورية بشكل قاطع ومانع، حتى أن سكّين المطبخ كانت مفروضة عليه بقياس معيّن بحيث لا تتحول إلى سلاح بيده!
تركة الأب الضليل
هذا النهج الانتهازي العنصري ليس وليد منظومات بشار الأسد الأمنية وحسب، بل هو إرث ثقيل من عرّاب القتل على الهوية وراعي سلسلة العقوبات الجماعية، حافظ الأسد.
فحصار مخيم اليرموك اليوم هو إعادة كتابة تاريخ حصار مخيم تل الزعتر في بيروت حين كانت قوات الردع السورية تسيطر على لبنان بشقّيه: الرسمي الحكومي والمليشيوي الحزبي.
ففي أواخر شهر يونيو/حزيران للعام 1976، ضرب الجيش النظامي السوري (الردع)، إلى جانب المليشيات المتطرفة من الأحزاب المسيحية الموالية له في ذلك الوقت، حصارا مرعبا على مخيم تل الزعتر الفلسطيني.
دام الحصار ما ينيف على شهرين من عمليات التنكيل والعقاب الجماعي في حق سكان المخيم الذي كان يقطنه عشرون ألف فلسطيني و15 ألف لبناني، تمّ خلالها قطع الماء والكهرباء ومنع الطعام لفترات طويلة، وتعرض خلالها الأهالي لقصف عنيف سقطت جراءه أكثر من 5500 قذيفة على رؤوس المدنيين، ومنع الصليب الأحمر منعا باتا من دخوله.
وفي ليل 14 أغسطس/آب 1976 اقتحمت المليشيات الموالية لحافظ الأسد المخيم الذي أنهكه الجوع والرعب والقصف المركّز، ونفّذت مذبحة مروّعة فيه راح ضحيتها أكثر من ثلاثة آلاف فلسطيني سقطوا شهداء عمليات قتل انتقامية ممنهجة.
"
في 1976 اقتحمت المليشيات الموالية لحافظ الأسد مخيم تل الزعتر الذي أنهكه الجوع والرعب والقصف المركّز، ونفّذت مذبحة مروّعة فيه راح ضحيتها أكثر من ثلاثة آلاف فلسطيني سقطوا شهداء عمليات قتل انتقامية ممنهجة
"
ومارس مسلحو تلك المليشيات، تحت غطاء نظامي سوري، أشكال الترويع والجريمة كافة، من بقر لبطون الحوامل، وذبحٍ للأطفال والنساء والشيوخ إلى جانب الاعتداء الجنسي وهدم البيوت وسلب الأموال.
وسقط بنفس الدرجة من العنف مخيما جسر الباشا والكارانتينا، وساد جلال الموت وصمته على المدينة في ذلك اليوم قبل أن يفجع العالم في اليوم الثاني بصور المذبحة الصادمة التي تناقلها وسائل الإعلام العالمي على أنها جريمة حرب مكتملة وقعت على مشهد وبغطاء سياسي ولوجستي من حافظ الأسد الذي كان "يحتل" لبنان في ذلك الوقت.
هذا ووثّق المراقبون الدوليون، منهم المؤرخ، إسرائيل شاحاك، الذي عرف عنه نقده اللاذع لحكومة إسرائيل ما جعل المتشددين منها يتهمونه بـ "اللاسامية"، بأن المليشيات التي نفّذت مذبحة تل الزعتر خلال الحصار حظيت بدعم كامل من إسرائيل، وبغض الطرف من الولايات المتحدة الأميركية.
على حاجز الموت
في 3 مارس/آذار 2014، بثت قناة الجزيرة الفضائية في نشرتها الإخبارية الصباحية تقريرا إخباريا من مخيم اليرموك المحاصر لمشهد هو من أكثر المشاهد الصادمة على الشاشة: رجل مسنّ يقف حسيرا على حاجز نظامي مستنجدا بإسرائيل من رمضاء الأسد، ويقول بصوت راجف "مريض لازمني دوا.. خدونا لعند اليهود"!
الابن الضال في سوريا يعيد سيرة أبيه الضلّيل.. هذا ما يقوله درس التاريخ، إلا أن للمستقبل قولا آخر وحده الشعب السوري العظيم، منزّها عن نزعات العنف والتطرّف والغلو يملك مفردات خلطة إكسيره السريّة.
المصدر : الجزيرة نت