1438-2-2
2016-11-2
مصطفى فحص
تتصرف إيران كأنها استثناء، تتسلح بماضيها العتيق المليء برغبات إمبراطورية باتت مصدر المآسي للشعوب المجاورة لها، فرغبة إيران بالخروج السريع من عزلتها، ولجوئها إلى خيار التوسع بدل الانفتاح وعدم الاكتفاء بالدور الإيجابي، والاندفاع نحو تحقيق النفوذ السلبي، تحول إلى تهديد للهويات الحضارية الأخرى، المقيمة منذ آلاف السنين في حيز جغرافيا معقد إثني ً ا وديموغرافيا، شكلت خصوصياته الثقافية والدينية عائق ً ا تاريخيا بوجه عقيدة التمدد الفارسية ثم الإيرانية، فقد سيطرت هذه الخصوصيات على الحيز الأكبر من الذاكرة الإيرانية الورمة، المسكونة بهواجس القلق من محيطها، الذي تتهمه دائما بمحاولة إقصائها، معتمدا على معضلتها الأبدية بأنها أقلية فارسية شيعية وسط أغلبية مطلقة من القبائل الهند أوروبية والشعوب العربية والتركية السنية، التي نجحت في التعامل مع التحولات السياسية والعقائدية، وعملت تدريجيا على تعزيز هويتها القومية، مع الحفاظ على خصوصيتها المذهبية الجامعة في إطار الدولة الوطنية الحديثة، التي مرت كغيرها من دول العالم الثالث بإخفاقات ونجاحات، لكنها بقيت أقل توترا في تشكيل هويتها الوطنية من إيران القلقة دائما على ماضيها وحاضرها ومستقبلها. وفي مخالفة لثوابت السياسة والجغرافيا في الشرق الأوسط الكبير، لم يخطر ببال أحد أن تتحول إيران في السنوات الأخيرة إلى لاعب صعب ومقلق، ففي لحظة استشعار بالغلبة أو القدرة على فرضها بهدف إخضاع الشعوب المجاورة لها، راهنت طهران في توسعها على منهجية طبقها وزراء السلاجقة، قائمة على أن القوة تهزم الكثرة، إما بإخضاعها أو بتشتيتها. وتحاول الآن تطبيقها في أكثر من مدينة عربية تاريخية، فهي تهيمن على بغداد وتحاول بشتى السبل وضع يدها على النجف، وتشارك في تحويل الموصل إلى حطام، فثاني أكبر المدن العراقية بعد العاصمة تدمر، وأهلها يواجهون عملية ترحيل جماعي تهدف إلى تغيير جذري في تركيبتها السكانية، مصيرها لن يكون مختلفا عن مصير حواضر عربية أخرى، كحمص التي حولها الأسد بدعم من إيران إلى ركام، ونفذ فيها عملية تطهير عرقي ومذهبي، وأما حلب أقدم مدن التاريخ، فتواجه مصيرا أسوأ من مصير حمص، حيث يواصل الطيران الروسي والمدفعية الإيرانية تسوية أبنيتها بالأرض في عملية مدروسة تهدف إلى طمس تاريخها وتهجير أهلها، وهي عملية استهداف واضحة للديموغرافيا العربية وتحويل الأغلبية العربية السنية إلى أقلية، وما يجري لأشهر الحواضر العربية في الشام وبلاد ما بين النهرين وصولاً إلى دمشق التي يتم إفراغها ففي سفر الغلبة الإيرانية، يحاول نظام طهران تقديم بلاده كأنها الأمة الوحيدة في هذا الشرق، القادرة على استيعاب التعددية وحمايتها والحفاظ على الأقليات، مستعينة بمحطة من تاريخ فارس عندما احتل الملك الفارسي قورش بابل سنة 538 ق.م وأعطى اليهود الإذن بالعودة إلى أورشليم، وسمح لهم بإعادة بناء الهيكل، وكان الهدف من ذلك إعطاءهم حكم ً ا ذاتيا يخفف من الأعباء على الإمبراطورية، وأملاً في أن تباركه آلهتهم وتعزز سلطانه، وهو النموذج الذي يحاول نظام طهران الاستعانة به من أجل الترويج لحلف الأقليات، الذي يوفر لها جغرافيا سياسية مفيدة ضمن خطة استراتيجية تقوم على تحقيق ربط ديموغرافي متجانس ضمن مساحة آمنة متفاهمة عقائديا. اعتاد العالم على إمكانية احتواء ردات فعل الأقليات عندما تشعر بالقهر أو بالتهديد، لكنه لم يحدث أن واجه انفعالات أغلبية باتت تشعر بتهديد وجودي، مما يضع كل الاحتمالات مفتوحة على عنف أكثر ودمار أوسع، ومهما حاولت إيران، فإن غلبتها تبقى مستحيلة، وستواجه بنفس إرادة المقدسي الذي يقاوم وحيدا تهويد مدينته، فكما قال المفكر اللبناني د. رضوان السيد في مقاله «حلب.. يوم طويل في حياة قصيرة»: «كل هذه المدن غاصة بالغزاة الذين يريدون الحلول محل أهلها، الذين عاشوا فيها وعمروها وصنعوا حياتهم وهم يدافعون عنها ولا يقبلون موتها».
المصدر: الشرق الاوسط