الغدر بالصدر..لماذا؟!
الجمعة 21 من ربيع الأول1429هـ 28-3-2008م
عصام زيدان
Essam_zedan30@hotmail.com
المتتبع لمجريات الأحداث السياسية والعسكرية في العراق المحتل سيلحظ بالعين المجردة أن التيارات الشيعية وقفت منذ اللحظة الأولى لغزو بغداد تحت أقدام المحتل, بل ولا نبعد عن الصواب إذا ما قلنا أنهم هم من حمل الاحتلال على كتفيه ومكن له في بلاد الرافدين في تكرار مخجل لتاريخ صفوي مشين.
هذه الحقيقة شديدة المرارة لم نجد ما يخرجها عن عمومها إلا موقف التيار الصدري، الذي لم يبدِ ترحيبًا بالاحتلال, بل ودخل في أتون معركة حامية الوطيس مع القوات الأمريكية في النجف منذ سنوات خلت.
التيار الصدري, إذن, يقدم أنموذجًا شاذًا عن الأوساط الشيعية الأخرى؛ حيث بات يعتبره العديد من المراقبين للشأن العراقي أحد أهم الأطراف المؤثرة في المعادلة العراقية الحالية؛ بمعارضته الظاهرة للاحتلال وتمايزه النسبي عن بقية الطوائف الشيعية في هذا الصدد، وإن كانت تجمعهم جميعًا العداوة والبغضاء والكراهية لأهل السنة ما دفع ميلشيات المهدي التابعة للصدر لارتكاب أسوأ مذابح طائفية شهدها العصر الحديث ضد أهل السنة في العراق .
ويقودنا الحديث عن التباين ما بين تيار الصدر والمرجعيات الشيعية الأخرى إلى التوقف عند نقطة مفصلية هامة, وهي علاقة تلك المرجعيات ورؤيتها لتيار الصدر, ومنها نزلف إلى الحديث عن حملة "صولة الفرسان" التي تقودها القوات العراقية بدعم أمريكي وبريطاني ضد ميلشيا جيش المهدي.
ثمة حقيقة لا يخطئها متابع تفصح عن نفسها ببلاغة فائقة وهي أن التنافس بين الطوائف الشيعية المختلفة في جانب وبين التيار الصدري في جانب آخر على النفوذ في الجنوب العراقي بلغ أوجه, وأن ثمة تواطؤ بين مختلف القوى الشيعية، خاصة من حزب الدعوة الذي ينتمي إليه رئيس الوزراء نوري المالكي، والمجلس الأعلى الإسلامي بالعراق، ومنظمة بدر التابعة له وعلى رأسها عبد العزيز الحكيم، على لجم طموح الصدر السياسي والديني، ونزع أنيابه من الجنوب الغني بالنفط والثروة, ولو على جثة ميليشيا جيش المهدي.
فقد تغاضت تلك الطوائف جميعها منذ سنوات عن معركة ضروس بين الصدر وقوات الاحتلال في النجف, ووقفت جامدة حيث لم تبقِ قوات الاحتلال رمزًا دينيًا شيعيًا إلا دنسته حينها سواء ضريح الإمام علي أو مساجد المدينة المقدسة عند الشيعة، ولم يحرك 'الملالي' ولا 'الآيات' ولا القوى السياسية الشيعية في العراق ساكنًا ضد القوات الأمريكية، وبقي الصدر وجيشه وحيدًا معزولاً في المعركة تلاحقه الدعوات بألا ينهض من كبوته, وهو الأمر الذي يتكرر الآن في "صولة الفرسان" كما سنرى.
صولة الفرسان..لماذا؟
في ضوء المعطيات السابقة يمكن الولوج إلى دهاليز العملية العسكرية التي تشنها قوات الأمن العراقية، بإشراف رئيس الوزراء نوري المالكي شخصيًا ضد ميليشيا جيش المهدي, بعد أيام قليلة من الذكرى السنوية الخامسة للاحتلال الأمريكي للعراق.
ويطرح السؤال نفسه: لماذا هذه المواجهة العنيفة مع تيار الصدر؟! وهل يعتقد المالكي أنه بمثل تلك العمليات سيحقق ما فشل فيه الأمريكيون من قبل؟!
بداية وضع المالكي هدفًا لهذه العملية المسماة "صولة الفرسان"، هو القضاء على من وصفهم بالمجرمين والمهربين في البصرة جنوب البلاد, لكن من البديهيات الواضحة أن الهدف هو القضاء على ميليشيا جيش المهدي، التي ظلت شوكة قوية، رغم أن الصدر أعلن قبل ما يزيد على العام وقفًا لإطلاق النار, وتجميد نشاطات الميليشيا ضد الاحتلال.
اعتقاد سائد بين أنصار التيار الصدري يرجح أن حكومة المالكي تحاول التخلص منهم قبل الانتخابات المقرر إجراؤها جنوب العراق في وقت لاحق من العام الحالي, وهذا المنحى أيده المتحدث باسم جيش الاحتلال الأمريكي، الجنرال كيفين بيرجنر، في تصريح للفرنس برس(27/3)، قال فيه "نتطلع إلى إجراء انتخابات بعد هذه العملية، والحكومة العراقية تصعّد إجراءاتها الأمنية الضرورية التي تعتبرها ضرورية لإنجاز هذه الانتخابات".
فترك الصدر وشأنه ربما تكون إستراتيجية لا تقل خطورة عن قتاله, في رؤية المحتل وحكومة المالكي؛ لذا قررت هذه الأخيرة تحجيم دور الصدر واستنزاف قوة جيش المهدي, من خلال المواجهات العسكرية, معولة على صمت المرجعيات الشيعية التي تركت الصدر مكشوفًا في ساحة المواجهة.
فما يعتمل بالبصرة ليس سوى صراع بين المصالح والنفوذ السياسي والاقتصادي وزعامة البيت الشيعي, بين طائفة مدعومة أمريكيًا وإيرانيًا، وأخرى فاقدة لهذا الدعم.. فحيث ينتشر نفوذ الصدر في وزارات حكومية مهمة، ويتسع في بغداد وتسع محافظات في جنوب العراق، يواجه هذا النفوذ بمعارضة تحالف حزب الدعوة والمجلس الأعلى الإسلامي ومنظمة بدر التابعة له.
"صولة الفرسان".. الدلالات والمآلات:
هناك عدة دلالات يمكن أن نخرج بها من استنطاق حملة "صولة الفرسان" لعل أبرزها:
1ـ تلك المواجهات برهنت بصورة جلية على مدى هشاشة المكاسب الأمنية لزيادة القوات الأمريكية العام الماضي؛ فقوات الأمن العرقية المدعومة أمريكيًا وبريطانيًا فشلت في مواجهة وطرد المليشيات الشيعية من مدينة البصرة، رغم إشادة الرئيس الأمريكي جورج بوش بعملياتهم العسكرية هناك، ووصفها بأنها دليل على القوة المتزايدة للحكومة الفدرالية العراقية!!
2ـ تلك المواجهات زادت القناعة بفشل عملية التدريب التي قام بها الاحتلال لتجهيز القوات العراقية, فعلى الرغم من تسلحها وتدريبها المتطور الذي من المفترض أن يمكنها من السيطرة على المدينة، بدلاً من ذلك أحكمت المليشيات الشيعية وعلى رأسها جيش المهدي الموالي لمقتدى الصدر سيطرتها على الشوارع، وأثبتت قدرتها على مواجهة الجيش والشرطة المخترقين بعناصر تابعة لتلك الميلشيا.
وبالنظر للمآلات يمكن التوقف عند أمور عدة:
1ـ الأمور يمكن أن تخرج عن السيطرة وتتحول إلى كابوس للقوات البريطانية هناك, وكما قالت تايمز البريطانية (28/3) فإن القتال المحتدم في شوارع البصرة، ثاني أكبر مدن العراق، هو خير دليل على أن الأمر سيتحول إلى مأزق بالغ الصعوبة للقوات البريطانية المتمركزة في الجوار... فإذا طُلب من القوات البريطانية التدخل في حالة فشل الهجوم العراقي، فإن أي أمل في سحب 15 ألف جندي بريطاني إضافي هذا الربيع كما وعد جوردون براون العام الماضي سيكون مآله التأجيل إلى أن يستقر الوضع في البصرة, وقد يستلزم تعزيز القوة البريطانية الموجودة بقوات مقاتلة إضافية؛ الأمر الذي يمكن أن لا تتحمله وزارة الدفاع وهي تستعد لموسم القتال في أفغانستان.
2ـ بريطانيا منذ أشهر كانت تخفّض وجودها بهدوء في العراق؛ تمهيدًا لانسحاب كامل من الجبهة، والتركيز على تدريب العراقيين وتقديم الدعم عند الحاجة, ولم يعد أمامها كما تقول التايمز, إلا أن تعترف في النهاية بأنها خسرت المعركة في جنوب العرق؛ وهذا يعني انسحابًا مذلاً، وتسليم زمام البصرة للأمريكيين الذين سيتولون المسؤولية على مضض.
3ـ احتمال تعليق انسحاب القوات الأمريكية من العراق هذا الصيف؛ بسبب مخاوف من عودة البلد إلى مستويات العنف التي شهدها العام الماضي.. فمن المقرر أن يتخذ بوش قرارًا بشأن المزيد من الانسحاب للقوات الأمريكية البالغ عددها 154 ألفًا، بعد التحدث الشهر القادم إلى قائد القوات الأمريكية الجنرال ديفد بتراوس، والسفير الأمريكي في العراق رايان كروكر, حيث يريد بتراوس وقادة آخرون إبقاء المستوى عند نحو 140 ألفًا في حالة "توقف مؤقت" لتقييم أثر ذلك على الأمن قبل الأمر بمزيد من الانسحابات.
4ـ المعركة يمكن أن تكون مقدمة لمرحلة جديدة خطيرة في الحرب الأهلية المتعددة الأطراف في العراق تجر القوات الأمريكية، وما بقي من القوات البريطانية، إلى صراع على السلطة داخل الطوائف الشيعية المختلفة.
ثمة توقعات عديدة مطروحة على بساط بحث عن مستقبل تيار الصدر, وعلاقته ببقية الطوائف الشيعة, ولكن الذي لا شك فيه أن المالكي ذهب بـ"صولة الفرسان" معتمدًا على فهمه لأبعاد لعبة الموت التي باتت الورقة الوحيدة في معترك التفاعلات السياسية العراقية.