الحركات المهدوية.. نتاج احتلال بغيض وطائفية متخلفة
بقلم: هارون محمد
أنتجت مرحلة احتلال العراق عقب التاسع من نيسان (ابريل) 2003 وما تبعها من خراب بنيوي وقيمي شمل الميادين العراقية كافة، سلسلة من الحالات الانحطاطية أحيت عادات متخلفة اندثرت، وتقاليد خرافية سقطت، بفعل الوعي السياسي والثقافي والاجتماعي الذي رافق نشوء ونمو الدولة العراقية الحديثة منذ عشرينات القرن الماضي، والتحولات الكبرى التي طرأت علي المجتمع العراقي في مختلف الصعد، وظهور طبقة وسطي ضمت أعداداً هائلة من الموظفين والمعلمين والأطباء والمهندسين وأخري عمالية، لعبتا أدوارا بارزة في التنمية الاقتصادية والصناعية، وأسهمتا بفعالية في الحراك السياسي وأنشطة الأحزاب الوطنية والقومية واليسارية، أضفتا علي الحياة العراقية حيوية بالغة، تميزت بطابع تقدمي رفض كل أشكال التخلف والطائفية والعنصرية، رغم التنافسات والاحترابات والصراعات التي قامت بينها في إطار سياسي بحت.
ولعل ابرز مظاهر الدولة العراقية الحديثة أو علي الأقل سماتها الواضحة، أنها اعتمدت العصرنة وصورا علمانية تزيد أو تنقص حسب طبيعة الحكام والمسؤولين فيها، وهذا سر نجاحها واستمرارها أكثر من ثمانين سنة متواصلة مع وجود تحديات داخلية وخارجية، وفترات قمع ودكتاتورية استهدفت نشطاء سياسيين وقيادات حزبية معارضة بعيدا عن انتماءاتهم الطائفية أو العرقية، وليس صحيحا أن حملات النظام السابق في محاربة أحزاب الدعوة والمجلس الأعلى ومنظمة العمل والجماعات التي تدور في فلكها، كانت بسبب شيعية قادتها وأعضائها، وإنما جاءت وهذه حقيقة أثبتتها الأحداث والوقائع، نتيجة الخطاب الطائفي الذي حملته تلك الأحزاب ونهجها التخريبي وارتباطاتها الخارجية بإيران، والأمر ذاته ينطبق علي الأحزاب الكردية، ليس لأنها كردية، بل لأنها انفصالية في أهدافها ومعادية للعراق الواحد الموحد منذ ولادتها، إضافة إلى تحولها إلى أدوات بيد الدول والدوائر الأجنبية، ومن تابع مسيرة العراق لابد وانه لم يلحظ أن ثمة خلافات طائفية أو عنصرية قد نشأت بين ياسين الهاشمي ومحمد رضا الشبيبي، أو بين توفيق السويدي وجعفر أبو التمن، وبين رشيد عالي الكيلاني وصالح جبر، أو بين نوري السعيد وفاضل الجمالي، وجميل المدفعي واحمد مختار بابان، أو بين صديق شنشل وعبد الوهاب مرجان، والحالة نفسها سادت في العهد الجمهوري الذي شهد انقلابات متتالية وحركات عديدة، كلها ذات دوافع سياسية ورغبات سلطوية، بدليل أنها كانت بين قيادات تنحدر من أصول ومناطق واحدة (سنية عربية) لو كانت للطائفية اهتمامات لديها، لتوحدت وتضامنت في ما بينها.
وقد أفرز الاحتلال الأمريكي للعراق نتائج وآثارا خطيرة تجاوزت إسقاط سلطة حزب البعث ونظام الرئيس صدام حسين، إلى تقسيم العراق إلى مكونات، وجزأت المكونات إلى فئات وقطاعات وطوائف وخانات، وكان واضحا أن أحزابا شيعية طائفية المنطلقات وأخري كردية انفصالية التوجهات، انخرطت في المشروع الأمريكي الرامي إلى إضعاف العراق وتحويله إلى فدراليات وأقاليم تتحفز كل منها بالأخرى، مع الاستمرار في سياسات التصدي للرموز والشخصيات والهيئات السنية العربية التي ناهضت الاحتلال ورفضت التعاون معه، مما فاقم في تدهور الأوضاع وانتشار الفوضى، ودخول البلاد في أتون مواجهات طائفية وعرقية شهدتها المحافظات والمناطق المختلطة اجتماعيا، ثم امتدت تلك المواجهات وفق مخطط أمريكي مرسوم بدقة إلى الاقتتال بين الطائفة الواحدة وبين سكان المنطقة الواحدة، من تداعياتها السافرة ما حصل في العام الماضي في قرية الزركة بالنجف وكربلاء في الزيارة الشعبانية قبل شهور قليلة، والأسبوع الماضي في محافظتي البصرة والناصرية.
والغريب في مسألة أحداث البصرة والناصرية الأخيرة أن أحزاب السلطة وهي شيعية اثنا عشرية، تؤمن بإمام غائب له أكثر من اسم في أدبياتها كالقائم والمعصوم والمنتظر وصاحب العصر والزمان رغم أن اسم المهدي هو الطاغي وينسب إلى الحسن العسكري المدفون في سامراء، ومقتنعة انه سيظهر في وقت ما لينشر العدل ويقضي علي الظلم في العالم، استخدمت القوة المفرطة ضد جماعة وصفت بأنها مهدوية، تري ما تراه أحزاب الدعوة والمجلس الأعلى والمرجعيات الشيعية في النجف وكربلاء والكاظمية، مع اختلاف بسيط يتمثل في أن الحركة المهدوية تتوقع ظهور المهدي في منظور قريب نظرا لاتساع الجور والفساد والانتهاكات في العراق في رأي قادتها، بينما يعتقد رؤساء أحزاب السلطة أن ظهور المهدي بعيد ما دام الشيعة في سدة الحكم وحصلوا خلال سنوات الاحتلال علي امتيازات واسعة، والمهدي كما تقول المرويات الشيعية يظهر ويعلن دولته العادلة عندما يشتد اضطهاد الشيعة من قبل أعدائهم، وفي مساء الاثنين الماضي ظهر ملا معمم من جماعة حزب الدعوة علي شاشة قناة طائفية شيعية وقال بالنص أن المهدي يظهر أولاً في مكة ومنها ينطلق إلى المدينة المنورة ويسيطر علي الجزيرة العربية والخليج ـ بدون عربي طبعا ـ ثم يركب السحاب ويحط في كربلاء ويبدأ في تصفية (النواصب) في العراق وبلاد الشام، والمقصود بالنواصب في التراث الشيعي الإمامي ، السنة العرب المتهمين بأنهم امتداد للدولتين العربيتين الإسلاميتين، الأموية والعباسية، ثم يخضع تركيا والدول والبلدان الأخرى لسيطرته، مؤكدا أن إيران ستلتحق بدولته اتوماتيكيا لأنها جزء من أمته.
والأكثر غرابة في بيانات أحزاب السلطة الشيعية، أنها شنت حملة شعواء علي زعيم الجماعة المهدوية ويدعي احمد حسن اليماني، ووصفته بالضال والمنحرف أول الأمر قبل أن يطلع مسؤول في وزارة الداخلية ويقول انه اسم موهوم، لان اليماني علي حد اعتراف عدد من أنصاره المعتقلين أعلن نفسه سفيرا للإمام المهدي ونائبا له، وسرد علي مريديه الخلص أسراراً عن لقاءاته بالمنتظر وكيفية تلقي التوجيهات منه، مع أن تلك الأحزاب تعترف بوجود عدد من السفراء وتحتفي بذكري ولاداتهم ووفياتهم مثل الأئمة الاثني عشرة ومثلهم ملحقين بهم يوصفون بأنهم من أتباع البيت العلوي، وابرز أولئك السفراء أربعة هم عثمان بن سعيد العمري وولده محمد، وحسين بن روح وعلي السمري أو السيمري، امتدت سفارتهم للإمام المهدي أكثر من سبعين سنة هي فترة الغيبة الصغرى كما تسمي في التراث الشيعي، كانوا خلالها يتصلون بالإمام الغائب ويلتقون به ويسمعون إرشاداته ويجمعون زكاة الخمس باسمه، دون ذكر أين وكيف ومتى حصلت اجتماعاتهم به؟ فمثل هذه الأسئلة حرام في العادات الشيعية.
وإذا كان اليماني ـ كما ذكرت أخبار البصرة والناصرية ـ قد شدد علي أصحابه بضرورة تهيئة الأجواء لظهور المهدي والاشتباك مع قوات الحكومة (الغاشمة) فان التاريخ الشيعي الاثني عشري يحفل بأعداد من فقهاء الطائفة وشيوخها في مراحل قديمة وسابقة قد أعلنوا أو نشروا معلومات عن قرب ظهور المهدي ودعوا أتباع آل البيت إلى الاستعداد لاستقباله، دون أن توجه إليهم شتائم واتهامات لبطلان ادعاءاتهم علي عكس اليماني، وهو ما جعل رجل دين شيعي هو إياد جمال الدين النائب علي قائمة إياد علاوي إلى التصريح بان اتهامات الحكومة لليماني وجماعته باطلة لان الحكومة ليست مؤسسة دينية أو مرجعية شيعية، ولا يحق لها اتهام الجماعات المهدوية بالفئة الضالة أو الباغية، ولعل ابرز فقهاء الشيعة الذين جاهروا بظهور المهدي وحددوا تاريخ خروجه هو الفقيه الشيعي المشهور ابن طاوس الذي عاش في زمن آخر الخلفاء العباسيين المستعصم بالله وعاصر هولاكو الغازي ودعا له علي احتلاله وتدميره لسيدة المدن بغداد، ففي رسالة إلى ابنه يقول فيها: انه توصل من خلال الحسابات الفلكية والتنجيم إلى أن هذا أوان ظهور المهدي ويحدد العام 649 هجري موعدا للظهور، ومما قاله في رسالته: إنني أدرك أيام ظهوره الكامل، وادخل تحت ظله الشامل، فهذا أوان ظهور تلك الشموس وزوال الضر والبؤس إن شاء الله، فان تمم الله لي ما أمله من هذه الآمال فقد كمل لي تحف الشرف والإقبال.. إلى آخر الرسالة المنشورة في كتابه (كشف المحجة لثمرة المهجة) ص161، وقد مر ذلك العام وبعده سبعة قرون ونصف، دون أن يظهر الإمام، ودون أن نقرأ أيضا كلاما أو حديثا من أعيان الشيعة ينتقد ابن طاوس أو يفند أكاذيبه، بينما تعرض اليماني المسكين إلى أبشع أنواع الشتم والسخرية.
ولان نظرية المهدي وظهوره ركن أساس في عقيدة الشيعة الإمامية، ونظرا للفوضى الضاربة في العراق منذ الاحتلال وتسيد الملالي الجهلة والمعممين الأميين الذين ينشرون الخزعبلات والخرافات في الحسينيات ومجالس العزاء، فان السنوات الأربع المنصرمة شهدت ظهور ثلاثة أدعياء للمهدي أعلن عنهم رسميا وإعلاميا، أولهم معلم في احدي قري الخالص الشيعية افتتح مريدوه موقعا علي شبكة الانترنيت وراحوا يعرضون فيه فتاويه وخوارقه وكراماته، وآخر المعلومات انه لقي حتفه علي أيدي جماعة سلفية تنشط في محافظة ديالي، والثاني هو ضياء الكرعاوي زعيم جند السماء الذي قتل في العام الماضي في قرية (الزركة) التابعة للنجف مع المئات من أصحابه، والثالث احمد حسن اليماني قائد الحركة المهدوية في البصرة والناصرية الذي يشيع مريدوه بعد اندحارهم من قبل قوات الحكومة انه غاب مؤقتا وسيعود قريبا، وبالتأكيد فان الفراغ الثقافي الذي يعيشه العراق منذ الاحتلال وخصوصا في المحافظات الجنوبية، واغتيال الأساتذة الجامعيين والعلماء والأطباء والأكاديميين وهجرة المثقفين والمبدعين والفنانين والأدباء والشعراء، وشيوع الفساد والإفساد وهيمنة الملالي وقراء التعازي الحسينية، هي عوامل تساعد علي نسج وترويج قصص وحكايات خيالية مبالغ بها، وخطورتها تكمن في تشجيع وزراء ومسؤولين حكوميين لمثل هكذا حالات تعتمد علي البكائيات واللطميات تحت عناوين مفتعلة كمقتل الحسين في كربلاء، مع إطلاق سيل من التهجمات علي خلفاء الرسول وأزواجه وخلفاء الأمويين والعباسيين وكل من هو خارج الطائفة الشيعية الإمامية، الأمر الذي يتيح لكثير من المعممين الشيعة التشبه بالمهدي والدعوة له، وهذا جزء من مشروع يشوه حضارة وادي الرافدين ويعطي انطباعات سيئة عن الشعب العراقي للحط من قيمه وتقاليده وأعرافه التي يسعي الشعوبيون والطائفيون ترسيخها وتكريسها عن العراق وأهله.
كاتب وصحافي عراقي مقيم في لندن