حوار عن معركة القرضاوي مع صديقي السلفي
عبد العزيز محمد قاسم
المصريون / لي صديق مفكر، محسوب على التيار الشرعي في السعودية، وقريب جدا إلى نفسي، ولطالما شاكسته في مسائل عدة بروح أخوية ودودة. وعندما أختلف معه أهاذره وأدعوه بالوهابي العتيق، ويدعوني بالصوفي المبتدع أو العصراني المميع، بيد أنها في جو أخوي خلاق. وجرت بيننا مراسلات حيال معركة الشيخ يوسف القرضاوي الأخيرة مع أخوتنا الشيعة، وعندما أبلغته بحيرتي عن سبب هذا التحول والانقلاب المفاجيء في موقف القرضاوي، وهو الرجل الذي تحمس للتقارب وبدأ مشروعها فعليا منذ أكثر من أربعة عقود، أجابني برؤيته للقضية برمتها، واستأذنته في نشرها كما وردتني لأنها إطلالة – بزعمي - للمعركة من وجهة نظر سلفية صرفة، تستحق قراءتها والتمعن فيها، بل وتحليلها ونقدها موافقة أو اعتراضا، وليس لي في هذه المقالة سوى هذه المقدمة لأنني سأترككم مع سطور صديقي السلفي الجميل، بحرفيتها كما جاءتني:
أخي عبد العزيز: معركة الشيخ القرضاوي -في تقديري- لم يكن ناتجةً عن مبادرةٍ قرضاوية، بل هي ثمرة خطأ استراتيجي كبيرٍ وقع فيه (الروافض)، حين أخطئوا حساباتهم، فبادروا بالهجوم الشخصي على الشيخ يوسف مخالفين بذلك منهجهم العام والفعَّال في تحييد أمثال الشيخ القرضاوي، وإبعاده عن ساحة الجدل حول أصول المذهب الشيعي عن طريق إغراقه في وهمٍ كبيرٍ اسمه (الاتحاد في وجه العدو المشترك)، ذلك الاتحاد الذي لا وجود له إلا على منصات المؤتمرات والمهرجانات الخطابية والمقالات الصحفية السطحية التي تخدم مآلاتها المذهب الشيعي وتهدم المذهب السني شعر أصحابها بذلك أو لم يشعروا.
ولتوضيح ذلك دعني أشرح وأقول :
إن المفاهيم الشرعية السنية السلفية تتميز بالوضوح وموافقة الفطر والعقول الصحيحة، علاوةً على استفاضة الدلالات المؤيدة لها من القرآن والسنة. فهذه المزية هي سر قوة المذهب السني طيلة القرون الماضية. ولأجل هذه المزية فإن أي نزالٍ فكري مباشر وعادل بين تلك المفاهيم وبين المفاهيم الشيعية الخرافية الغارقة في الأساطير والمضحكات، فإن النتيجة محسومة –سلفاً- لصالح المفاهيم السنية السلفية.
واعتبر ذلك بما يجري كل عامٍ في حوارات (قناة المستقلة) فالوجوه تتغير، لكن النتيجة واحدة: غلبة ساحقة للمذهب السني، وفضيحة مجلجلة للشيعة، حتى وصل الأمر لصدور فتاوى من مراجع كبار بتحريم مشاهدة القناة.
و لأجل ضعف بنيان المذهب الشيعي، فإن شيوخه دائماً لا يحبذون المواجهة العلنية والجدل العقدي مع من يعرف أصول المذهب الشيعي، ويفضلون بدلاً من ذلك تخدير أهل السنة و رموزهم بالمؤتمرات الخطابية والمناسبات الرسمية عن الوحدة الإسلامية ونبذ الطائفية والاتحاد في وجه العدو المشترك. وفي حين يغرق كثيرٌ من رموز السنة في تلك المفاهيم المخدرة ينشط الشيعة على الأرض في نشر التشيع عبر وسيلتين فعالتين: (المال), و (الدعم السياسي والعسكري والاستخباراتي الإيراني)، فحققوا بهاتين الوسيلتين نجاحاتٍ في مناطق مختلفة من بلاد المسلمين.
وقد كان أكبر إنجازٍ حققه الشيعة في خصومتهم مع أهل السنة، نجاحهم في ترسيخ فكرةٍ مخادعةٍ مضللةٍ في (الوعي السني)، خلاصتها أن (مناقشة المعتقد الشيعي تعني تأجيج الطائفية). فبعد أن كانت مواجهة الانحرافات العقدية و الفكرية من أهم واجبات علماء الشريعة، تمَّ استثناءُ الانحرافات الرافضية من هذا الأصل، فصار كثيرٌ من الرموز السنية يسيرون في اتجاه معاكس، وغدا همهم الأكبر المنع والتحذير من أي بحثٍ علني في المعتقدات الشيعية، حرصاً على وحدةٍ إسلاميةٍ لا وجودَ لها.
وحين سرت هذه القناعة لدى شريحةٍ واسعةٍ من الرموز العلمية التي من المفترض أن تكون واعيةً بخطر الانحراف العقدي، كان من الطبعي أن ينتقل الداء بصورة أوسع وأخطر للساحة الإعلامية.
فصحفنا اليوم –مثلاً- بات من المعتاد أن ترى فيها نقداً للسلفية أو الوهابية أو الصحوة، أو هجوماً على داعيةٍ أو عالمٍ سني. فكل هذا ينظر له على أنه نقدٌ بناء يهدف للتصحيح؛ فالتراث ليس معصوماً، ولا أحد فوق النقد الحر. لكن أي حديث عن المعتقد الشيعي ورموزه، فإنه يفسر مباشرةً بأنه (طائفية مقيتة)!! وقد رأينا في قصة الشيخ القرضاوي كيف حرصت جريدة الرياض على نشر الاعتذار العلني البارز بعد نشرها تصريحات الشيخ التي نقلتها وسائل الإعلام في كل مكانٍ، ولم تعتذر عن نشرها سوى صحيفة محلية سعودية!!
وأعجب من هذا أن قسماً متخصصاً مثل (قسم العقيدة) بجامعة الإمام محمد بن سعود بات من العسير أن يسجل فيه بحث علمي يتعلق بالمعتقد الشيعي، مع أن مثل هذا الموضوع يمكن أن يطرح في أي جامعة عالمية. و لو كان هذا الموقف ناشئاً من توجيه رسمي أو قرار سياسي لهان الأمر، لكنه في كثير من الأحيان يكون ناتجاً عن تلك القناعة التي تسربت لبعض العقول، حين صار البحث العقدي يعني دعوةً للطائفية و الاحتراب الداخلي.
والعجيب أن أصحاب هذه القناعة من أهل السنة يشتكون (سراً) من تمدد المذهب الشيعي مع تهافت بنيانه الفكري، لكن لا يسألون أنفسهم عن سبب هذا التمدد والانتشار. ولو راجعوا أنفسهم فسوف يدركون أن سر ذلك يرجع لذلك الموقف المتخاذل الذي نجح الشيعة في إقناعهم به. فالشيعة حين أقنعوا الرموز السنية بتحاشي البحث والنقد العقدي، فإنهم بذلك نجحوا في نزع وتنحية أمضى سلاح يملكه أهل السنة (سلاح الحجة والبرهان والفطرة والعقل)، فصار رموز أهل السنة يتحاشون الحديث عن (التشيع)، ويتشاغلون عوضاً عن ذلك بالحديث عن الوحدة واحترام المعتقدات (الانحرافات) الشيعية، في حين ينشط الشيعة على الأرض بمالهم وسياستهم في تشييع المناطق السنية.
وفي غفلة من أهل السنة، تم في العقدين الماضيين ابتلاع أربع عواصم سنية (بغداد، بيروت، دمشق، جزر القمر)، والعاصمة الرابعة في الطريق وهي (المنامة) في البحرين، والتي لم يبق أمام الشيعة وابتلاعها سوى أن يتحركوا. ولولا تعجل (الحوثي) في ثورته باليمن، لتحقق له تشييع صنعاء أيضاً. وكلما أحكم الشيعة قبضتهم على بلدٍ أو تمكنوا من اختراق منطقة سنية، استفاق نخبها ومثقفوها على واقعهم بعد فوات الأوان.
في ضوء هذا كله يمكن فهم موقف الشيخ القرضاوي، فهو من الشخصيات التي طالما تم تخديرها من قبل الشيعة منذ زمن، وقد أجهد نفسه كثيراً في الكتابة و الحديث والتعلق بسراب التقارب والتحذير من الطائفية.
لأجل هذا تعجَّب الناس من تصريحاته الأخيرة التي لا تتفق مع منهجه المعروف، وتساءل كثيرٌ منهم: ما الذي طرأ، وما الذي أصاب داعية التقارب؟
الجديد –يا أبا أسامة- هو أن النار وصلت إلى : (مصر).
و إذا كان المال اليوم هو الداعم الرئيس لنشر التشيع، فإن المال في مصر يصنع ما يعجز عن صنعه في أي بلد آخر ، فالعقول و الأقلام التي لم تحركها عنتريات نصر الله، حركتها الأموال الإيرانية المتدفقة.
والشيخ القرضاوي –غفر الله- استشعر هذا الخطر، حين زار مصر بعد حرب اليهود الأخيرة على لبنان، فرأى هناك ما صعقه من مظاهر رفضٍ لم يعهدها في مصر، حيث وصل الحال لدرجة شتم عائشة وعمر بن الخطاب في الصحافة المصرية وفي عناوين بارزة، وكانت سيارات الأجرة في الشوارع تحمل ملصقات لحزب الله، وصوراً لحسن نصر الله.
حينذاك تكلم الشيخ القرضاوي لإحدى الصحف المصرية معبراً عن معارضته لنشر التشيع في مصر السنية، بحجة أن ذلك سيؤدي لانقسام المجتمع المصري. وقد علق على كلامه آنذاك المرجع الشيعي محمد حسين فضل الله، لكن كان تعليقه هادئاً ودبلوماسيا. ومرت تصريحات الشيخ القرضاوي بهدوء ونسيها الناس، وعاد الشيعة لنشاطهم.
ثم بعد قرابة السنتين، وقبل بضعة أسابيع أجرت صحيفة مصرية مقابلة مع الشيخ، فكرر كلامه الأول، وانتقد نشاط الشيعة في مصر. و قد كان بالإمكان نسيان هذا التصريح ودفنه كما دفن التصريح الأول، لكن الخطأ هنا جاء من الشيعة، حين خرجوا عن استراتيجيتهم (وتقيتهم) و منهجهم المعروف في امتصاص مثل هذه المواقف، فجاء ردهم هذه المرة عنيفاً ومستفزاً.
بدأت وكالة (مهر) الإيرانية للأنباء، فهاجمت الشيخ و رمته بالعمالة للصهيونية والماسونية , وأن الوهابية اشتروا ذمته. ثم جاء تصريح آخر شديد من فضل الله، و ثالث من التسخيري.
وهنا تحولت المسألة عند القرضاوي إلى قضية شخصية، حين وجد نفسه مضطراً للدفاع عن نفسه، فأصدر بيانه المعروف، ثم تتابعت بعض المقالات في تأييده ، وأخرى في معارضته.
وأيا كان دافع القرضاوي، فإن تأييده في موقفه فرض متعين على أهل السنة، وبخاصةٍ من أولئك الذين يشاركونه في القناعات الحالمة، من مدمني (هيروين) التقارب و (بنج) تأجيل الخلافات. وقد اتصلت ببعضهم وطلبت منه مناصرة الشيخ، لكن لم أر ولم أكن أتوقع أن أرى لهم شيئاً، فالتعرض للشيعة مركبٌ صعبٌ بالنسبة للشخصيات الهاوية للموضات الفكرية العصرية، والحريصة على صورتها الإعلامية التي يجب أن تكون صورةً (متسامحة) بعيدة عن الجدل (الطائفي) الذي لا يليق بالمجددين ودعاة الانفتاح.
على أن موقف القرضاوي –وإن كان قوياً من جهة ثقل الشيخ الإعلامي-، إلا أنه ضعيف من جهة الحجة و البرهان. ذلك لأنه سبق أن أسقط سلاحه الأمضى حين التزم منذ زمن تجنب الجدل العقدي مع الشيعة.
فحجته التي يرفعها الآن هي: (لماذا ينشر الشيعة مذهبهم في مصر وهي بيئة سنية صرفة، قد يؤدي نشر التشيع فيها إلى انقسام المجتمع المصري). وقد قرأت له تصريحاً في كلمةٍ ألقاها بمؤتمر حوار المذاهب الإسلامية المنعقد بالدوحة مطلع (2007م)، فكان مما قاله: "لا يجوز أن يحاول مذهب نشر مذهبه في البلاد الخالصة للمذهب الآخر".
وكما ترى –أيها الفاضل- فهذا كلامٌ غريبٌ وحجةٌ ضعيفةٌ. فإذا كان الشيخ القرضاوي يتحاشى الجدل المذهبي، و يكره التشاغل بالرد على الشيعة، فإن الشيعي سوف يبقى معتقداً أن دينه حق وصواب وأنه هو الدين الحق، فبأي برهان أو حجة يمنعه القرضاوي من نشر دينه ومذهبه بطريقة سلمية. فليتشيع من يتشيع، وليتسنن من يتسنن، وليتعايش الجميع في (تبات ونبات ويخلفوا صبيان وبنات). فهذا هو المنهج الذي طالما رسمه الشيخ يوسف للأمة، فما باله اليوم يخالفه؟!
ثم إن مقتضى كلام الشيخ القرضاوي أنه لا يجوز لأحد الدعوة للسنة في إيران!!
وأن من مصلحة إيران أن تبقى شيعية رافضيةً!
وحسب هذا المنطق فإن بقاء أهل السنة هناك على مذهبهم خطر يهدد وحدة إيران!
وأن من الخير لإيران أن يتشيع من بقي فيها على المذهب السني!
ومن يحاول نشر السنة هناك، فهو داعيةٌ للفتنة والانقسام!!
فهل هذا كلامٌ مقبول؟
وبأي شيء سيجيب الشيخ –عافاه الله- لو حدثه الشيعة بهذا المنطق؟
هذا الموقف الضعيف الذي وقفه القرضاوي سببه ما شرحته في بداية كلامي، وهو (أن القرضاوي ألقى سلاحه الأمضى والأقوى: سلاح الحجة و البرهان). فهو فيما مضى كان يكره أن يقول: مذهب أهل السنة هو دين الإسلام، والتشيع مذهب منحرف يجب على أهله البحث عن الحق. هو لا يريد الحديث بهذه اللغة (القديمة!)، ولا يريد أن يشغل نفسه بإقامة الحجج والبراهين في إبطال المذهب الشيعي، لأن هذا (جدل مذهبي لا فائدة منه!).
و الآن حين ابتدأ بنقد الشيعة، رأيناه يتحدث عن مناطق نفوذ. فهو يريد أن يبقى الشيعة شيعة، والسنة سنة، من غير أن ينشط أحد من مناطق نفوذ الآخر. (وهذا مسلك لن يوافق عليه لا الشيعة و لا السنة).
لأجل هذا جاءت ردود الشيعة عليه منطقية متفقة مع الأصل الذي اشترك معهم في بنائه؛ ففضل الله يقول له : ما الذي يزعجك في أن يتشيع سني، أو يتسنن شيعي، وهم كلهم مسلمون؟! وهل هناك حجر على أحد أن يختار المذهب الذي يقتنع به؟
هنا عاد القرضاوي مضطراً للغة (القديمة!)، وأكد أن التشيع مذهب متبدع.
لكن طلابه وأصحابه الذين رباهم على تحاشي هذه اللغة (العتيقة!) بادروا بانتقاده، و وصفوا تصريحاته بأنها تؤجج الطائفية.
ومن يدري فقد نسمع من بعض أولئك الطلاب -بعد عقود أخرى من الاستغفال- هجوماً على الشيعة، لكن بعد فوات الأوان، وقد نرى حينها من طلابهم من يرد عليهم ويصف كلامهم بالطائفية و التعصب.... ويا ليل ما أطولك...